معاناة عامل السينما
أبحث عن عِبرة في كل شيء حولي. لا أجد. دفتر اليوميات رميته البارحة أو ظهر اليوم. لا أجد. رائحة
قارصة أعجز تمييزها. أعجزُ التحرّك. أحاول ثانيةً. أبقى على ظهري حتى تختفي
الرائحة وأعاود النوم. أجد الدفتر بالقرب منّي حين أستيقظ. لا أعثر عليه لمّا
أستيقظ. أستيقظ. لا تأتي العِبرة في كل شيء حولي. أكتب على شاشة التليفون.
يدفع طفل أبواب قاعة العرض، يندفع منها إلى الممر المؤدي لكل القاعات،
يُفرغ ما في بطنه - سكاكر وفشار ودهون وشيء أصفر يبدو أنه بقايا وجبة الصباح - على
البساط، تندفع ماماه من الباب وتعتذر لعامل السينما نيابة عن إبنها، إبنها يرتجف،
العامل يوصيها الإقتصاد في الإعتذار؛ الأمر طبيعي، عادي، مفهوم، ماما تبتسم
بارتباك، لم تفهم، عامل السينما لم يستفيض.
المشكلة أن الكلب في الخارج لا يبدو عليه الاهتمام. قطة سوداء بوشاح أبيض
تقفُ على عتبة النافذة قرب النبتة الحمراء والغسيل المنشور. أخالني أناديها لا
تستجيب. لأن في كل المرات التي أناديها حلم لا أقدر النطقَ فيه. مرات الواحد لازم
يحط رِجله على الوطاء أولا قبل التفكير في الرحيل. مرات الواحد لازم يحرّك راسه
أولا قبل أن يفكر به.
بابا يسأل وقبل أن يستوعب الولد السؤال يطلب بابا من عامل السينما أن يعطيه
عشرة جرامات سكاكر وكيس فشار حلو من الحجم الكبير. عامل السينما يسأل بابا لو يريد
الإرتقاء بطلبه إلى وجبة كومبو والحصول على هوت دوغ ومشروب غازي كبير فقط بإضافة ثمانية
جنيهات وتسعة وتسعين إلى السبعة وتسعة تسعين. يبتهج بابا ويسأل الولد ولم يعرف الولد
الإجابة فطلب بابا كومبوان إثنان. عامل سينما آخر يقف على بعد قدم ويخضع بدوره
لإتمام طلبية فيها ثلاثة كومبوات. يتخيّل عمالا آخرين فوق، في ممر القاعات، حيث
طفل يندفع من الباب ليفرغ ما في بطنه من كومبوات.
صالون قصر تطل نوافذه العريضة على برارٍ خضراء. مشهد في شارة بداية رسوم
متحركة. سماء صافية، مواش ترعى في منحدرات التلال. - لماذا أتخيل هذا، أو بالأحرى
لماذا أقدر تخيّل هذا فقط في المرض؟ لماذا أُلفة المدينة في الصحة؟ لماذا الليل في
المدينة والنهار في الريف؟ - مازلتُ أمعن النظر في النبتة الحمراء عند النافذة
والغسيل المنشور.
عند النافذة الكبيرة في آخر الممر، تحديدا قرب القاعات 8 و9 و10، النافذة
الكبيرة المطلة على الطريق السريع الذي يقسم غرب البلاد وشرقها ويصل جنوبها
بشمالها، حيث العربات بأحجامها المتفاوتة ومهامها وألوانها، تسير كلها في خطوط
كالنهر، يبدو كل شيء لوهلة في هذا الوقت، قرب الغروب وتراوح الأزرق والبرتقالي
وصوت مبرّد الممر، كلها معطيات لحظة أحفظها
تحت لساني.
تذكّر مرة أن له اسما. حين نطقه لمجرد استعادة شعور نُطقه غمره البُعد.
فكّر أن المسافات لا تبدو قصيرة إلاّ عند استدعاء صوت ما نسيناه، لكنّ ذكرى كهذه
أو صوت ليست سوى انسدال أوشحة أو عودٌ أبدي، لحظة لا تنتابه في دوائر الغَبرة
والليالي الزرقاء ونهارات العتمة، لكنها تحضر عند المرض، في ساعات الأرق المديد،
تحوّل وجوه أحباب يراهم لأحباب رآهم. حين تحدّثت ليلتها فنّصَ في ملامح وجهها
تتقاطع مع وجه المرحومة جدته. - لماذا تضحك؟ سألته، لا يتذكر ما قال.
عامل السينما عسّاس عند مدخل ممر القاعات. مهمته الحرص على إدخال باركودات
تذاكر الزبائن في المنظومة المجهّزة على شاشة آيباد، يُعيد على مسامعهم نفس
المعلومات المكتوبة على تذاكرهم. عليه أن يبتسم، أن يتمنى لهن قضاء وقت ممتع. وإن
علّق بأكثر من ذلك، لو قال شيئا أضحكَ الزبون مثلا أو جعله يُكثر من تشكّراته، فإن
الكاميرا في الزاوية أعلاهما ستلتقط ذلك. قال له المدير اليوم ستصير سوبرفايزر عمّا
قريب. عامل السينما في الفراش. أيام مرت منذ آخر دوام.
تعليقات