تــــوتــــــــــو

توتو يمارس روتينهُ الصباحي (تصوير: غازي القبلاوي)


الفصل الأولتوتو كانَ مجرّد فكرة لا أكثر، والباقي كانَ مجرّد هاجس.

الفصل الثاني"نحنُ نصنعُ الابداع يا أولاد القحبة"، هكذا أطلقها توتو صارخًا، واقفًا على حافة الشرفة، يخاطب الطيور الممتدة على طول السماء، ومنذُ ذاكَ الحين، لم يعد يتساءل توتو عن طعامه ولا شرابه. يجلسُ اليومَ بطولهُ أمامَ النافذة الكبيرة، يراقبُ القطط الشنابوات على سور البيت. يفقدُ أعصابه من حينٍ إلى أخر. ينظرُ إلى السور المقابل للشقة كأنّهُ امتدادٌ لحلم ما في داخله. قالَ لي يومًا أنّ هناكَ قطّ يشبهه، كانَ هذا يضايقهُ، أو هكذا خمّنتُ وقتها، ولم أنصحهُ بالتوقف عن التحديق في القطط المقابلة على السور. كنتُ أضعُ لهُ الطعام كلّ صباح، وكل ظهيرة وكلّ مساء، وعندما أشعرُ بالملل والفراغ، أمسكُ يداهُ ونرقصُ على أنغام المرسكاوي، ثمّ يُشغلُ نفسهُ بالوقوف على النافذة والتأملُ مطوّلاً خارجها.

الفصل الثالثالقطّ الأسود الذي اقترفتُ بحقّه جناية كانَ دونَ اسم، ومن هنا جاء توتو، أي من تلكَ اللحظة. قتلتهُ (أي ذاكَ القط) عندما كنتُ في السابعة أو الثامنة من عمري على ما أذكر. علقتُ عليهِ في زاوية زقاق عمارتنا. بكل برودة أعصاب قتلته.

الفصل الرابعاستخدمتُ في قتلهِ انبوبًا بلاستيكيًا، نحشو في فوهته مسمارًا مثبّتًا في ورقة ملفوفة، بحيثُ يكونُ أعلاه على مقاس فوهة الأنبوب، أمّا نهايتها فتكون زاوية مثبّت فيها مسمار جديد مسنّن الرأس. علينا أن نحكمَ لفّ الورقة على المسمار كي تكونُ صلبة أثناء اصطدامها بالجسد الذي نرمي عليه. أضعُ ورقة المسمار في الأنبوب من الزاوية التي سأضعُ فيها فمي، أسحبُ نفسًا عميقا وأنفخُ في الأنبوب، فتخرج "الرصاصة المسمارية" بقوة وترشق هدفها.

الفصل الخامس: ولأنّ زقاق عمارتنا ملئ بالقطط الشاردة، كان هذا سببًا للتسلية بتعذيبها: بدأتُ بملاحقة القطط في تلك الظهيرة، حاملاً في يدي انبوبًا بلاستيكيًا ومحمّلا في جيبي برصاص المسامير. القطط الشاردة صعب ملاحقتها، إلاّ ذاك القط الأسود الحديث الولادة. استطعت أن أعلقَ عليهِ في زاوية الزقاق، وبالتحديد، تحت بوستر ضخم عليهِ رسومات تاريخية كتبَ عليه "أزياء أكاكوس"، ليعلن للمارين في الشارع أنّ في هذا الزقاق محلّ لبيع الملابس. رفعتُ الأنبوب البلاستيكي، صوبته ناحية القطّ الجاثم على نفسه، خائفًا، ثمّ "هوووووف"، نفختُ في الأنبوب.

الفصل الخامس والنصف: المرة الأولى التي تذكرتُ فيها هذهِ الحادثة، كانت بعدَ مضي ما يقارب الثلاثة عشر عامًا على حدوثها، كانَ في تلكَ اللحظة التي جلستُ فيها رفقة توتو.. كنّا مسطولين.. أنا منشغلٌ بتأمل لوحة فنّية على الحائط، وهو جالسٌ بالقرب منّي، مسنّدًا ظهرهُ على مسند الكنبة ويحدّق في شاشة التلفاز ولعابهُ يتساقط دونَ أن يحسّ. نشاهدُ أفلامًا سوريالية كلّ مساء، وكانَ يحبّ مشاهدة فيلم "بارتون فينك"، على الرغم من أنّنا شاهدناهُ العديد من المرات، ولكن هذا الفيلم بالذات يثيرهُ ويجعلهُ يلعبُ بشاربهِ وهو يبدي اعجابهِ ببعض المشاهد المثيرة، كلحظة اكتشاف بارتون لجسد المرأة الميّتة في فراشه أو لحظة احتراق الفندق. يُتابع مشاهد القتل والموت باهتمامٍ شديد، وعندما ينسطلُ على الأخر، يقتربُ من التلفاز ويدقّق النظر في تفاصيل القتل والموت. يشاهدُ المسلسل الأمريكي "ذا سوبرانوز" كلّما ذهبتُ إلى العمل في الصباح. حينَ أعودُ من العمل أراهُ مستلقٍ على الكنبة وهو يتابعُ مشهد قتل مثير.

الفصل السادسأصاب المسمار رقبة القط. تلطخت الورقة البيضاء التي تثبّت المسمار بدم القط. أصدرَ صوت مواء مزعج. خفتُ لحظتها من انتقام الأم التي بدأت تقترب شيئًا فشيئًا. أخذتُ حجرةً ورميتها بها، ثمّ حجرة وأخرى أصابتها في الرأس. تراجعت الأم، ولا تزالُ عيناها على ابنها الذي أغمضَ عيناه إلى الأبد.

الفصل السابعجالس على الكنبة حينَ رمقني توتو بنظرةِ حقد. كانَ يجلسُ على الطاولة المقابلة لي، وكنتُ قاعدًا أحتسي القهوة وأعاني من أرق سكرة البارحة. وجهتُ عيناي إلى عينيه وسألتهُ عن سبب تحديقهِ في بهذا الشكل. وقتها سمعتُ صوتهُ في رأسي وهو يصرخُ في الطيور قائلاً "نحنُ نصنعُ الابداع يا أولاد القحبة".

الفصل الثامن: قمتُ بدفعهِ من على الطاولة، إلاّ أنّهُ ظلّ يحدّق في كأنّهُ يودّ قول شيء ما، إلاّ أنّني لم أعرهُ اهتماما.. حتى رأيتهُ يقفُ على الطاولة في الجانب الأخر من الغرفة. وقفَ على اثنتين ورفعَ يمناهُ تجاهي. اصبعهُ الصغير بظفر قصير (قصصتُ لهُ أظافره قبل ساعات)...

الفصل التاسعوهو يشيرُ تجاهي باصبعه الصغير.. مرتعشٌ، وعيناهُ الصغيرتان تكادُ تدمعان.. قالَ: "إلهكم اله واحد".

الفصل العاشرلقد رأيتهُ... لقد رأيتُ توتو وهو يضحك.


تعليقات

‏قال غير معرف…
مصراتي العزيز
افتقدناك على التويتر ارجو ان الامور على ما يرام
قصة قطوس الزقاق قصة تراكم معرفي وثقافي تؤرخ لمرحلة مهمة من مراحل تكون الشخصية الليبية
دمت
ماجد الوردي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات