الطريق إلى بار أورورا

بيرة بـ بار أورورا - طرابلس

مغامرة الكابتن أنسون في ليبيا ورحلة الليبي التائه في مكانه.. كولاج تدوينات وتغريدات ومقاطع من نصوص وحكايات

فيلم سينمائي: نّبهني "غازي" للفيلم الذي يعرض في التلفزيون.. قال: "هذا الفيلم صوّر في ليبيا، وأخر مشهد في طرابلس"... حينَ التفتّ إلى الشاشة، وجدتُ فيلم أبيض وأسود، عن ثلاثة رجال وامرأتين في سيارة اسعاف حربية وسط الصحراء.. الفيلم باختصار، كان عن رحلة هؤلاء من طبرق إلى الاسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية والصراع بين الانكليز الذين كانوا يسيطرون على مصر والجانب الغربي منها، والألمان الذين سيطروا على الجانب الشرقي من ليبيا وقتذاك.

ولأن الفيلم من انتاج العام 1958، وكانت حرب السويس وقتها ضاربة، فقد قررت شركة الانتاج أن تصوّر كل أحداث الفيلم في ليبيا. وحسب مشاهد الفيلم، يتضح أنّ معظم المشاهد الصحراوية قد صوّرت في غرب البلاد، أمّا المشهد الأخير، والذي كانَ من المفترض أن يكونَ في بار مشهور في الاسكندرية، فقد صوّر بـ بار أورورا بميدان الجزائر "الكاتدرائية" في قلب طرابلس.

ربما لهذا، لم تعلق حبكة الفيلم في رأسي، اذ أنّي لم أرى أنّ هؤلاء في طريقهم من طبرق إلى الاسكندرية كما هو في الفيلم، بل أحسست أنّهم في طريقهم من تونس مثلاً، قادمين شرقًا نحوَ طرابلس مرورًا بالجبل والجنوب الغربي من ليبيا. هكذا، حينَ رأيتُ الفيلم من هذا المنطلق، باتَ من السهل عليّ استيعابه، أو الاندفاع في مشاهدته طيلة الساعتين وعشر دقائق مدّة عرضه. وطيلة المغامرات المميتة التي دخلوا فيها أبطال الفيلم: مناوراتهم مع الجيش الألماني ومحاولة قتلهم أكثر من مرة، ثمّ الدخول في حقل ألغام وكاد أحدهم أن يفقد حياته. كنتُ متلهّفًا رفقتهم، شاعرًا باحساس الكابتن أنسون، الضابط في الجيش البريطاني، والذي كانَ متلهّفًا للوصول إلى الاسكندرية (طرابلس)، قاطعًا عهدًا على نفسهِ بأنّ أول شيء يقومُ به هو أن يشرب بيرة باردة ومثلّجة.

***

ميدان الجزائر "الكاتدرائية" وتظهر أقواس بار أورورا
مقطع من رواية قيد الكتابة: أصلُ إلى ميدان الكاتدرائية "ميدان الجزائر". أتوقفُ هناكَ كعادتي وأرفعُ رأسي إلى الجامع العالي، ثمّ أغمضُ عينايَ للحظة وأتذكرُ أنّهُ كان في الماضي "كاتدرائية طرابلس"، ثمّ تحولَ إلى مسجد بعدَ طرد المواطنين الليبيين من أصولٍ أجنبية خارج البلاد، وكسر في علّية الكاتدرائية طرف الصليب الذي يمثّل الابن والروح القدس، لتسمّى في دائرة الأوقاف باسم "جامع جمال عبد الناصر"، وظلّ الاسم المتنقل بينَ ألسنة الناس "جامع الكنيسة". تبًا، هذهِ الكاتدرائية كانت جزءًا في قلب هذهِ المدينة. أنظرُ إلى يميني حيثُ ساحة كبيرة كمقهى وسطَ عمارة يجلسُ فيها شباب ورجال وأدباء يسمونها "مقهى الفجر"، وقد كانت قبيل القذافي "بار أورورا"، والتي تعني الفجر بالايطالية، ولكن لأنّ حكومة العساكر قامت تحتَ خانة العروبة واللغة العربية، فبالتالي ترجم الاسم إلى الفجر. بنيت هذهِ الحانة كي تصير حانة، حتى أنّ أعظمَ كتّاب ليبيا في الستينات كـ علي مصطفى المصراتي وعبدالله القويري وكامل المقهور كانوا من روادها، وكانَ الصادق النيهوم يأتيها ليسكر في زياراته المتقطعة إلى العاصمة. يحكى أنّ ذاتَ يوم خرجَ رجل سكران من بار أورارا يسبّ ويشتم القذافي وثورته. وقفَ في ساحة ميدان الجزائر وظلّ يبصق ويلعن ويسبّ القذافي، بعدَ ذلكَ بأيام أقفلت كل بارات ليبيا وحرمَ شرب الخمر

***

مقطع من تدوينة قديمة: في مخيلتي، أنزلُ درج البريد الفاصل بين المبنى العتيق والشارع بميدان الكاتدرائية، أخذُ يمنيًا، حيثُ بار أورورا، هناكَ أجلسُ على طاولة قريبة من النافورة، أسندُ ظهري على الكرسي واطلبُ بيرة أويا، وعلى مقربة منّي أستمعُ لدردشات القاص عبدالله القويري ورفاقه من أدباء وشعراء الخمسينات والستينات وضحكاتهم العالية بعدَ أن امتزج بدمهم الشراب الشعيري. في الجانب الأخر يجلسُ شلّة من الرسامين والموسيقيين الطليان بعدَ أن أتمّوا عرضهم في مسرح ميراماري، بإمكاني أن ألمحَ جيّدًا ماريو اسكيفانو بشعرهِ المسبسب وعيناه الراقدتان بسبب الإرهاق والنبيذ، وأسفلَ قدميهِ حقيبته التي كانَت ترافقهُ دومًا كلّما نزلَ إلى طرابلس من روما، معربدًا بين المدينة القديمة وشارع الاستقلال وفنادقها الصغيرة قبيل زيارته لمسقط رأسهِ "الخمس". بعدَ شربي لبيرتين، أدفعُ لإبراهيم صاحب البار ثمن الشراب والميزّة، وأنسحبُ قاطعًا الميدان إلى الكاتدرائية، أنعطف يمينًا إلى شارع هايتي، وخلف الكاتدرائية أشتري جيلاتّي من محلّ "ديميتري" ثمّ أقرّر الخروج من هذهِ الأجواء الاستعمارية إلى المدينة القديمة حيثُ الطرابلسية

شارع الاستقلال في الخمسينيات
***

مقطع أخر من ذات الرواية قيد الكتابة: سينما الزهراء أو الأوديون كما كانت تسمّى، تقعُ في قلب المدينة. في شارع "أول سبتمبر"، "الرابع والعشرين من ديسمبر" في فترة المملكة الليبية. تقعُ السينما مقابلةً لمدرسة التحرير الاعدادية، وقد بنيت في عهد الطليان، وكل ما فيها من صالة عرض وشباك تذاكر وحيطان يشير بأنّها بنيت لتكونَ سينما، رغمَ أنّ الحكومة جعلتها بالإضافة إلى ذلك قاعة لما أسمته "المؤتمر الشعبي الأساسي". ذاتَ يوم، بعدَ منتصف الليل، أقفلَ وائل السينما ودخلنا إلى صالة العرض. وضع سي دي فيلم بورنو وجلسنا على مقعدين بعيدين. كانت تلكَ أولَ مرة أشاهدُ فيها فيلم بورنو على الشاشة الضخمة. بعدَ أن فرغنا من الاستمناء، اقترحَ وائل افتتاح سينما أفلام خلاعية بعدَ منتصف الليل تقتصر على الأصدقاء الأجانب الذينَ تعرفنا عليهم عن طريق جيمس وصديقتاه. "في أوروبا وأمريكا، تنتشر سينما الأفلام الخلاعية، وقد باتت جزء من تقاليد الهيبيز وجيل الستينات والسبعينات. لم لا نقومُ نحنُ بذلك هنا؟" أعجبتني الفكرة، وعلى الفور اتصلنا بـ جيمس وأخبرناه بالفكرة. "غاااايز، كام آن، دي اس از آ باد آيديا"، "بل على العكس يا جيمس، هذهِ فكرة رائعة جدًا، أنتم تحبون ذلكَ في أمريكا... سيكونُ الأمر ممتعًا، اتصل بجماعتك الأمريكان، أنت شاب فاكد اب، أصدقائك الصايعين سيحبون الفكرة".

