حكاية عن الحرب والضحك
1 . انقضاء
أنا الأن، أتحسّس زبّي، وأعرف،
مجازًا، أنّ كلّ شيء بات ينهار دفعة واحدة، وأنّني، في لحظة ما، هنا، سأموت.
حياتي خراء داكن اللون وواقعية كنهدي عجوز
تخلعُ سنتيانها. اراها مضحكة كقطّ يلعب بفأر قبيل التهامه وفي أحيانٍ أخرى مملة
كأخر نصف ساعة من دوام مدرسي أو عفنة كجوارب جندي تائه في الصحراء. إنّها صيحة امرأة تُغتصب وانّي حشرة في روايات
كافكا، أو ربما أفعى في مرحاض. والحقيقة المتجّلية، أنّ حياتي رتيبة، قبيحة،
جميلة، عفوية، متناقضة، كـ ليبي يمشي وسط القطيع ويعتقدُ أنّهُ الاختلاف.
أطرافي باتت تذبل. الطبيب الانكليزي
الأشقر يبلغني بأسف عن قرار بتر ذراعيّ. وهو يخبرني ذلكَ بأسف، أراني أتحسّس زبي
المنتصب، وأدركُ في لا وعييَ، أنّني لن أستطيع بعدَ اليوم الاستمناء في لحظات
أحتاجُ فيها لإفراغ شهوتي. أن يفقدَ المرء ذراعيه، يعني أن يتحوّل إلى كومة من
الأحشاء والعظام دونَ أيّ معنى.. حياتي، ستصيرُ مبتورة. سأصيرُ قطًّا جائعًا..
هكذا، دونَ ذراعين. الموتُ أفضلَ بكثير من هذا الحال.. أتذكرُ بالطبع العديد من
المواقف التي كادت أن تحسمَ حياتي، ولأول مرة تمنيتُ أن أصيرَ ميّتًا، وأنّ احدى
تلكَ المواقف القاتلة، كانت خاتمة لهذهِ الحياة. أن يكونَ المرءُ دونَ ذراعين،
فهذا أمرٌ صعب وحقير جدًا، كما تعلمون. ولكن لا يملكُ المرء شيئًا سوى العيش ورؤية
الشفقة في أعين الأخرين حوله. سأرى العديد من الناس تقول عنّي بطل ورمز الوطن. وطن
دونَ ذراعين، هكذا سيخطرُ في بالي كلّما سمعت ذلك. نعم، سأفقد كلتا الذراعان،
قحبتاي الأبديتان.. لا شيء أكثر ألمًا من ذلك. لن يصيرَ بامكاني تحسّس الأشياء
حولي: لي علاقة غريبة بالأشياء حولي. بامكاني مثلاً، أن أتأمل أحدهم لمدة من الزمن،
وأدقّق في التفاصيل في وجهه: التجاعيد، شعيرات قليلة على الجبين، انشقاق في الشفة
السفلية، لحمة الأذن، الشامة الصغيرة أسفل الأنف. تفاصيل المكان أيضًا. رغمَ ذلك،
لا أنجذب لهذهِ التفاصيل، بل على العكس تمامًا، تتحوّل كلّها إلى مشهد سينمائي
سوريالي، أشبهُ بالأفلام الفنية المملة. هذا العقل الذي يقبعُ في جمجمتي، يحملُ
كلّ أصناف الرعب والخوف والكره والحقد. أملكُ من السخرية الكثير، حدّ الشعور بأنّ
كل شيء حولي سينهار. استمتعُ بجمال أنثى تقفُ أمامي، لكن بامكاني أيضًا أن
أتخيّلها في مكانٍ ما في عقلي، وحشًا، بشعر مكهرب وأسنان كبيرة قادرة على قطعي إلى
أجزاء صغيرة.
2 . معانٍ
عندما كنت في طريق عودتي من الطبيب
إلى بيتي، تساءلت: "ما معنى الحياة؟ ما معنى الوجود؟ ما معنى الله؟ ما معنى
الوطن؟ ما معنى الكرامة والعز؟ ما معنى الثورة وما معنى الحرية؟".
يخيّل لي أن أجوبتنا على هذهِ الأسئلة
ستكونُ مبتورة، كذراعيّ بعد أسبوع. ويخيّل لي أيضًا أنّنا لن نصل إلى اجابة بكامل
جسدها. ستكونُ أجوبتنا دائمًا مختصرة.
في أشهر الحرب، وقبيل خلودي إلى النوم
في ساعات مبكّرة من الصباح، تعبًا ومنهكًا من جبهة الحرب وصوت الرصاص والتكبير
والصراخ، كانت تراودني أسئلة كثيرة. هذهِ الأسئلة لم تكن ذاتَ ملامح حقيقية وجادّة
آنذاك، لكن حينَ كنتُ لاحقًا في المشفى المدني، بعدَ أن قطع لساني اثر صدمة وقوع
قنبلة بالقرب مني، وكانَ الألم يعتصرني، شعرتُ أنّ هذهِ الأسئلة تلوّح لي.
لو كانت الحياة عبارة عن
"ترانزيت" لحياة أخرى.. هل كان من المفترض أن نقاتل ونخوض هذهِ الحرب؟
في عقلنا الباطن، كنّا ندرك أنّ لا شيء في انتظارنا، لكنّنا أوهمنا أنفسنا وحسب،
حتى لا نخاف ونحنُ ندركُ أنّنا في أقل من أسبوع، ربما، سنصيرُ جثث يأكلها الدود.
3 . حكاية
كانَ ذلكَ في منتصف شهر مارس. خرجتُ
ورفيقي إلى أطراف القرية. كانَ المكانُ خاليًا. معظم سكّان القرية نزحوا إلى الجهة
الشرقية من المدينة، حيثُ بدأ الرجال هناكَ باعداد أنفسهم للقتال. نظرًا لصغر سنّي
وانطوائي على نفسي معظم الوقت، لم أحظى بسلاح، وكلّ ما أملكُ كانَ هذا المقرون
المخصص لصيد الطيور. رفيقي يمتلكُ مسدس 9 ملم، أعطتهُ اياه والدته عندَ النزوح،
وذلكَ ليحمي بهِ نفسه ان تعرض للخطر.
وقفنا على اطراف مزرعة في حدود
المدينة، ورأينا سيارات ودبابات تقترب. حشوتُ المقرون ببضع طلقات، وكذلكَ فعل
رفيقي بحشوهِ لبضع رصاصات في مسدسه. حينَ اقتربت السيارات والجنود من أطراف
المزرعة، أطلقنا عليهم.
للمقرون ميزة، الا وهي أنّ الرصاصة
تتبعثر لتصير أكثر من عشر رصاصات صغيرة، وهكذا رأيتُ العديد من الجنود يتساقطون
جريحين، بينما رفيقي أطلق ما يقارب الستة رصاصات، أصابت أحدهم فقط. ثمّ جرينا
هاربين إلى بيتٍ صغير بأسوار قصيرة في المزرعة.
كنتُ عالقًا ورفيقي في جنان بيتٍ ما
في القرية. صوتُ الرصاص يقتربُ تدريجيًا. أظنهم لمحوا مكان تواجدنا. الرصاص يتطاير
فوقنا، وأصواتَ السيارات تقترب ببطء. لم يكن هناكَ أحد في البيت. العائلة التي
كانت تقطنه غادرت إلى قرية أخرى في الجانب الأخر من المدينة بعدَ ان اكتشفوا أنّ
قريتنا ستكونُ أول هدف لقوّات الجيش نظرًا لوقوعها في الجهة الغربية من المدينة.
وقتها، كنتُ أمتلكُ قلادة أعطتني
اياها الحاجة والدتي في أولى أيام الحرب. كانت عبارة عن قلاة ذهبية كتب عليها بخطّ
صغيرة آية الكرسي. أهداها والدي المرحوم هذهِ القلادة يومَ زواجهما. طلبت منّي
الحاجة الاحتفاظ بها في جيب سترتي، عندَ القلب مباشرةً، لأنّها ستحميني "بإذن
الله". لحظتها، وأنا رفقة صاحبي في جنان البيت المهجور، شعرتُ بقلبي يخفق
بقوّة، فتذكرتُ آية الكرسي. في جيب قميصي. وقتها باتَ الرعب لا من الرصاص ولا
الوقوع في قبضة جنود الجيش، بل أن يقومَ أحد هؤلاء بخطف القلادة من جيبي وبيعها،
وبذلك أخسر أثمن هدية تلقتها أمي في حياتها. أخبرتُ صاحبي بأمر القلادة. أراهُ وقد
شعرَ بالعذاب الذي أعيشهُ على هامش مصيبتنا. طلبَ منّي على الفور بلع القلادة، وان
نجونا لاحقًا بإمكاني أن أخرجها وفضلات معدتي دونَ أن تقعَ في يد أحد من اؤلئك
الذين على الجانب الأخر.. حاولتُ بلعها ولم أقدر.. كانَ من الصعب بلعها.. جرحت
حنجرتي بسبب زواياها الخادشة. بكيتُ وقتها وأنا ألفظها خارج فمي على الأرض. تقدّم
صاحبي ناحيتي وسحبَ القلاة ورماها في فمه وابتلعها.. رأيتهُ يرميها في فمه..
فصرختُ فيه أنّها ملكي.. فقدَ أعصابهُ وقال لي أنّهُ سيخريها لاحقًا ويعطيني اياها،
وأنّ الأن حانت اللحظة للتفكير في مصيبتنا ومحاولة النجاة.
لا أدري كيفَ نجونا.. ما أتذكرهُ
أنّنا كنّا نجري ونقفز ونتجاوز أشجارًا ومستنقعات.. كنّا نجري والرصاص خلفنا..
شجرة أمامي أصيبت ببعض الرصاص الذي كانَ من المفترض أن يخترق جسدي.. ليسَ بامكاني
تمييز التفاصيل.. إلاّ أنّ الأمر المحتّم وقتها كانَ تلكَ القذيفة التي انفجرت
بالقرب منّي ولم تصبني.. من هلعي ورعشتي وقتها، عضضتُ لساني. أنتم بالطبع تعرفونَ
صعوبة عضّ الشخص للسانه، وأخبركم الأن، أنّني في تلكَ اللحظة عضضتُ لساني بقوة،
حتى شعرتُ بالبرود في فمي.. حينَ نجونا من العدو، واندلفنا إلى ناحية أخرى، في
مزرعة بعيدة، انطرحتُ على الأرض، وبصقتُ دمًا غامقًا من فمي.. حركتُ لساني قليلاً
في فمي.. ثمّ رميتُ بشيءٍ يشبهُ اللحمة على التراب.. رميتُ لساني.. قطعتُ لساني
بأسناني.
4 . كتابة
عندما عدتُ إلى البيت من الطبيب، جلستُ
لكتابة هذا النص.. نصّ عن لساني. لديّ أسبوعٌ واحد فقط لأنهيَ كتابة هذا النص
وتعديله. بعدَ أسبوع ستبتر ذراعيّ. لن يكونَ عندي لسان ولا ذراعين.. سأصيرُ جثّة
لا تجيد النطق.. سأسمعُ فقط، ولن أجيدَ الكلام. سيكلمني الأخرين، وسأستمعُ أنا
فقط، دونَ ابداء رأيي في ما يقوله محدثي.. هذهِ فكرة مرهقة، وربما لهذا أكتبُ لكم
الأن هذا النصّ الملغّم بكل أنواع الغضب.. بعدَ أسبوع لن يكونَ بامكاني الكلام ولا
الكتابة.. لهذا، سأنفجرُ بكل ما أملك، وتبًا للجميع، وتبًا لمن سيقراؤن كلامي
ويستهزون منّي أو يطالبون بعقابي.
أريدُ تخليدَ نفسي في هذا النص. أن
أفرغَ فيه غضبي وسأمي ومزاجيتي وحكاياتي. أن أحكي عن الحبّ، عن نساء كثيرات، عن
حشيش وخمر.. عن حرب ضاربة وقذائف وبعض القنّاصة على المباني العالية.
أكتبُ الأن مشاهد تبيّن مدى هشاشة
الإنسان ووحشيته، بتناقضاته وانفعالاته. أحاول تجسيد حالة الموت أمامي، والدخان
الأبيض يغطّي الغرفة.. الغرفة صغيرة جدًا لدرجة أنّ رؤيتي داخلها وسط سحب الدخان بات
صعبا. أشعرُ بنفسي كمن يجلسُ في عبوة دخان من الغازات السامة، منشرحًا بذاتي في
النصّ الذي أكتبه، وقد أفتتحت أمامي عوالم وانفجرت مشاعر تعطي للكتابة نوعًا من اقتحام
ثغرات ضيّقة في داخلي.
هذا الوقت القصير الذي أمتلكه يجعلني
أتخلى عن افكاري في الكتابة، والفكرة الوحيدة التي ينبغي عليّ حكيها، هي قصة لساني
وصاحبي.. هذا الألم الذي يعتصرني الأن حالة تجعلني أركّز كلّ كتابتي لأرمي ما يشبه
الاعتراف أو الوصية.
"الحربُ" هكذا أكتبُ "كما
رأيتموها في النشرات والأخبار، كانت، بالنسبة لي، تفاصيل دقيقة جدًا".
الكتابة فيها هي الدقّة. في الحرب، تتحوّل المشاهد والأصوات والصراخ والمناوشات،
كلّها تتحوّل إلى كلمات، إلى أسطر ومشاريع كتابة.. هي البرواز والتفصيل في زوايا
لوحة كبيرة. في الكتابة، شعور باللذّة. لذّة التحرّر، ربما، التحرّر من كلّ القيود
التي تحيط بي في حياتي. رسم لحالة خاصة بينَ أجزاء وأعضاء كثيرة تنبلجُ بقوّة في
هذهِ الأوراق. أكتبُ بقضيب من الرمل، وأخافُ عليهِ من الماء. الكتابة حالة أشبه
بممارسة الجنس مع امرأة غريبة على قمّة جبل جليدي: البرد القارس واحتكاكَ جسدي
بجسدها، لذّة، وبحثًا عن زوايا الدفء فيها.
5 . حكاية، أيضًا
حينَ قطعتُ لساني بأسناني، ورميتهُ
كبصقة من فمي على التراب يغطيه الدم.. كانَ أولُ شيء أنطقهُ هو "آآه.. داه..
آآه.. تاتا".. التفتّ إلى صاحبي، غيرَ مصدّق.. كأنّني كنتُ في حلم وقتها، أو
بالأحرى، اعتقدتُ أنّني كنتُ احلم.. كانَ مشهدًا غريبًا، خاصةً عندما التفتّ إلى
صاحبي، لأراهُ منطرحًا على الأرض.. مشيتُ ناحيته وحركتُ جسده.. كانت هناكَ رصاصتان
على جسده.. واحدة في منتصف ظهرة والأخرى على جانبه الأيسر.. أو هكذا خيّل لي..
وقتها، ولأكن صريحًا أكثر.. كنتُ أفكّر بشيء واحد فقط، الا وهو قلادة آية الكرسي..
لا لساني على التراب ولا جثّة صديقي أثارتا الرعب في داخلي قدر رعبي بشأن القلادة
التي ابتلعها قبل قليل.. حركتُ جسده.. فتحتُ فمه وحشوتُ يدي فيه باحثًا عن
القلادة.. ضربتهُ مرارًا.. صورةُ الحاجة أمّي عالقةً في رأسي بالطبع.. لا أدري كيف
راودتني الشجاعة وقتها لأخرجَ سكّينًا من حزام سروالي وأطعنُ بهِ بطنَ صديقي..
رأيتُ دمًا ينفجر اثر الطعنة.. ثمّ أنزلتُ السكّين حتى الخاصرة، وأخرجتهُ من
جسده.. طعنات أخرى متتالية، ثمّ رميتُ بالسكين بعيدًا.. بيديّ أوسعتُ فتحَةَ
البطن.. مزقتها، ثمّ حشوتُ يدي فيه.. كانت مهمّة شاقة، ولا أدري كم من الوقت
استغرقت باحثًا عن القلادة: أخرجتُ أمعائه وأفرغتها على الأرض.. بحثتُ في خيوط
كثيرة.. مصارين وأوعية دموية.. هناكَ بعض فتات الخبز، هناكَ الكثير من الخبز ولا
شيء أخر.. أضعُ كلتا يديّ داخل بطنه وأخرجُ ما فيها، ثمّ أنبّشها باحثًا عن القلادة
الصغيرة.. صارت بطنهُ فارغة، وأحشائه بيني وبينَ جسده.. شيءٌ يشبهُ طقوس العيد
الأضحى. لم أعثر على القلادة. مسحتُ جبيني من العرق.. شعرتُ بشيءٍ يقطّر على عيني،
وأدركتُ أنّهُ دم.. عندما قارب الليل على التخييم فوقنا، قررتُ نسيان أمر
القلادة.. كانَ من الصعب أن أحملَ صاحبي إلى أهلهِ بهذا الشكل، لهذا قررتُ حفر قبر
هنا، في مكانهِ هذا والنفاذ بجلدي.. حفرتُ حفرةً، ثمّ قمتُ بتوسيع البطن الممزقة.
رفعتُ المصارين والأمعاء ووضعتها في بطنه.. كنتُ أعيدها بشكل فوضاوي إلى بطنه، كمن
يملئ كيسًا... ثمّ قبيل وضعي للجسد في التراب، وضعتُ يدي في جيوبه لأخذ محفظته
وأشياءه لإعطائها إلى أهله، أو لأحتفظ بها كذكرى.
6 . تاك، تاك، تاك
أجلسُ الأن وأكتب.. صوتُ الكيبورد
"تاك تاك تاك.."، هناكَ كتابة عن الحب، كتابة عن الحرب.. كتابة عن
الواقعية المتجذّرة فينا.. عن أحلامنا وطموحاتنا.. هناكَ تاك تاك تاك.. صوتُ
كيبورد وأنا أدوّن فكرة أرهقتني.. ذكريات مؤلمة.. أكتبُ حكاية لم يمرّ الكثير من
الزمن منذُ وقوعها.. تاك تاك تاك.. حكاية مزعجة، ستوريكم السبب الذي جعلَ منّي
هكذا، هائم في أفكاري وأحلق من فكرة إلى أخرى.. حساسيتي المفرطة لم تتماشى مع
الحرب، ولكن هذا الوحش في داخلي يظهر ويختفي من حينٍ إلى أخر، وليسَ بامكاني منعهُ
من التحدّث، من البوح والحكي. في واقع الأمر، أنا لا أطبع على الكيبورد تاك تاك
تاك، بل أحفرُ قبرًا على منضدة.. تاك تاك تاك.. أنقرُ في خيوط الشمس، تاك تاك تاك.
أخرأ واقفًا على فصل الربيع! أستمني على الأطلال! أقرّض أناملي بأسنان اصفرت.. أبصقُ
في وجه من آراهُ وأنا أجلسُ أمامَ التلفاز.. ولا شيءَ يعتصرُ الألم سوى رائحة
الفلفل على قميصك.
لا جديد.. هكذا سأكتبُ دائمًا، لا
جديدَ أبدًا، وكل شيء يؤدي إلى ذاتِ النقطة.. الاحباط.. الرعب.. حكايتي كلّها سبلٌ
للرعب لا أكثر. الخوف من كل الاشياء حولي، وفي كل النساء اللاتي تمنيتُ مضاجعتهن،
وكل الأدباء الذينَ لم افهم كتاباتهم.. كيفَ لي أن أستحملَ سخافتي – جوعي.. موتي
البطئ.. السجائر التي أدخنها دونَ توقف.. اللامبالاة التي اعتصرت أخر الرفاق في
حياتي. لا تصدّقوا ضحكتي التي ترتجُ لها كؤوس الخمر، هي ضحكة مفتعلة.. ولا تصدّقوا
عينيّ.. حياتي صارت منقسمة بين الواقع والخيال.. ولا شيء يهمني. بما أنّ الحرب
انتهت الأن، وبوسعي مثلاً أن أجلسَ على الكنبة، وأدخن جونتة وأستمعُ لـ "ذرّة
قلب الأم" أو "مجنون في جوهرتك المشرقة" أو "الجانب المظلم من
القمر"، فوقتها لا شيء يهمني.. لي من الموسيقى والكتب ما تكفيني لأعوّض حواسي
المتبخرة.
7. اسقاط
أنا، حفرة سوداء في ثقب الأرض. نبي
فقدَ شعبهُ في "حوازة". فأر في معدة خنزير. بول في بنطال مقاتل عالق في
الجبهة. دم بكارة. علبة سردين فارغة على الشاطئ. دلاّعة سقطت فوق رأس طفل رضيع. طاقية
الشوك على رأس المسيح. جلباب الرسول وهو مقدم على رمي نفسه من الجبل. شقّ طفيف على
شفتي امرأة، وأعوجاج رقبة الجمل. عبدالسلام الأسمر وهو يصارع الحنش في البئر.. أنا
شعبٌ تآكل في جعبة قدّيس.
هيا يا حبيبتي هيا.. لنتنايك وبكل أحلامنا
وضحكاتنا وذكرياتنا تحتَ الـ أبو نجمة وهلال.
نعم يا حبيبتي، يا ثمرتي الناضجة.. يا
شفتا الخوخ بطعم الليمون والسكر.. لا أريدُ لنفسي موتًا طبيعيًا، بل أريدُ لموتي
معنًا.. لا أريدُ أن أصيرَ في التسعين من عمري وأدركُ أنّني سأموت في أي لحظة
الأن.. بل أن أموت في الخامسة والعشرين، وفي داخلي بصيص أمل بسنين مقبلة.. أريدُ
أن أموتَ في أي لحظة الأن دونَ أن أدري: سيارة تدعس وجهي.. قاطع طريق يغتالني من
أجل جنيه، أو في أفضل الحالات، حبيبة غيّورة جدًا حدّ اقدامها على تقطيع جسدي وأكل
قلبي، ثمّ تضع باقي أطرافي في الثلاجة.. كلّ ليلة تأكلُ قطعة من جسدي رفقة كأس
نبيذ.. أمّا جمجمتي، فتضعها بالقرب منها، على الوسادة في سريرها.. تتأملني كلّ
مساء، وفي الصباح تطبع قبلة على الجبين قبيل انصرافها لعملها الممل.
8. أصابع
ذراعي اليمنى ازرقّت، والأخرى ترتجف..
أصابعي تتساقط.. اصبعًا وراء أخر!!
9. وهم
أوهمني صاحبي وأنا في لحظة الخوف تلك
أنّهُ ابتلعَ القلادة حتى لا أشغل وقتي بها والموت يحلّق أمامنا.. رأيتُ القلادة
الذهبية، وكانت في جيبه.. تأملتها بيدي المغطاة بالدم. ضحكتُ وقتها على ما أعتقد..
كنتُ أمتصُ غضبي بامتصاص الدم الذي ما يزال ينزف من لساني.. لم أهتم وقتها بالألم
الذي كانَ يعتصرني بسبب قطعي للساني. تأملتُ القلادة الذهبية اذن، ومن ثمّ تأملتُ
صاحبي المغطى بالدم والمنتفخ عندَ البطن بسبب فوضاوية أحشائه داخله. رميتهُ في
الحفرة، وصليتُ عليه.. قبيل رميي للتراب فوقه.. رميتُ قلادة الاية القرآنية معهُ..
انزلقتُ مباشرة داخل شقّ بطنه، وأختفت وسط الأحشاء.. ثمّ غطّيتهُ بالتراب.
10. الحكايا كما لم أخبرها من قبل
عندما انتهيتُ من الفصل التاسع من
هذهِ الحكاية، أرسلتُ المخطوط لأحد الأصدقاء، وفي ردّه، بدأ عليهِ الغضب، لأنّني
حرّفتُ القصة، وقالَ أنّهُ من المتوجّب عليّ سرد التفاصيل دونَ كذب وتزييف، حتى
وان كانَ ما أكتبهُ عبارة عن قصة قصيرة.
في واقع الأمر، كانَ صديقي على حق،
فمن المتوجّب عليّ قبيل قطع هاتين الذراعين، أن أحكي كلّ شيء دون خوف، وهكذا،
قررتُ أن أخبركم حقيقة صاحبي، وكيف أنّ ما حدث أعلاه لا يتعدّى كونه مادة خام في
رأسي. ربما لأنّ الحكاية الخيالية التي حكيتها لكم، أقلّ بشاعة من التي سأحكيها
لكم الأن. على أية حال، كانَ صديقي في الحكاية التي نسجتها جثة لا أكثر، إلاّ
أنّهُ في الحكاية الحقيقية كانَ لا يزالُ حيًا.
11. الحدث
حينَ كنتُ مرتعبًا، وأنا أنظرُ للساني
ممرغًا بالتراب والدم، وأشعرُ بهواء بارد في فني وطعم صدئ، التفتّ لصاحبي الذي
انطرحَ تحت شجرة ويدهُ على جانبه.. رأيتُ الدمّ على يده، فأدركتُ بأنّهُ أصيب
برصاصة.. اتّجهتُ نحوه وأمامَ وجهه فتحتُ فمي ليرى الدم منفجرًا، ثمّ فتحتُ لهُ
يدي ليرى قطعة من لساني. سمعتهُ يستغيث من أجل شربة ماء.. لم يكن معنا ماء ولا
طعام، وفي كلّ الأحوال، لم نكن لنغامر بعيدً عن مكان اختبائنا هذا، فلربما هناكَ
الجنود في مكانٍ ما لا يزالوا يبحثون عنّا.
لا أدري كم من الوقت جلستُ وأنا
أنتظرُ المغيب.. كانَ صاحبي قد استلقى على الارض وهو يهدي بكلمات لم أفهم منها
شيئًا، وكلّما سألته ما بالهُ، يقول لي أنّهُ يودّ جغمة ماء. لن أكونَ كاذبًا ان
قلتُ لكم أنّني لم أمتلك أية مشاعر وقتها.. لم أحسّ بوجع صديقي ولا بوجع فمي ولا
بوجع أي شيء على الاطلاق.. في هكذا لحظة، شعرتُ بأنّ أهمّ شيء هو البقاء على قيد
الحياة. شجاعتي هذا الصباح وأنا أحملُ المقرون وأقوّص على أفراد الجيش تبخرت،
هكذا، بمجرد أن سمعتُ صوتَ الرصاص المتطاير نحونا، ثمّ تلكَ القنبلة التي كادت أن
تحوّلني إلى أشلاء.
يخطرُ في بالي مشهد فيلم سينمائي
شاهدتهُ ورفيقي قبيل الحرب بأشهر قليلة، في تلكَ الأيام التي قررنا أن نصيرَ فيها
مخرجين سينمائيين. عنوان الفيلم "الكل ينسحب في جبهة الغرب"، وهو فيلم
كلاسيكي، وفيهِ أحد الأبطال يقول ما معناهُ أنّ في تقديس الوطن وحبه والاستعداد
للموت من أجله، كلّ هذا يتبخّر مع بدء أولى مراحل القصف. لم تكن تلكَ المقولة
مثيرة بالنسبة لي ساعة مشاهدتي للفيلم، ولكنّها في تلكَ اللحظة بالذات، وأنا أسمعُ
لمواء صديقي جانبي، وابصقُ كمية من الدم من وقتٍ إلى أخر، وصداع بدأ يأكل عقلي،
فكرتُ في الفيلم، ثمّ على حينِ غرّة، تذكرتُ القلادة التي ابتلعها صديقي.
سألتهُ ان كانَ بامكانهُ أن يعيدَ لي
القلادة.. كانَ وجههُ يقطّر عرقًا.. وضعتُ رأسي على جبينه فشعرتُ بسخونة رأسه..
طلبتُ منهُ مجددًا اعادة القلادة لي ولكنّهُ لم يكن ليسمعني.. كانَ يموتُ ببطء.
فكرة أن يموتَ صاحبي الأن، يعني أن أخسر القلادة إلى الأبد.. مسكتُ ياقة قميصه
وسحبته تجاهي وأنا أصرخُ أن يعيدَ لي القلادة.. حينَ أعادَ رأسهُ على الأرض، وقد
أغلقَ عيناه وباتَ يلفظ أخر أنفاسه.. رفعتُ يداي وبتّ أصفعه، مرة واثنين فثلاثة..
أصرخُ فيهِ أن يعيدَ لي القلادة الأن. آمرهُ أن لا يموتَ إلاّ حينَ يعيدُ لي
القلادة.. شتمتهُ وأنا أصفعه.. بصقتُ على وجهه.. فتحَ عيناهُ وطلبَ منّي أن
أساعدهُ على الجلوس. قمتُ بذلكَ على الفور. أظن بأنّني كنتُ أبكي، لا أذكرُ الأن،
ولكن كأنّي كنتُ أبكي.. يمكنني الأن أن أشعرَ بشيء ما كانَ يحرقُ عينايَ وقتها.
حينَ ساعدتهُ على الجلوس، خلعَ سرواله
وأستند بذراعيه على الأرض. كانَ يحاولُ اخراجَ القلادة بكل ما يملك من طاقة وبأخر
أنفاسه.. وكلّما عصرَ معدته، رأيتُ الدم يتدفق أكثر من جرحه، وقد باتَ وجهه يصفر..
جلستُ على الأرض متأملاً التراب تحتهُ: الدم ينزل من حفرة شرجه أيضًا.. رأيتُ
خيطًا من الدم ينزل من فتحة شرجه إلى التراب، ثمّ سقطت فوقها خيوط الخراء، ولمحتُ
بريقًا ذهبي مغطًا بخيط الفضلات.. وما ان انتهى صاحبي من انزالها، حتى باتَ التعب
يأكله وباتَ يزفر بقوة.. لحظتها، شعرتُ بشيء من الذنب باتَ يعتصرني، وفكرتُ أن
أنقذهُ الأن، وأن أذهبَ جريًا لإتيانه ببعض الماء والدواء، أو أن أحملهُ على كتفي
إلى شرق المدينة حيثُ اجتمعَ الأهالي.. في ظلّ هذا، انطرحَ صاحبي على الأرض..
اقتربتُ نحوه.. وضعتُ رأسي قريبًا من وجهه وتأملتُ عينيه المفتوحتين.
لاحقًا، سأدفن صاحبي في ذاتِ المكان
الذي فارق فيه الحياة، وسأرمي القلادة معهُ وأردمهما، كما أخبرتكم سابقًا.
12. مبرد دمك
أذكر، أنّ تلكَ كانت أول مرةٍ أرى
فيها انسانًا ميتًأ.. وعلى الرغم من أنّني شاهدت العديد من الموتى في الأيام التي
ستلي ذاك اليوم، ولكنّ صورة صاحبي في مخيلتي، أكلت نصف العقل، والنصف الأخر كانَ
عبارة عن خيال أنّني لم أقتله، بل قطعت أحشائه لاستخراج القلادة، ولكي أصدّق
الكذبة، أضفتُ عليها قصة القلادة في جيبه، لأشعرَ بتأنيب الضمير، ولكن ليس بتلكَ
القسوة التي حدثت في الواقع... "مبرد دمك"، هكذا قالت لي يومًا صديقة في
المدرسة.. وكانت تقصد أنّني ثقيل المزاح، ولكن كلّما تذكرتُ الواقع وما حدث، قلت
لنفسي "مبرد دمي"، ثمّ أنهمر في البكاء
***
"كما أخبرتكَ يا صديقي.. هذا ما
حدث.. ولننهمر في الضحك أيضًا".
CUT!
تعليقات
لا أشك انك كاتب مميز ، ولكن في قصصك شيئ من الرتابة ، يجعلني في بعض الأحيان اقفز للسطور التالية دون أن اقرأ ما قبلها ،
تقبل مني مروري
إجمع شتاتك ..أو صلني بالحضيض كما يجب.
هناك شيء ما مني هنا في نصك.
بالاجمال أحببت من أبن أتيت لأنني لا أستطيع التنبأ بوجهة المستقبيلية. بالتوفيق.