العودة إلى الأطلنطك: إنها الهانغ اوفر بعد تدوينة البارحة


إنّ القطار ينطلقُ الأن عائدًا إلى لندن. الساعة الخامسة والنصف ولا أحملُ في حقيبتي سوى سروال وبضعة كتب ودفتر ملاحظات وجهاز اللاب توب. كونسرتو دي ارانجوز تطرقُ مسامعي. قبيلَ سنوات، كانت الفقرة التلفازية التي أحبّ مشاهدتها عندَ افطار رمضان هيَ تلكَ الفقرة التي تعرضُ فيها صور طبيعية مصاحبة لهذهِ الموسيقى، وقتها لم أكن أعرف ما هي هذهِ الموسيقى وما اسمها ولم أكن أعرفُ الانترنت بعد، لهذا على مدى ثلاثينَ يومًا في السنة كنتُ أجلسُ منصتًا لها أثناء عرضها. لا أدري لماذا كنتُ أستمعُ لها، لا أدري ما السحر الذي جذبني لها. كانَ هناكَ خيطٌ سرابي يسحبني لسماعها والتدقيق في الالات المستخدمة لعزفها. أقفلُ عيناي وأعومُ في الصمت. يمدّني الصوتُ بانتشاء داخلي ورغبة ما في الغرق داخل التفاصيل. نحنُ هنا نعودُ إلى التفاصيل الدقيقة التي تُرهقني دائمًا. التفاصيل التي لا أشبعُ من استطرادها. تفاصيل الشوارع، المباني، اللوحات الفنّية، الصورُ الفوتغرافية، الموسيقى، طريقة ثنيِ امرأة لساقيها أو عضّها لشفتها السفلية. الكلسون وبقعة الدم عليه، لا تزالُ الصورة واضحة: أراها تمشي بحذر في الغرفة. تتقدم نحوي. أنا مستلقٍ على السرير أشعلُ سيجارة. هي تعبر بنصفها العلوي جسدي كي تصل يدها إلى الكومادينو. تسحب علبة السجائر، تستلقي بجانبي، تشعل سيجارتها بواسطة سيجارتي ثمّ تعيدها لي. نتحدث، نتهامس. نطفئ السيجارتين داخل علبة بيبسي فارغة على الكومادينو، أستلقي فوقها، أذوبُ إلى الأسفل، أدقق النظر فيه، أتخيّل أفلامًا اباحية، أتخيّل أفلام سوريالية. أستنشقه، أطري لساني عليه، نتبادل الأدوار، أراها تمسكه، تمصهُ، ثمّ أستلقي فوقها، أدخلهُ في شيئها. تنشقُ المدينة وقتَ الغروب، وعلى طرف الكورنيش، أقفُ وصديقي فارس نرمي الحجر ليلامس سطح الماء ثمّ بعدَ وثبات قصيرة تغرقُ الحجرة. هذا مشهدٌ مكرّر. كأنّي رأيتُ ذلك قبل الأن: ألتفتُ وأتأملُ السراي الحمراء وقتَ الغروب فأضربُ يدي على الأخرى مكتشفًا السبب الذي جعلَ المؤرخين يسمونها بالسراي الحمراء: احمرارها ساعة الغروب يا فارس يجعلنا نسمّيها السراي الحمرا.. باه! يردّ فارس بلا مبالاة. التكالي وخيري وبعيشو وفارس وأنا، في جبّانة سيدي منذر، ندخلُ المقبرة ونسلّم على البوّاب ونخبرهُ أنّنا قدمنا لزيارة قبر صديق لنا، فيسمح لنا البوّاب بالدخول. نتقدّم في عمق المقبرة المرعبة ونحنُ سعداء أنّنا استطعنا خداع الحارس، ونبدأ في تسلّق الأشجار وقطف التوت وأكلهِ وتجميعه داخل أكياسٍ صغيرة. خيري يقفُ عادةً بقرب قبر صغير ويقول: "مسكين، مات وعمره 4 سنوات"، لا نهتمُ لكلامه، أكونُ وقتها فوق الشجرة أقطفُ التوت، بينما بعيشو يحاولُ فركَ الحشيش دونَ فائدة (كنّا نتعلّم لفّ الجوانات)، والتكالي منهمك في أكل التوت الذي أقطفهُ. متى كانَ ذلكَ ؟ في الـ 2003 على ما أذكر، شهادة اعدادية ولا رغبة للدراسة. الصعلكة طيلة الوقت مع الرفاق في المقابر والفنادق الرخيصة لمعاكسة المومسات وقضاء المساء كلّه في المقاهي لتدخين الأركيلة. أمّا في الليل تتوهّج المدينة.. تتخيّلها في الستّينات مثلاً: فيّا سيشيليا والمقاهي والبارات المنتشرة تحتَ أقواسها. أو تمشي قاطعًا الساحة الطرابلسية العتيقة حتى تصلَ إلى شارع هايتي وتنظر إلى علو كاتدرائية طرابلس، وتتجنّب رؤية تفاصيل أخرى دقيقة قد تنسيكَ رهبنة اللحظة. قد تحاول عندَ ذلك نسيان خيري والتكالي وابعيشو وفارس.. ونسيانها هيَ بنصفها العلوي فوقكَ تسحبُ علبة السجائر، ونسيانها وهي تضحك أيضًا، بطريقة سوريالية.. هناكَ خطايا لم نمارسها بعد يا لَمَلَم! ذلكَ افضل، حتى تكتمل الصورة دونَ دوائر تقيّدُ سباتكَ وأحلام طفولة منهكة.

----------
الصورة: بيرا أويا "الله يرحمها".

تعليقات

‏قال Akram
تصوير جميل لمدينة حتي سكانها لا يرون جمالها.
‏قال عابد
رائع محمد ... تستحق ان ترشح لرئيس الجمهورية الطرابلسية .. ربما تعود من جديد وبحدود جعرافية يتم ترسيمها بمعرفة الامم المتحدة .... ليبيا دول وطوائف واحزاب مستوردة وشبه محلية .. وهرج ومرج .. وفي العموم .. ( افتكيت )انسى

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات