المقرفصون

 


لا أذكر تحديداً من رأيت أولاً: الفتاة على الدراجة أم الرجل الممتد على الأرض. لا أظن الأمر مهماً في كلتا الحالتين، ولن يؤثر في أحداث وسياق هذه القصة. الشيء الوحيد الذي لا شك فيه هو أنني رأيت الفتاة على الدراجة حين مرّت بمحاذاتي، ورجل الأرض ذاك رأيته حين كان أمامي على بعد أمتار قليلة. كان رأسه والجزء العلوي من جسمه على الطريق بينما كانت ساقاه على الرصيف.

كنت أمشي وأفكر في أشياء تخطر على بالي تحديداً في هذا اليوم ذاته من كل عام. أشياء لست فخوراً بها، كما سيخبرنا الشاب الأصلع بعد قليل، أشياء عن أمور بإمكاني القول – الآن تحديداً وأنا أحكي ما جرى – إنها تافهة، رغم أنها لم تكن كذلك حينها، ولن تكون كذلك بعد حين. أقصد، أشياء يخجل الشخص من التحدث عنها اليوم وفي هذه اللحظات بالذات، فيها حنين واغتراب وذكريات وانقشاعات وخرافات، وأتساءل مجدداً كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذا الكم من الخيال والهرطقة والخزعبلات؟ لا أدري حقيقة، قد يكون هذا أعمق وصف لهذه الحالة، والدواء هو الخروج للمشي.

حين وصلت الفتاة إلى رجل الأرض الممدود، خفّضت من سرعة دراجتها تدريجياً حتى توقفت بالقرب منه. كنا في حي الجامعات: شارع طويل يمتد من قلب المدينة حتى المطار في أقصى الجنوب. لم يكن الحي مزدحماً عشية ذلك اليوم، على الأرجح بسبب خلوّه من الطلاب. لكن ثمة حركة خفيفة من المشاة وراكبي الدراجات. وكانت معظم المحلات مغلقة.

تاريخ اليوم يضيف سحنة ملساء على الجو.

*  * *

«مرحباً، هل أنت بخير؟ هل بإمكاني مساعدتك؟».

أبعدت الفتاة دراجتها عن الطريق وأسندتها إلى الحائط بالقرب من باب المصرف المغلق، وكان هناك أيضاً مرتبة خمّنت أنها تعود للرجل الممدود. اقتربت من الرجل وجلست مقرفصة. ظلت عيناها تنظر إلى وجهه بينما تتحدث على التلفون. رأيتها تحرك فمها من وقت لآخر وراقبت تحولات ملامح وجهها وهي ساكتة تسمع ما يقوله الشخص على الجهة الأخرى من الخط. حين صرت على مسافة قريبة منهما، رفعت الفتاة رأسها وسألت إن كان عندي بعض الماء.

جلستُ مقرفصاً على طرف الرصيف حيث ساقا رجل الأرض. كان يهذي بكلام لم أفهمه، يفتح عينيه وينظر إلى السماء، يئنّ بصوت خفيض، ويحاول استجماع قواه ليخبرنا وصيّته أو نصيحة الوداع، أو لعلّه يطلب الماء. اقتربَت منه الفتاة مسافة أكبر وأشربَته من القنينة. رأيت ندبات حادة بارزة على وجهه، وكان ثمة اعوجاج في الجهة اليسرى من فمه تسرب منها الماء. لم يبدُ عليه المرض، لكن الإنهاك والتشرد صنعا طبقة غطت جلده.

سألتها إن كانت تعرف سبب فقدانه الوعي. قالت لا أدري. إلا أنها رأته هكذا حين مرت من هنا صباح اليوم أثناء ذهابها إلى العمل. وحين رأته مجدداً وهي في طريق عودتها، قالت مستحيل.

«كدت أدهس رأسك بدراجتي قبل قليل».

لم أستطع إبعاد التفكير في أبيها. أقصد، في فكرة أن هذا الرجل يذكّرها بأبيها، يُعيد إليها ذكريات ومشاهد ضبابية، لليالٍ اشتد فيها سُكْر الوالد حتى فقد وعيه هكذا كرجل الأرض الآن، لكن على أرض المطبخ. ربما اشمأزّت منه وكرهته، ولمّا كبِرت قليلاً تركت البيت لهذا السبب ولم تعد. إنّها حتى اليوم تكره الحديث عنه، لكنها اليوم في العمر الذي يتحول فيه البشر إلى كائنات متفهمة لطبيعة وظروف آبائهم. أكاد أسمعها تقول إنها لا تبرّر لأبيها ما فعله، لكنها تفهم ظروف حياته، فقط لأنها وصلت إلى العمر الذي يفهم فيه البشر أن أباءهم أيضاً كانوا أطفالاً كبرواً على حين غفلة. في صوتها نبرة حنونة. ودودة. تحاول فك رموز هذيان رجل الأرض عندما يحاول التفوُّه بشيء أثناء لحظات يقظته. أحياناً تدّعي أنها تساعده كي يشدّ من همة نفسه ويستعيد توازنه. لكن رجل الأرض يقاوم ليظل على الأرض، متمسكاً بفكرة البقاء حيثما هو. حاولت أن أساعدها، لكن رجل الأرض فتح عينيه على وسعهما ورفع يديه مشيراً إلينا نحن الاثنين بألا نقترب. ثم عاد ليمتد على الطريق.

«على أي حال، لقد اتصلت بالإسعاف. لا بد أنهم سيصلون عما قريب».

 

القصة الكاملة منشورة ضمن هامش1 العدد الأول من الملحق الثقافي لموقع الجمهورية (2020)،على هذا الرابط: المقرفصون


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

موت محمد

معمّر مات