ارجوان: حدث ذلك في ربيع العام 1994
تصعدُ أرجوان عادةً سطح العمارة مع جدتها التي تتبادل الكلام والتحيات مع جدتي فوق سطح العمارة المقابلة، نقفُ الاثنين عندَ سور السطح ونتبادل الابتسامات. أمسكُ حجرة صغيرة وأرميها اتجاهها. تقومُ هي بذات الشي. نصنعُ الطائرات الورقية ونطلقها في السماء ومراقبتها وهي تنزلُ إلى الشارع مخترعًا في الوقت ذاته لها تعليقات حول كابتن الطائرة التي قاربت على الوقوع. تغطسُ أرجوان في ضحك طويل. كلّ ذلكَ كانَ مسلّيًا.. حتى عندما استعرضتُ أمامها طريقتي في الانحناء من على السقف كانَ مسلّيًا. ذاتَ يوم استعرضتُ أمامها طريقتي في مسك يداي بحاشية السور واطلاق قدماي إلى الأعلى بحيثُ يتّزن نصفا جسدي على ذراعاي، وأنظرُ إلى أسفل العمارة في الطابق الثالث، ثمّ أبدأ بدرجحتهما بطريقة أعرف أنّ والداي والناس لن يجدوها مسلّية بالقدر الذي أشعرُ به. لم تستطع أرجوان القيام بذات الشي. ظلّت على مدى أيام تطلب منّي حينَ نلتقي في الروضة تعليمها هذهِ الطريقة متّخذين من احدى المقاعد ألة للتدريب. بعدَ أيام، صارَ بمقدور أرجوان القيام باللعبة، وبتنا نقومُ بها بشكل شبه يومي. تماديتُ أكثر في اللعبة وبتّ أستعرض قدرة ذراعاي على تحمّل جسدي وهو يرفعه من على الأرض ودرجحته. أوشكنا مرارًا على الوقوع من الطابق الثالث، ولكنّنا نمسكُ أنفسنا في اللحظات الأخيرة ونكفّ عن اللعبة.
كان هذا، في ربيع العام 1994.
الأرجوحة الزرقاء في ساحة الروضة، والتي يتزاحمُ عليها الأطفال وقتَ الاستراحة، لم أستطع في يوم من الأيام ركوبها. عادةُ تحاشي الأماكن المزدحمة لازمتني دومًا. لا أتذكرُ اسم الروضة، لكنني أتذكر الساحة الأمامية حيثُ الحديقة وأشجار الزيتون التي يعتني بها بوّاب الروضة جيدًا. الساحة الخلفية حيثُ مكان الفسحة والألعاب والغرفة المستخطية في أخرها - والتي نطلق عليها اسم "دار الفئران". المصطبات الخشبية الطويلة في الممر. الفصول الكبيرة المكتظة بالأطفال. المبنى الملاصق لمبنى الروضة، وهو مدرسةٌ اعدادية اسمها "نور الهدى"، حيث تدرس عمّتي. مقابلاً لمبنى الروضة معسكر يتبع المخابرات. على الطريق المقابل أيضًا مجموعة محلات ومقاهي قليلة ثمّ مستشفى الحروق – صورة أوروبا في عقلي وقتذاك شبيهة بـ كراج وقوف السيارات بمستشفى الحروق. سبب ذلك أنّ أبويّ حكايا في السيارة مرة عن أوروبا ونحنُ نجتاز كراج المستشفى -.
كانت لنا في الصفّ معلمتان، الأولى "أبلة سعاد"، امرأة ثلاثينية ربما، ببشرة داكنة، ترتدي جلبابًا طويلاً، معظم أوشحة رأسها عليها زركشات لورود زرقاء وسماوية اللون. يمكنني اختزالها في نظارتيها المستديرتين على أنفها. لم أرها في يوم ما تبتسم. الأخرى "أبلة فاطمة"، ثلاثينية أيضًا، ترتدي تنّورة طويلة وضيّقة، بيضاء البشرة، لها عينان صغيرتان جدًا. لا أملكُ ذكرى للأبلتين، وربما وجودي في الصفّ أيضًا كان مثل قلّته. اذ أنّي لم أكن أثيرُ الانتباه في الصف. أتلاشى على الكرسي وأثيرُ الصمتَ ومراقبة ما يحدث حولي. ثلاثة فقط من زملائي أتذكرهم الأن: الاختان "ساره" و"ياره". تجلسان على كرسيان في مقدّمة الصف. جانبهما تجلسُ ”أرجوان".
أختزلُ وصفي لأرجوان دائمًا في قرني شعرها الطويلين ووجهها المستدير. اقتربنا من بعضنا البعض لأنّ بيت جدّها في العمارة المقابلة لعمارة بيت جدّي. نلتقي على سطحي العمارتين كلّ مساء لتبادل النظرات واضحاك بعضنا. عادةً ما كانت تأتيني للعب في الاستراحة وابتسامة كبيرة على وجهها. نقضي الوقت في لعب "دندي دحدح" و"السلحيبة" أو الوقوف عندَ شبّاك دار الفئران واختراع قصص عن أطفال مشاغبين وضعوا هنا وأكلتهم الفئران. في أحيانٍ أخرى نذهبُ للوقوف عندَ الأرجوحة ومشاهدة طابور الأطفال من الراغبين في اللعب، والمعلمتان اللتان تقومان بدفع الأرجوحة ومعاقبة المشاغبين الذين يخترقون الطابور للوصول إلى الصف الأمامي واللعب أولاً.
ذاتَ يوم، وحينَ كنّا خارجًا في الاستراحة، جاءت أرجوان طالبةً منّي الوقوف معها في طابور الأرجوحة، لأنّها ترغب في اللعب. مشيتُ معها إلى الطابور الطويل ووقفنا هناك في انتظار دورنا. تشاجرتُ مع بعض الذين يحاولون اختراق الصفوف، ثمّ بعدَ دقائق وجدتُ نفسي في الصف الأول مع أرجوان في انتظار دورنا. ولأنّ منصة الأرجوحة تحمل شخصين، فإنّهُ من المتوجّب على كل اثنين يريدان اللعب أن يمسكا بأيدي بعضهما البعض. مسكتُ بيد أرجوان ووقفنا في انتظار الدور. حينَ انتهى الذين قبلنا، كنّا في حالة استعداد للمشي إلى منصة اللعب، لكنّ أحدهم دفعني من الخلف فوقعت على الأرض. التفتّ فوجدتُ فتًا ضخم البنية يأخذ مكاني ماسكًا بيد أرجوان ساحبًا اياها للعب. لم ترى المعلمتان ما حدث. لم أكن أستطيع التعبير لهما عمّا حدث. اجتمعَ الدمعُ في عينيّ وأنا أرى ذاكَ الولد يركبُ الأرجوحة. جاءت أرجوان ناحيتي وهي تسألني ان كنتُ بخير. مسكتُ الدمعَ في عينيّ وأخبرتها بأنّني على ما يرام، ثمّ انصرفنا بعدَ أن أدركنا بأنّ علينا الأن الوقوف في الطابور مجددًا. أحسستُ بالفزع والغضب في آنٍ واحد ونحنُ نبتعد. عدتُ مجددًا إلى الأرجوحة. وقفتُ أمامها بحيثُ كانَ الجزء الأمامي من الولد قبالتي، ثمّ أسرعتُ نحوهُ وأنتظرتُ حتى دفعت بهِ المعلمة إلى الأمام.. جريتُ أكثر ومسكتُ بقدميه وسحبته. وقعَ كلينا على الأرض وسطَ الفوضى التي أحدثها الموقف.. أسرعت أرجوان ناحيتي وسألتني ان كنتُ بخير.. ابتسمتُ ابتسامة المنتصر، لكنّها ألقت نظرة على مؤخرة رأسي ثمّ قالت أن رأسي ينزف. وضعتُ يدي على مؤخرة رأسي ومن ثمّ نظرت إلى يدي. كانَ بالفعل دم. فبدأت بالبُكاء.
أخذتني المعلّمة إلى حجرة المستوصف وقامت بوضع شريط على مكان الجرح. طيلة الوقت في المستوصف كانت أرجوان تقف بجانبي وتبتسم. وقوفها بجانبي أعطاني القوّة لحبس دموعي، ولكن بعدَ ما تمّ اسعافي، أمرت المديرة أبلة فاطمة وضعي في دار الفئران، لأنّ ذاكَ الولد الضخم انكسرت ذراعه وقد أرسلَ إلى مستشفى الطبّي القريب لتجبيسها. لم تكن دار الفئران مخيفة كما يحكي عنها الأولاد الخارجون منها. طيلة الوقت كنتُ واقفًا على مقعد لأتحدّث من الشبّاك مع أرجوان على الجانب الأخر. مشهد أعجبني، وذكرني بـ مفيد الوحش في مسلسل "نهاية رجل شجاع"، حينَ تأتيه حبيبته "لبيبة" إلى السجن وقتَ الزيارة.
في الروضة، باتت علاقتي مع أرجوان تزدادُ عمقًا. انتقلت إلى الكرسي بجانبي في أخر الصف، وفي الاستراحة نقفُ في طابور الأرجوحة ماسكين بأيدي بعضنا البعض. لم تعد غرفة الفئران تثير حواس الرعب فينا كما في السابق. في تلكَ الأيام، كنتُ أعيشُ بينَ بيت جدّي القريب من الروضة، وبيتنا في وسط البلاد. والدتي حينها كانت حاملٌ في أسابيعها الأخيرة، وقيلَ لها بأنّ المولود الجديد سيكونُ بنتًا، ومعظم الحديث الذي يدورُ في البيت كانَ عن اسم البنت المرتقبة. في تلكَ الأيام أيضًا، لازمني المرض طويلاً ورقدتُ في الفراش لأسبوع لم أعرف فيه شيئًا عن أرجوان. حينَ شفيت عدتُ إلى بيت جدّي ذات مساء، ولم أكن أستطيع انتظار اليوم التالي لرؤية أرجوان. صعدتُ سطح عمارة بيت جدّي حاملاً كراسًا في يدي. أرجوان كعادتها في هذا الوقت على السطح المقابل. رأتني فأقتربت نحوَ السور راسمةً ابتسامة على وجهها. حييتها، ثمّ جلستُ على الأرض وصنعتُ طائرة ورقية. رميتها في السماء مطلقًا تعليقاتي التي تشبه صوتَ أبطال الرسوم المتحركة. ضحكت أرجوان. وضعت يداها على حاشية السور كعلامة على أنّها تودّ لعب لعبتنا المفضّلة. قمتُ بوضع يداي على حاشية السور أيضًا. أرخيتُ قدمايَ إلى الأعلى وأسندتُ وزني على ذراعي. رفعتُ نفسي شيئًا فشيئًا، ثمّ هززتُ جسدي قليلاً إلى الأمام والخلف. حين أعياني التعب عدتُ واقفًا. رأيتُ أرجوان وقد صارت محترفة في اللعبة. رفعت جسدها على طول ذراعيها وباتت تدرجح نفسها على مهل. انتابني نوعٌ من الخوف من تطرّفها في استخدام اللعبة. رفعت رأسها نحوي وضحكت. ضحكة طويلة. حينَ حاولت أن تستعيد وزنها إلى الخلف باتت تميلُ إلى الأمام. صُعقتُ من المشهد. كأنّني الأن أراها أمامي في ذاكَ المشهد العالق في ذاكرتي، وكلّ شيء يسيرُ ببطئ. لو حدث وأن أطلقت أرجوان سراحَ ذراعيها لوقعت على بطنها وتألمت قليلاً فقط، لكنّها في لحظة الارتباك تلكَ ظلّت تحاول الاحتفاظ بإتزانها للحظات، قبيل رؤيتي لساقيها يرتفعان تلقائيًا إلى الأعلى. سقطَ الجزء السفلي من فساتنها على وجهها ورأيتها نصف عارية، تقعُ من فوق السطح دونَ أن أسمعَ حسّ صرخة أو بكاء. جسدها فقط وهو يتهاوى إلى الأرض ليصطدمَ به، دونَ أي صوت سوى صفير غريب يزنزن في أذني. نظرتُ إليها على الأرض.. ارتعشَ بدني وأحسستُ بدفء ماء يصبّ في سروالي. تحركتُ إلى الخلف.. هرعتُ إلى البيت.
كانَ كل افراد العائلة جالسٌ أمامَ التلفاز يتابعون المسلسل الكرتوني "سنان". دخلتُ الحمّام وخلعتُ سروالي ورميتُه من النافذة المطلّة على خرابة تغطّيها أشجار الزيتون القديمة. قبلَ خروجي من الحمّام.. كان الصراخ والبكاء يعصف بالحيّ كله.
في صباح اليوم التالي، كانت المعلّمات يبكينّ بحرارة في الروضة. ظهر نفس اليوم دُفنت أرجوان. بعد الجنازة جاء أبي ليروّح بي للبيت، وفي الطريق أخبرني أنّ أمي أنجبت مساء البارحة، وأنّه صارَ عندي الأن أخت.
تعليقات