"اسمعا يا رفيقَي"، قال لنا جيمس في اليوم التالي عندما التقينا في كافي ماركوس بالمدينة القديمة "أمريكا ليست كما تتصورون، العشيقان مثلي ودايانا مثلاً لا نذهب إلى السينما الخلاعية لمشاهدة افلام البورنو، هذهِ تظلّ عادة غبية ومحرمة عندَ فئة كبيرة من المجتمع. المهلوسين جنسيًا والمدمنين فقط هم الذينَ يذهبون للسينما الخلاعية. أظنّ حسبَ عملي في السفارة أنّ لا وجودَ لهذا الصنف من الأمريكان في ليبيا".

في المساء، كنتُ أقفُ ووائل على الكورنيش، "نحنُ أغبياء يا وائل، لقد كنّا مضحكة أمامَ جيمس، بالفعل، نحنُ لا نفقهُ شيئًا في الثقافة الأجنبية، لأنّنا لم نعبر هذا البحر اللعين إلى أوروبا. لو كنّا هناك، لفهمنا ما قالهُ لنا جيمس ظهيرة اليوم". "دونت سي ذات دوود" قالَ وائل وهو يمسكُ بحجرة ويرميها بشكل مائل على سطح الماء، فكونت سربًا من الدوائر الصغيرة. "نحنُ سنذهبُ يومًا إلى أمريكا بمساعدة جيمس، لا تقلق أبدًا... كلّ شيءٍ سيكونُ على ما يرام... ولا تنسى أنّنا نتحدّث الانكليزية جيدًا".

***

نافذة العم كوستا
مقطع من نص قديم: المدينةُ تعيشُ صمتها. زمامير السيارات، وأصوات تصفير، وناس يزعقون ويضحكون. أخترقُ شارع البلدية، حتى أصل ميدان "الجزائر"، أرفعُ رأسي لمسجد الدعوة الاسلامية، الذي كانَ قبل أعوام "كاتدرائية طرابلس". الأضواء تلمعُ على حيطان المعبد، والسيارات تلتفّ حولَ الميدان كأنّهُ عروس. طرابلس تختفي خلفَ أصواتها وأرصفتها. مدرسةٌ كانت سجنًا، وعمارةً كانت قنصلية، ومقهًا كانَ حانة. أنحني يمينًا فأصيرُ في شارع هايتي. أسيرُ وأسيرُ، حتى أصلَ العمارة التي أسكنُ بها. أصواتَ الخزّان، وأصواتَ الفراغ. أخرجُ من تحتِ حزامي سكيني الأسودَ، وأخبئهُ داخلَ ثغرةً في عمود رخامي، وأصعدُ الدرجاتَ مهرولاً. لا شيءَ يجذبني للبقاء... أريدُ السفر

***

كولاج تغريدات من موقع تويتر (العاشر من يوليو 2012): أتحدث الان مع العمة ريحانة.. وهي يهودية ليبية برجوازية من سكان هامستد الشقيق، نتحدث عن طرابلس الستينيات وعن أصحابها البرجوازيون! وان نُفيت العمة ريحانة من ليبيا وهي في الخامسة عشر، الا انها تعيش في تفاصيل المدينة الليبية كأنها تركتها بالأمس! وامام المحل ادخن والعجائز البرجوازيات يحدقن في تيشيرت المقاتلون القدامي. "هذا الولد الليبي" تقول إحداهن. اري صور صحراء تحلق في عينا صديقتها.

***

عيد ميلاد (من المذكرة على الكوميدينو الملاصق للسرير): بات عمركَ اليوم يا مصراتي اثنان وعشرون عامًا، وبعض الجثث لأصدقاء لن تراهم مجددًا.. انهض الأن.. استقبل اليوم بالذهاب إلى عملكَ الممل.

