انت لا تساوي حتى خراء الشهيد
كنتُ أجلسُ، رفقة ربيع، هيثم، وليلى. كنّا جالسين بمقهًا شعبي نتابع مباراة ما
تحمّست القاهرة كلّها لمشاهدتها.. حرّ الصيف، ومشادة كلامية بينَ هيثم وصاحب
المقهى بسبب غلاء أسعار كرسي الشيشة.. كنتُ وقتها شبه مخدّر، وهذهِ الجملة
"أنتَ لا تساوي حتى خراء الشهيد"، كانت تجوبُ في رأسي.. أسمعُ صداها،
يرتلُ عاليًا كمؤذن في لحظة خشوع. كانَ كلّ شيء يقارب الانهيار، وباستطاعتي آنذاكَ
أن أنقذ الموقف.. راودتني فكرة الوقوف ولكم صاحب المقهى العجوز على وجهه، ثمّ
الهرب، ولأنّ الشرطة ستبحث عنّي، ولأنّني في هذه المدينة دون تأشيرة اقامة، يمكنني
اذن أن ألكمَ هذا العجوز، وأوقعه أرضًا، ثمّ أجري متخلّصًا من ثيابي حتى الحدود.
كانَ كلّ ذلكَ سهلاً، ولا أدري، هل لأنني جبان، لم أستطع القيام بذلك، أم لأنّ هذا
أمر جنوني يستحيل القيام به؟
أنت يا صاحبي لا تساوي حتى خراء
الشهيد..
نعم، هكذا أسمعها تترنّحُ في أذني...
وكأس البيرة أمامي، وناجي يجلس قبالتي يتحدّث هو وشخص يجلس بمحاذاتي.. هذا الأخير
لا أتذكرُ اسمه، ولكنّهُ كانَ أصلعًا وشبيهًا بـ ميشيل فوكو.. تتذكرُ أنّكَ يومًا
كنتُ مقدمًا على حلق شعركَ كي تصيرَ فوكو أيضًا، لكّنكَ تعرفتَ على جورج بيريك
فأخترتَ طريق الأفرو ولحية الماعز.. أنفكَ الطويل وفمكَ الكبير يتماشيان مع تقسيمة
وجه بيريك.. تستمعُ إلى الصدى في داخلك، وتحاولُ تكذيب الصدى بأن تقف الأن وتقاطع
حديث ناجي... ترفعُ كأسكَ إلى الأعلى وتصرخُ في كل من في البار أن يستمعوا لك...
أنّكَ ستصيرُ شهيدًا في أيامٍ قليلة، وأنّكَ تعلن اللحظة موت ذاكَ الصدى داخلك..
لكنّكَ لا تقوم بذلكَ، بل تظلّ صامتًا على غير عادتك.. بل أنّ حتى مزاجك الرايق
دائمًا باتَ يتبخّر... هذا الوحش الذي في داخلك باتَ يستيقظ.. باتَ ينهض... والصدى
الذي يتبعكَ، باتَ كوقعات أحذية الجنود.. يقترب.
أنتَ يا صاحبي لا تساوي حتى خراء
الشهيد..
أمّكَ تتصلُ بك بشكل شبه يومي.. في
الأيام الأولى، تردّ عليها، تمزحُ معها، تحاول الأخذ بخاطرها.. هي في الواقع لا
تدري لماذا بتّ أكثر محبّة، وأكثرَ ضحكًا كما لم تكن من قبل، وكنتَ أنتَ كمن
يودّعها، وتصرّ دائمًا على الاتصال بها اذا مرّ اليوم دونَ سماعِ صوتها.. لم يبقى
لكَ الكثير من الوقت، بعدَ أيام، ستكونُ الحياة اكثرَ تعقيدًا.. سيصيرُ الزمن
أقصر... وفي ظلّ كلّ ذلك، تنزلُ النيل كل مساء، تحاولُ استنشاق هواء المدينة
البعيدة من هناك، وتحاول أن تعدّ الديون التي عليك، والأشياء التي تركتها، ومصير
كتبك وأقلامك وقصصك التي لم تنتهي وروايتك التي لا تزالُ تقاتل لتنجز فيها الجملة
الأولى.. يحدثُ كلّ ذلك، ومن أعماق النيل يأتيكَ صدى الصوت، كصرخة امرأة غرقت هناك
في رواية لـ محفوظ.
أنتَ يا صاحبي لا تساوي حتى خراء
الشهيد..
وفي السيارة تجلسُ في الخلف.. أخر
الصف، حيثُ بامكانكَ أن تجهّز لكلامك مع ضبّاط الحدود، وثوّار الحدود، حيثُ
بامكانك أن تكذب كذبتين لتمرّ بهما إلى حتفك. أمامكَ تجلسُ امرأة فرنسية، وبجانبها
أخرى أمريكية، وعلى طرف اليمين شاب فرنسي. تحكي لهم عن الوطنطن برومانسية تذكرها
الأن فتغصّ لتتقيأ.. رومانسية الناس، رومانسية المكان، رومانسية الحب وغيرها من
تلكَ الهواجس التي لطالما كفرتَ بها لتعودَ وتحتلكَ بشكلٍ هلامي بينَ ليلة
وضحاها.. وتظلّ تحكي لهم أيضًا عن طفولتك والناس الذينَ عرفتهم، ولا تنسى أصدقائك
الشهداء، ولن تنسى أقاربكَ الذينَ الأن، في هذهِ اللحظة وأن تحكي عنهم لهؤلاء
الغرباء، هم يقفون في الجبهات يمسكون السلاح.. تحكي لهم أنت الليبي التائه عن بلدٍ
في طريقك للعودة إليه، فيزدادُ حماس الغرباء للذهاب إلى وطنطنكَ العزيز. ولسوء حظّكَ
طبعًا، أنّ ضابط حدود البلد المجاور كانَ طيّب القلب، وأحبّك واحبّ قصتك، ومن سوء
الحظّ أيضًا، أنّهُ قامَ أيضًا باعطائك رقم هاتفه الخاص كي تتصل بهِ ان كنتَ بحاجة
لهُ عند عودتك. وعندَ بوابة وطنطنكَ العزيز، تنظرُ ماليًا في فوهة السلاح أمامَ
وجهك.. تنظرُ لها، لتلكَ الفهوة العميقة، وكأنّكَ تنظرُ لنفق مقدم على دخوله..
تسمعُ اصواتًا مختلطة، تختلفُ اللهجة عن لهجة ضابط الحدود الذي ساعدك.. تستمعُ إلى
لهجة وطنطنك العزيز، وهي ناقمة عليك... تغادرُ السيارة تحمل الفرنسيان
والأمريكية... بينما تظلّ أنتَ واقفًا بين البلدين.. تنظرُ أنتَ للشمس، وتنتظر
تلكَ اللحظة التي يسيحُ فيها جسدك ويذوب في هذهِ البقعة.
ألم أقل يا صاحبي أنّكَ لا تساوي حتى
خراء الشهيد..
تعليقات