محاولة للوصول الى ما وراء العدم




اظن بأنني استمعت الى موسيقى الساي كثيرا حتى لم اعد قادرا على الاستماع الى صوت الالات والمطربينيحدث ذلك في مرات قليلة استمع خلالها الى هذا النوع من الموسيقى، وعادة ما يكون نوعها من كلاسيكيات موسيقى الهلوسة، لكن هذا الامر بحد ذاته يحدث نادرا جدا.
مرة دعتني نرجس للذهاب الى بار “غرين نوت” بكامدن، حيث يستضيفون فرقة بلوز من نيو اورلينزعند الولوج في الاغنية الأولى، انتابتني القشعريرة، وعند الثانية احسست بصداع، وقبيل ان يصيبني الغثيان مع حلول الأغنية الثالثة استأذنت نرجس للخروج الى احد الشوارع الجانبية للبار وتدخين بافرا كي استطيع الانسجام مع الاجواء الموسيقية حولي.وبقدر ما ساعدت البافرا في احتمال ذلك، الا انني في ذات الوقت لم استطع ازاحة نظري عن الغبار المتصاعد من الالات والمنبعث من فم المطرب الرئيسيشيء ما في داخلي لحظتها اشعرني بالحزنربما فكرة كانت في حينها هاجسا ومفادها عدم ولادتي في عصر مستقبلي يذهب فيه الناس لحفلات الساي على كواكب ومجرات اخرى، وكان من الصعب ان يفهم احدا هذا الامر، وكان من الصعب ان افهمه.
حاولت في مرة اخرى ان اعود لاستماع الاغاني التي كنت استمع اليها في مرحلة ما قبل العدماعددت “بلاي ليست” بمساعدة حسابي على موقعي يوتيوب وساوند كلاود، وقمت بعملية ترتيب جدول سنوي مبني على استماعاتي وذكرياتي والحالة الذهنية التي كنت فيها.
لم استطع الاستماع لمعظم الاغاني حتى اخرها، اما التي استطعت، فلم اشعر بالرغبة في اعادتها اثناء انتهاءها – اشارة التفضيل عندي -. ابشع ما في هذا التمرين اليومي للخروج من العدم هو حين تصيبني تلك الروح التهكمية وابدأ في المنيكة على النستولجيا وتعابير وجوه الفنانين المنسجمين مع الاتهم او اصواتهم، وحين اسأل نفسي ان كانوا يتمنيكون على انفسهم ام علينا – واتساءل في نفسي حينها من نحن؟ واعجز عن الاجابة –، لا اجد اجابة، واظل حائرا امام السؤال، وغيرها العديد من الاسئلة.
امتعض اصدقائي الموسيقيين من امري ، بعضهم ازعجه كثرة تثائبي اثناء عزفهم، وبعضهم الاخر ازعجه مقاطعتي لهم اثناء غنائهم، ولم اكن انتبه لانزعاجهم حتى اراهم في المرات القادمة واشاهد الكم الهائل من البرود في اعينهم، واظل لا افهم الامر.
قال “ستيفن” انني لم اراعي مشاعره، وانني لا اراعي مشاعر الاخرينلم يراعي” ستيفن” مشاعري حين عبر عن مشاعرههل تعرف مشاعري؟ قال احدنا للاخر، فرد الاخر بطريقة شبه مشاعرية.
اما نرجس، فهي لم تتحدثنرجس حين تمل من شرح مشاعرها ترد الشعور بأخر مماثل، وفي مرة وحيدة بكت، فعانقتها وقلت لها لا بأس، ثم عبرت لها عن مشاعري، واختلطت مشاعرنا.
اظن بأنني بت الان افهم كل هذا الكم من المشاعرفهم الكاتب لنفسه من خلال الكتابة امر حقيقي جدا، ولكنه حين يتعلق بالقارئ، يظل نسبيافأنا افهم ما اقوله الان، رغم انني اشك بأنك قد فعلت، واجزم دوما بأن فهم الاشياء على حقيقتها التي امامنا امر غير مشترك بين الناس، وأنالتجربة” لم تأخذ حقها كمصطلح يليق بمعناه، ويسيء الانسان استخدامه، او يبسط مفهومههل الفكرة واضحة بما فيه الكفاية؟ لا يهم، وعلى اي حال، تفهم كل الكائنات الاشياء عادة بطريقة مختلفة.
واظن بأنني وصلت الى هذا الفهم للفكرة مسبقا حين كنت تحت تأثيرالاسيد، وهو امر يثبت حقيقة عدم وجود اختلاف بين الكتابة والمهلوسات، فكلا الامرين في اخر الامر رؤية في معنى “الخيال“.
علاقتي بالمهلوسات مرتبطة بفلاشباكات حياة اخرى اؤمن بأنني عشتهاانها علاقة لا تختلف ابدا عن علاقتي بالكتابةان تعيش حياة كأنك تكتب رواية وتقرأها في الوقت ذاتهكنت امشي مرتحلا على الاسيد وأعيش اللحظة كأنني خارجها.. كقارئ ممكن، او كساردتذوب المدينة امامي وتأخذ ابعادا مادية اخرى لا يراها احد غيري، وتأخذني بعيدا داخل ميتافيزيقا التفاصيل الصغيرةبدت لي الحياة رواية عظيمة لأنني بت غير قادر على الجزم بحركة خيوطها.
وقد تعرفت على المهلوسات قادما اليها من تجربة اخذت كل افكاري الى مستوى اخر، وكنت في نيتي ان اعيش كل هذه الافكار عوض الكتابة عنها.لسنوات، كنت منغمسا في اختراع شخصية سردية يتغير اسمها في معظم مراحل تطورها، وقد بدت لي الشخصية في مرحلة ما غامضة جدا ولا اعرف عنها شيئا سوى صورا مدغدشة وحكايات مختلفة في مدن عائمة لها ابعاد مستديرةوحين ايقنت في اخر الامر بأنني لم اكن لأستطع ان اخلق هذه الشخصية الا اذا عشتها، بت، وبوعي كامل اركز على تصرفاتي.طريقة تعامل الناس مع بعضها ومعيان اعيش حياة لم ارى نفسي فيها يوما، الكثير من الصمت، اشهرا طويلة في الغابة، الحشيش والفطر السحري والتأمل في كل جملة يتفوه بها احدهم وكل حركة جسد مصاحبة لهاهل تنادي العصافير بعضها ام انها عركة؟ سرب طويل من الاشجارغرف الاستجمام في الحفلات الصاخبةالخيم المعلقةالاحذية الغارقة في الوحلالجري على سكة حديد خطوط القطارات الدولية.التوهان في غابة من الاشجار وكابلات الكهرباءالغوص في المستنقعات.الاستلقاء على العشب محاطا بالاصوات المطاطية، تحولات السحب وامتداد السماءوفي لحظة بت انسى امر الشخصية المتخيلة واحسست في الوقت نفسه بأن هنالك خطأ ما في هذا الكون ينعكس عليثغرة، او ثقل.. شيء ما ليس بامكاني ان اصفه ولكنه لم يكن ابدا مريحا، وكان علي اما ان اتخلص منه او اتكيف معهالاشياء التي لم تكن منطقية بدأت بالتدريج تصير منطقية، اما الامور المنطقية، فقد باتت غير منطقية، ثم اللامنطقية والمنطقية صارت لا منطقية ومن بعدها تحول اللا منطق بمجمله الى منطق.واظن بأنني كذلك تيقنت بشكل ما ان بشاعة اليوم ليس سوى تسلسل منطقي لما اعتبرته يوما الزمن الجميل، وان هذا الزمن لم يوجود في الواقع كي احن له.
وحين تمعنت اكثر في مصطلح الـ Comfort Zone، او منطقة الراحة، وجدتني بوعي اقود نفسي خارجهاوانفتحت أمامي اسئلة عن الحرية ومعانيها، واستجوبت كل شيء حولي.استجوبت المفاهيم التي لطالما اعتقدت بأنني استخلصت نتائجهاالاسم، العدالة، الحرية، العقل، الجنس، الحنين، الاعلانات التجارية وفنون الاستهلاك، الموسيقى، العبث، بابا وماما، اختلاف التجربة والنظرة الى الاشياء، الفردية، الشمبنة، العقل العظيم، حرية الكسل ومعنى العمل، الاذكياء الذين توقفوا عن التفكير، الـloop، الكتابة، كتابي المفضلين وكتبي المفضلةوذات صباح يوم شتوي فقت واتجهت صوب النافذة، لأكتشف بأن هنالك ثغرة في السماء تفضي الى العدمفي البداية ارتعبت، وعدت الى السرير ونمت، وحين فقت في المساء، كانت الثغرة لا تزال هناك، ولا اتذكر الان من ذاك الشتاء شيئا سوى فلاشبكات لنفسي اسبح في فضاء ابيض، ومحاولا الوصول الى ما وراءهاسئلة تلوح في الافقاجوبة تأتي قبيل الاسئلة، وكنت غير قادر على كتابة كل ذلك.
ذات صباح ربيعي مشمس في حفلة سرية بغابة سكراتشوود، أصابني الصوت المنبعث من جهاز المنظومة وهز جمجمتي، وبدأت الهلوسة تتشكل امامي، احسست بكم عظيم من الظلام يحيط بي من كل جانب، وانسحبت من الـ “دانس فلور” دون ان افهم ما يحدث داخل اذنايوجدت اعينا تفنصوجوه باسمة، ضاحكة، اسنان ضخمة، جوانات، اصابع ام نقانق؟ الالوان، داكنةالاخضر داكن، الازرق داكن، الاصفر ايضا داكن، والرمادي داكن، حتى الاسود داكن، ولون اخر لا اعرف اسمه ولكنه ايضا داكن، الداكن داكنداكن..كن.. دا، دا، داكـــن، كن، بالاضافة الى الاحساس الغريب بالالفة مع الظلام.
اظن ان تلك الحفلة كانت بداية ادراكي لساي الغابة او ساي الظلام – كما ورد في رواية اخرى –، وهي المنعطف في مرحلة ما وراء العدم، واظن بأنها كانت ايضا نهاية فصل وبداية اخر في التجربةوقتها كنت عالقا بين بهجة موسيقى الـ ساي ترانس والاحساس العميق بأن كل شيء حولي مزيف، وحين اصابني صوت الظلام احسست به الاكثر الفة مع خلايا عقليحين تصيب الهلوسة شخصا عند مستوى ايقاع ما في موسيقى سايكيداليكية، فانه سيصعب عليه الاستماع من بعدها الى مستوى ايقاع اقل سرعة منه، وهذا ما يعلل عدم قدرتي من بعدها على الاستماع الى اي من ساي البروغريسيف او الساي ترانس او الساي المكتمل وحتى ساي الكسوف، والذي يقع في مرحلة شفافة بين الساي المكتمل وساي الظلامكان ذلك حتى قدوم ذاك اليوم الربيعي الغائم، حين حضرت حفلة اقامها مجموعة من قراصنة الـ “هاي تك” في غابة قريبة من هيثرو، وتناولت قرصين من اسيد شيڤا، وغرقت في الوحل على الدانس فلوراذابت همسات الظلام شفتاي.اختفت اسنانيولم استطع بعد تلك الحفلة والرحلة ان استمع الى اي موسيقى ايقاعها اقل من ١٩٠ وقعة في الدقيقةاما الثغرة التي في السماء، فبالتدريج اتسعت، جوانبها داكنة بعض الشيهنالك خلف الثغرة لطخة ظلام، تزينها نقاط ملتمعة علها كواكب اخرىلم ابالي بها كثيرا ولكنها كانت تصيبني في بعض الاحيان في صدري فتجعلني مزاولا السرير، الاستلقاء الدائم على الكنبة، والعبور الى الجانب الاخر متى حل الويكندلا ادري كم استمر الوضع.. ربما اسابيعا، او اشهرا او ربما عام ونصف العامالا ان هذا لم يكن في يوم من الايام مهما.


ذات مرة فقت في الصباح ورأيت بأن الثغرة اختفت، او بتعبير اصح، اكتمل نضوجها، واحتلت السماءشعرت بخفقة في صدري، لسعة في اصابع قدماي، والكثير من كائنات الساي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

موت محمد

معمّر مات