***

مشهد من فيلم سينمائي: يصلُ الكابتن أنسون إلى طرابلس، باعتبارها الاسكندرية.. تلف سيارة الاسعاف الحربية حول ميدان الجزائر، وتقف قبالة بار أورورا، وهناك يترجّل الجميع من السيارة ويدخلون البار، ثمّ يطلب الكابتن بيرة باردة ومثلّجة.. يتأمل الكابتن الكوب أمامه وسائل البيرة ينزل في قعرها بغازاتها وقطرات الندى التي بدأت تتجمع خارجها.. ينزلق اصبعهُ على الكأس متحسسًا الندى، ثمّ يرفعُ الكأس ليتناول الشراب دفعةً واحدة.. "تستحق الانتظار"، يقول الكابتن بعدَ أن يضعَ الكأس الفارغة على طاولة البار، خاتمًا رحلته المميتة من أجل هذا الكأس في ذاكَ البار.

***

الوطنطن كما اكتشفهُ سالفادوري (تدوينة قديمة): ألفريدو هو الذي أجبر سالفاتوري للهجرة من سيشليا إلى روما.. قالَ لهُ وهو يحرّضهُ على الهجرة أنه لن يحقق شيئا في سيشيليا وأنّهُ لن يحقّقَ ايًا من طموحاته إلاّ لما يهاجر إلى روما وأن لا يعودَ أبدًا إلى قريته الريفية. سيعودُ سالفاتوري "توتو" إلى سيشيليا بعدَ ثلاثينَ سنة ليحضرَ جنازة ألفريدو وليشاهدَ المكان الذي وُلد وترعرع فيه.. ليشاهد سينما باراديسو مرةً أخرى، هذه السينما التي لطالما حملت في داخلها أجمل لحظات حياته، ولكن السينما كانت مهجورة وسيتم ازالتها بعد ايام، ألفريدو مات، وأمّهُ باتت عجوز كبيرة فقدت كلّ ملامح الشباب والجمال.. حتى الساحة العامة والشوارع تبدّلت ملامحها.. هكذا، اكتشف سالفاتوري أنّهُ باتَ غريبًا، وبشيء ما في داخله شعرَ أنّهُ لم يكن هناكَ داعٍ للعودة إلى قريته ولو لزيارة اهله والاماكن التي عاشَ فيها.. اكتشفَ سالفاتوري أنّ الوطن ليس بقعة جغرافية، بل هو الشيء القابع في المخيّلة وأن الوطن يعني حبيبته "ايلينا" التي باتت زوجة صديق طفولته.. اكتشف سالفاتوري اخيرا أن الوطن ليس سوى ذكريات طفولة لن تعودَ لهُ يوما.

***

من تعليق الرفيق أحمد ناجي لأحدى تدوينات الليبي التائه: لم تجد ما كنت تبحث عنه، ولم تصل إلى ما تريد. الخدعة أن أوديسوس في الحقيقية لم يصل إلي ايثاكا التى كان يريدها. إيثاكا لا تهم... المهم كان الرحلة.


تعليقات

‏قال MadeByHind
I am a fan of your blog, nice name, I am half Libyan too . You can check my blog http://thealternativearabwoman.blogspot.com/
‏قال عابد
تعود بنا الى ذلك الزمن الجميل .. طرابلس عروس البحر تنعم بالحرية وتتلمس خطواتها الاولى نحو نمو طبيعي .. الى حيث الطفرة وحكم العسكر .. ولابد للرواية ان تطال في جزءها الثالث مرحلة ما بعد .. وصعوبة وصفها .. ارك مؤرخا رائعا .. واتمنى ان تكتمل الرواية واحضى بقراءتها .. رائع كما انت اخي محمد
‏قال سمالوس…
لو كنت فخورا ببار يعصى فيه الله و تتحسر لان القدافي منعك عنه فا القدافي مات فبامكانك ان تفتح عشرات البارات وتفتخر كيفما تشاااء ف ليبيا حره

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات