ضُرس العَقل
ضرسي يؤلمني. أتحسّس
الفراغ فيه بلساني فتلسعني صعقة تئن في رأسي. أبعدُ لساني عنه وأحلف أن هذه كانت
أخر مرة ألمسه فيها. أنسى ذلك لمّا أتحدث مع زبون يسأل عن كتاب ما. أقبضُ يدي كي
لا ألكمه، وأفكر: القليل من الكلام، لا أكل على الاطلاق، حبّتي كودايين، جغمة ماء والكثير
من السوائل. أفعل ماستطعت منها وأنشغلُ في مهمة اليوم: إعداد قائمة كتب بميزانية
ألف دولار.
وصلت صبح اليوم شُحنة
كتب جديدة من شركة الاحتكار التي يُعتبر هذا المحل فرعًا في سلسلتها؛ تحتوي على مائة
نسخة عربية من كتاب كفاحي، ومائة أخرى لكتاب الأمير، والباقي نسخ عديدة ومتنوّعة
لكتب في التنميّة البشرية والروايات الأكثر مبيعًا.
كنّا في المخزن، أنا والعرفي
وعصام، نُشاهد ركام صناديق المالبورو الممتلئة
بالكتب. العرفي يخطو بحذاءه فوق الممر الاسفلتي، ملقيًا بين الحين والأخر نظرة
داخل الصناديق وهو يصرخ: خرا، خرا. و يشير لأكداس نسخ كتيّب يحتوي على رحلة مصطفى
محمود من الشك إلى الإيمان ويصيح: الا يكفي هذا؟
يخبره عصام أن لا مكان عندنا
لتخزينها. سكت للحظات وأضاف: أنا تعبت، واختفى في الممر اللولبي حتى سمعنا صوت
الباب يُغلق خلفه.
نظرَ لي العرفي نظرةً
ثاقبة وعزمني على سيجارة وبادر بالسؤال عن حال ضرسي الأن، وقبل أن أجيبه أفصح عن
مهمة مستعجلة عليّ تنفيذها اليوم مقابل تسريحي مبكرًا. يريد قائمة بعناوين كُتب أختارها
على مزاجي وأكون واثقًا منها. يريد كتبًا لا يتوقعها الزبون، كتب تعصُف بأفكاره وتنيكُه
في مخياله. فاهم عليّ يا محمد؟ فاهم عليك يا عرفي. وحتى قال لي أنه لا يمانع كتبًا
فيها شوية حركات، وغمز لي بين الشوية والحركات. وإن لم أفهم حقيقةً ما هية الحركات
هذي، إلاّ أنني وبينما كنتُ أتنقل بين الكاتولوجات وعروض الكتب الصادرة قبل 2009 لقيت
روايات وكتبًا لن يتوقعها الزبون، ومن الواضح أن فيها بعض الحركات، رغم أنها لا
تصل بعد إلى مستوى الشويّة، لو فاهم عليّ!
أول كتاب في القائمة
مذكرات أحمد المرزوقي في الزنزانة رقم عشرة. تذكرت المقطع الحاسم فيه حين يضطر
المؤلف لخلع ضرسه عن طريق ربطه بحبل مشدود بباب. أتذكر جيدًا نهاية تلك الفقرة حين
يختلط العرق بدموعه بالدم الذي يصبّ من فمه. دونت عنوان الكتاب.
ضرسي يؤلمني بينما أكتب
عناوين بميزانية ألف دولار. لو كنتُ في واقع أخر، أقصد لو كان فمي في ظرف أخر، لأستمتعت
بهذه المهمّة ولأعتبرتها من أنبل المهمات التي قمتُ بها في حياتي. لكنّي الأن
أفكّر جدّيًا في السير على خطى عصام. أن أقول بصوت هادئ وواثق أنني تعبت، وبعدها أختفي
في الممر اللولبي، هكذا، لا أعود. قد أطرقُ زبونًا بلكمة تفقده خياله وأنا في
الطريق للخروج، وقد لا أفعل، قد ألكمُ العرفي، وحين أفكر لماذا أجد أن لكم الزبون
يبدو منطقيًا أكثر، خاصةً حين أرفعُ رأسي قليلاً وأراقب المتواجدين حولي. في المحل
الأن تحديدًا رجل يبحث في أرفف كتب التاريخ، اسمه الشيخ طاهر، امام مسجد قريب ورجل
أعمال، مهتم بتاريخ الاسلام في القرون البعيدة، يبدو هدفًا جيّدًا للكمتي القادمة.
هناك أيضًا فتاة أمام
أرفف الروايات. تأتي كثيرًا، وتحدثت إليها قبل بضع أسابيع. قالت أنها طالبة مبتعثة
على حساب حكومة بلادها. ألمحها الأن بطرف عيني وهي تصوّر بتليفونها مقطعًا في
رواية للأعرج ثم تصوّر نفسها وهي تُمسك الكتاب. - صورتين سأجدهما بعد قليل
مفلترتين مع اقتباس على حسابها بإنستغرام.
الزبونة الثالثة ها هي
الأن تتقدّم نحوي لتشتري ماختارت.. وها قد غادرت الأن.. طالبة جامعية تدرس في كلية
الدراسات الشرقية والأفريقية، تأتي مرة في الشهر لشراء رواية مترجمة من العربية
والسؤال لو ثمة وظيفة شاغرة، وهناك أيضًا في قسم الأطفال مجموعة لا بأس بها من
الصغار الذين جاءوا للاستماع لحكاية يقصّها عليهم كرم، زميل أخر، حين رآني أتألم
باكرًا وأخبرته عن ضرسي نصحني بتناول شاي نعناع أو زعتر.
الأمر يتفاقم في فمي. بعثتُ
لنسرين قبل قليل أخبرها عن حالتي، وعن رغبتي الجمّة في لكم أحدهم حتى أفقده وعيه.
ردّت نسرين على الفور وطلبت منّي أن أمسك أعصابي، وأرسلت بعدها تخبرني عن محاولاتها
للعثور على طبيب أسنان وأخذ موعد مُستعجل لي.
قبل حوالي ثلاثة شهور،
كنتُ في زيارتي الشهرية إلى المصرف لدفع الإيجار وسحب الباقي. جمّد المصرف بطاقتي
منذ أكثر من عام ونصحني الموظف في التليفون حينها بغلق حسابي عندهم. كان صرفي قد
تجاوز الثلاثة ألاف جنيهًا دون أي دخل يغطّيها، وكنت أتهرّب من الردّ على مكالمات
المصرف ولا أهتم بفتح رسائلهم التي تصلني بالبريد. في تلكَ الأيام كنت اكسب عملي
نقدًا، ولم أشعر بحاجة لاستخدام حسابي المصرفي، وكنت اؤجل ردّ المال واؤجل التفكير
في ردّ المال. عادةً حين أكسبُ جيّدًا معناها أنّ الشهور القادمة ستكون مليئة
بالكساد وقلّة الدخل، وهذا ما حدث، لقد مررت بتجربتين مشابهتين من قبل، ومؤخرًا
فقط عرفت بالصدفة أن الثالثة ثابتة؛ تتشارك المصارف قوائم الأشخاص الذين فقدوا
مصداقيتهم، ومن حق أي مصرف قانونيًا أن يمتنع عن فتح حساب لأي شخص يسجّل اسمه ثلاث
مصارف في القائمة السوداء تلك. بحثت أكثر حول الموضوع في الانترنت وقرأت عن أناس
استردّوا حقهم في ذلك، لكن الامر احتاج لمحاكم واجراءات معقّدة أعرف أنني سأتكاسل
عن فعلها ولو بعد مليون سنة. فقلت لأواجه مصيري الأن اذن، واتصلتُ بالمصرف وتحدّثت
لموظف اسمه أنطوني، ولا أدري في أي جزء من الكلام تحديدًا عرفت من أنطوني هذا بأن
اليوم هو من أسعد أيام حياته، فهو أخر يوم له في حياته المهنية، وسيصير بعد هذه
المكالمة متقاعدًا رسميًا. هنيته وباركته وسألته عن مشاريعه القادمة، قال سيسافر
للعيش في جزر الكناري. فرددت كم هذا عظيم، وحكيت له بدوري ملخص العام الماضي من
حياتي، حيث كنت شبه متقاعد أيضًا، وأوشكت خلال ذلك على قتل نفسي، لولا أن غيّرت
رأيي في أخر لحظة دون الحاجة للاستطراد في الحكي عن السبب، سوى أنني لما استيقظت
بعدها أُلهمتُ بأن أعيد للمصرف ديوني والعمل كموظف محترم لمدة عام على الأقل وربما
بعدها ألحقه في التقاعد أنا أيضًا وأسافر لبلاد الناس.
- لذلك يا أنطوني أحتاجك
اليوم لتساعدني في اعطائي مهلة ستة شهور أعيد فيها المبلغ المطلوب تدريجيًا.
- متأسف لسماع ذلك يا سيّد
إل.مو.سي.را.تي... دعني أرى ماذا بإمكاني القيام به هنا... لحظة من فضلك... لنرى
الأن... سأضغط على هذه... والأن سأختار هذه الخاصية... هنا سأكتب اسمك... المعذرة،
لحظة فقط. هل أتهجّى اسمك صحيحًا يا سيد إل.مو.سي.را.تي؟
- كما نطقه جدّي بالزبط.
- أوه، أنا ممتن لسماع
ذلك... لنرى الأن... هممم... يبدو أننا أمام مشكلة هنا... على حسابك دَين ضخم سيمضي عام عليه، وسوف
يُغلق حسابك نهائيًا ويُمسَح أوتوماتيكيًا من المنظومة إلى الأبد... أظن من الأفضل
أن تنسى فكرة اعادة هذه الأموال إلينا وأنصحك عوض ذلك أن تذهب وتشترك في مصرف أخر.
تفهمت الأمر، وسألته لو
بإمكاني الحصول على رسالة من مصرفهم لتزكيني لدى واحد أخر.
- لنرى الأن. قال
مجددًا، وطلب منّي الانتظار. حين عاد كانت لهجته أشدّ قليلاً، وناداني هذه المرة
بإسمي الأول. "نقاطك الضعيفة في رصيد المصدقية عندنا يا محمد، لا تسمح لنا
بكتابة رسالة تزكية."
- وماذا لو قمت بإعادة
المال الأن؟
- لنرى.. همم. سيضل
حسابك معنا مفتوحًا؛ يمكنك استقبال مال عليه والسحب منه، لكن فقط عن طريق الذهاب
شخصيًا إلى المصرف والطلب هناك عند نافذة الخدمات. لقد سحب منك المصرف كل
الامتيازات، ولن نعطيك بطاقةً، كما سنتوقف أيضًا عن أي خدمات أخرى حتى إشعار أخر. أكرّر
نصيحتي مجددًا لك بأن لا تهتم بالمستحقات التي عليك ولا تعيدها إلينا واذهب لتبدأ
حياتك الجديدة مع مصرف أخر.
واستطردَ أنطوني في شرح
منظومة المصدقية هذه وكيفية عملها. شعرتُ بالملل فأغلقت الخطّ بينما هو مسترسل في
السرد. استدنتُ مالاً من نسرين ودفعتُ للمصرف، والأن صرتُ مضطّرًا للعمل مجددًا كي
أردّ المال. قدّمتُ للعمل في محل بيع الكتب هذا، وبعد مقابلتين، واحدة مع المديرة
التنفيذية بالشركة والثانية مع العرفي، بدأت العمل وفي أول كل شهر أذهبُ لفرع المصرف
القريب من محل سكني، معي بطاقة شخصية ودليل على عنوان السكن وأسحب المال منه.
وهكذا، كنت أقول، أنني قبل
حوالي ثلاثة شهور، كنتُ في زيارتي الشهرية إلى المصرف لسحب رصيدي من المال وكنتُ
أقف في الطابور بين أصحاب الأعمال والمحلات في المنطقة الذين جاءوا لصرف الأموال
أو تحويلها. الأن أعرف معظم الموظفين خلف الشبّاك، وهم بدورهم حفظوا أسباب مجيئي:
تحويل ثمن الإيجار لصاحب السكن، وسحب الباقي.
هذه المرة حين جاء دوري
ورآني عمران – اسم الشاب خلف الشباك -، تجمّد للحظة قبل أن يعترف بإنتظاره لقدومي
مجددًا منذ أخر مرة كنت فيها هنا. سألني: هل عندك وقت؟ لم أقل شيئًا، كنتُ أتناول
المهلوسات بكميات كبيرة تلك الأيام وكان الوقت وكل ما يتعلّق به موضوعًا حسّاسًا،
وأي سؤال حوله يبدو وجوديًا.
- في الحقيقة يا سيد
مو.سي.را.تي عندنا بعض الأسئلة المُتعلقّة بأسباب عدم استخدامك لبطاقة مصرفية.
- ليس عنديَ بطاقة
مصرفية! وأخبرتهُ عن واقعة أنطوني. تعجّب عمران من الحكاية، ضرب أزرارًا على
الكيبورد وسألني عن عملي، وان كنتُ أذكر متى حدثت الواقعة، حاولت التذكّر فلم
أستطع، قلت اسمه أنطوني، وهو متقاعد الأن، أذكر ذلك لأنني كنت أخر زبون يتعامل معه،
وهو يقيم الأن في جزر الكناري، في تنريف أو في غران كناريا، لست متأكدًا بالضبط. توقفت
عن الكلام حين لاحظت أنه لا يبالي.
- في الواقع، وبغضّ
النظر عن ما قاله صديقك الذي يعيش في جزر الكناري، أنت مُلزم بالحصول على بطاقة يا
سيد مو.سي.را.تي. سأطلبها الأن لتصلك على عنوانك في غضون أسبوع.
في اللحظة التي شكرتهُ
فيها أحسستُ بشيء ما ينكسر في فمي. طرف صلب هكذا انفصل عنّي وراح يسبحُ في فضاء فمي.
لم أكن قادرًا على بلعه ولا على تفله، بينما عمران يخبرني أن لا أشكره على واجب أو
شيئًا من هذا القبيل، بل استطرد قائلاً أنني عميل محترم لمصرفهم وأعطاني بطاقته
المهنية طالبًا منّي الاتصال به في حال احتجتُ لشي.
تفلتُ سني في يدي لما
خرجتُ من المصرف وتأملتها. قطعة صغيرة جدًا مقارنة بمخيلتي عنها لما في فمي. أخر
مرة وقعت فيها سنّي رميتها للشمس بعد تلو تعويذة مفادها أن تاخذ سنّ الحمار هذه
وتعطيني بدلها سن غزال. هذا زمان، فاليوم أدرك أن الشمس لا تأخذ سنًا ولا تعطي
بدلها، فابتلعتها ومشيت.
خلال الشهور الثلاثة
القادمة سينتباني بين الحين والأخر ألم ناتج عن تعرّي العصب في ضرسي. يأتي الألم
عادة في الليل، يبدأ بنقرات صغيرة حول السنّ خلال فترات متباعدة من المساء، وفي
الليل يستشيط وينخر فيّ بينما الصداع يشلّني، وحين أستيقظ في اليوم التالي، يكون
الألم قد زال كأنه لم يكن، إلاّ اليوم.
فالبارحة حين كنت
ونسرين نشاهد فيلمًا عن تكوّن الجماعات الاسلامية بالتوازي مع حركات النيوليبرالية
في أمريكا الشمالية وعلاقة ذلك بالكوابيس، انتابني الألم على حين غفلة. جاء هذه
المرة مختلفًا، ولم أستطع اكمال الفيلم ونمت بعد تناول مجموعة من الحبوب
المُكيّفة. وحين استيقظتُ صبح اليوم التالي، سمعتُ صوتًا يصيح ويئن في رأسي.
قيل أن ضرس العقل بات
في أفواهنا من الزوائد نتيجة لتطورنا ككائنات، وعدم حاجتنا اليوم لاستخدامها كما
كنا في السابق، لكن يُنصح عادة بإطعام الأطفال أكلاً صلبًا ليحفّز استخدامهن لضرس
العقل وبالتالي يخفّف من المشاكل المترتبة عليه مستقبلاً.. هذه المعلومة قرأتها
للتوّ وأنا أقف أمام الكمبيوتر أحاول جمع عناوين كتب بميزانية ألف دولار. تاريخ
عائلتي ممتلئ بألام الأسنان وأضراس العقل.
أبي في طفولته مثلا حين
كان يشعرُ بوجع في أسنانه تقوم أمه وخالاته بتخديرها باستخدام أعشاب توارثتها
العائلة طوال أجيال لذات السبب؛ تسكين ألام الأسنان. لم يعلم أبي إلاّ لاحقًا أن
تلك المسكّنات أسكتت له وجع أسنانه العمر كله حتى بدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى
وهو في عمر مبكّر. يخاف أبي كثيرًا على أسنانه، وكلما سقطت واحدة ركّب أخرى عوضًا
عنها، ويوصيني دومًا بأسناني. أتذكر الحسرة في وجهه وهو يقول لي أسنانك جيّدة،
حافظ عليها يا رجل، تسمع فيّ يا محمد؟ أكلم فيك! لكنّني لا أسمع، بل أراقب الشارع
من خارج شبّاك السيارة في طريق عودتنا من طبيب الأسنان، سارحًا في شيء ما لا أذكره
الأن. ولو كانت نبرة صوتك وأنت تقرأ جملة أبي تلك منخفضة وواضحة كما لو تقرأ نصائح
لقمان لإبنه، فأنصحك بالعودة إليها وقرأتها مجددًا، لكن هذه المرة بحزم أب متوتر
بعد أن اكتشف للتوّ أنه لا يحسّ بألم أسنانه، وأن الأمهات والأباء غير معصومين عن
الخطأ في حقّ أسنان ابنائهم، وأن عليه الاستعداد منذ اليوم للاستيقاظ من نومه بين
حين لأخر ليجد سنًا سقطت من فكه دون أن يعلم.
إحدى أقدم ذكرياتي كانت
في بيت جدّي، حيث خالة أمي سويلمة تربط سنّي بسلك خياطة وتعدني بالحلوى التي
سأتناولها بعد خلعها لسنّي. كانت الفوضى الخلاّقة حولنا تهيم بكل شي، أمي وخالاتي
وخالاتهن وأبناءهن، وأنا أبكي، وخالتي سويلمة تمارس الطقوس القديمة في خلع السنّ
وتستلذ بها، ولاتفهم كيف أنني لا ابالي بالحلوى واغراءها لي بها. تدخلت أمي في تلك
اللحظة وسألتني ان كنت أريد حقًا أن أقرأ الكتب في مكتبة جدّي. لجدي مكتبة ضخمة
ورثها عن أخيه، وحلمي كان أن أقرأها. هزّيت رأسي نعم وتوقفت عن البكاء فجأة، فقالت
لي بمنتهى الجدّية أن سنّي هذي لما تقع، سأقدر على القراءة وسأنهيها كلها على
الفور. وقعت سنّي لوحدها اثر سماعي ذلك، وبينما تحوّل جمهور خالاتي وأبنائهن لمهرجان
مهابيل احتفاءًا بي، رأيتني الأن بالفعل كبيرًا، وذهبتُ للصالون ووقفتُ أمام مكتبة
جدّي، سحبت المجلد الأول من الأعمال الكاملة لابن الأثير وتهجّيت ما تيسر من السطر
الأول. وهنذا الأن في السابعة والعشرين من عمري، حاسًا بالألم في ضرسي والصداع
والشتات ينخر رأسي وأفكر أنني بخلعيَ لضرس العقل هذا سأصيرُ بالفعل كبيرًا.
في الحقيقة، عمري ستّة
وعشرون عامًا، إلاّ أنني مذ صرتُ كذلك بتّ أقول أن عمري سبعة وعشرون. من زمان وأنا
أنتظر أن أصير في هذا العمر، تحديدًا، منذ كنت في الواحدة والعشرين، ولم اكتب بعد إشراقاتي
ولم أجرؤ على التوقف عن الكتابة. ليس من المعقول أن أعيش عمر السبعة والعشرين لمرة
واحدة فقط بعد أن طال انتظاري له سبعة سنوات. سيمرّ عمر الستّة والعشرين دون أن أعترف
به، سأتجاوزه، وسأتجاوز السابعة والعشرين أيضًا وقد أخذت معها كل قدوات من كانوا
قبلها، وحين سأصيرُ في الثامنة والعشرين - وقد راح ألم ضرس العقل نهائيًا وذهب معه عقلي
كله – سأداعب بلساني أسناني المُتدعدعة وأنتظر الصباح الذي سأستيقظ فيه لأجدها سقطت
في فمي. سأخاف، وكلما سأتوقفُ أمام المرآة أتفحص ترتيبها وأتأكد أنها كلها موجودة،
سأصيرُ موسوسًا بها، وسأفقد بعد حين حتى الجدوى في فعل هذا، سأجلسُ لأنتظر فحسب، علّه
تيمّنًا بنباكوف أو بينشُن أو بوروز أو بولانيو أو بهم كلهم وبكل الكتّاب الذين
فقدوا أسنانهم في سنّ مبكرة، من يدري! قد أصير أوكسيليو لاكوتور؛ فقدتُ
أسناني على مذبح التضحيّات الإنسانية وأمُّ كل المنفيّين.
قبيل ساعة الغذاء أعطيتُ
العرفي قائمة تحتوي على ثلاثة وستون عنوانًا مرفقة بعدد النسخ المطلوبة لكل عنوان.
تفحّصها وهو يهمهم وسألني لو تساوي هذه ألف دولار.
- ثمانمائة وتسعين
جنيهاً واربعة وثلاثون بنسًا، أخبرته.
عادَ يتفحص القائمة وهو
يميئ برأسه، وسألني عن ضرسي، ودون أن ينتظر اجابة سألني لو كنت أريد حبتيي ترَمادول.
بعد أن ابتلعت الحبّتين
سمح لي بأخذ باقي اليوم اجازة.
وأنا في الطريق لأخرج
من المحل دون أن ألكم الشيخ طاهر أو أي زبون أخر، وصلتني رسالة من نسرين تُخبرني
فيها عن موعد حجزته لي مع طبيب الاسنان اليوم الساعة أربعة ونص قبالة محطة كيلبرن.
شفت الوقت وكان لا زال أمامي ساعتين. عنديَ بافرة في علبة السجائر. ذهبتُ للحديقة
ودخّنت.
تعليقات