هالالـــويا: رسم تفصيلي لصلاة المدينة


مؤخرًا، باتت الحياة تسيرُ على منهجٍ ممل جدًا، وبدأت الحياة تضيقُ بي، ولا تزالُ الغصّة تذبحني كلّما استيقظتُ في الصباح وتأملتُ حكايا الأشهر الماضية، وفي الليل، أي قبلَ النوم، بدأتُ أشعرُ بأنّني أحتاجُ لسماع قصّة للأطفال كَي أتمكنَ من النوم. يبدو أنّ الحياة باتت تأخذُ منعطفًا أخرًا. كلّ شيء باتَ يتغيّر تدريجيًا: الساعات أحيانًا لا تثيرُ اهتمامي بقدر ما أحسبُ وقتيَ الحقيقي بالنظرِ إلى كمّية السجائر التي دخنتها. الصحف، الأخبار، الأغاني، الذكريات، الأريكة التي ضاقت بجسدي، الألوان الهافتة حولي والأخرى الداكنة في داخلي، أكوابُ القهوة التي في مجلى الغسيل، كمّية التدوينات والمقالات التي لم أنهها ولم أراجعها للنشر، بعض الخواطر التي دوّنتها على الورق وليست لي رغبة في طباعتها، فقداني مؤخرًا لحاسة القراءة ومحاولتي جاهدًا للعودة لها، العودة خلال أيام قليلة لـ روتين العمل وخوفي الشديد منه. رحلة القطار من لندن إلى مانشستر والعكس أيضا. غضبي الشديد من الذين يقولون لي بكل ما أوتو من فنون المَنيَكة "الّي ماحضرش الثورة الليبية فاته عمره كله".. (واليهم أقول: برّوا نَيكُوا). الشعور بفقدان كلّ الحواس.. الدخولُ في دوّامة أخرى.. البينك فلويد يصدحُ في أذنيّ اليومَ كلّه، وأبقى شاردًا في عوالم أخرى أصنعها أنا بمفردي، بأناملي: تاريخ منفرد لمدينة هائمة على نفسها وتاريخ امتزجَت فيه صراعات ألهة اليوم. خطوط عريضة لمسرح ميراماري والأجزاء الدقيقة في قلعة السراي. أحداث سنين ماضية، وشوارعَ اعتادت على السكوت الليلي وسبات القايلة. بياتزا دي ايطاليا والشوارع حوله وأناسٍ أكلهم التاريخ العتيق لهذه المنسية بين البحر والصحراء. أدقّق النظر في التفاصيل.. أرسمُ كلّ شيء، حتى الطفولة المتآكلة والنهاية التي باتت تقترب شيئًا فشيئًا.. طفولة واقفة على معايير الرغبة في الهجرة، وهجرة تقف لصالح لحظة الرجوع.. كينونة البقاء وحيدًا ومصطلح الانعزال. كلّ الحواس تعطّلت: لا أشتهي تذوّق النبيذ، ولا أستلذ بأولى أنفاس البافرا... الفتاة التي في القطار بابتسامتها الرطبة لا تطعم هذا المظلم في داخلي. إنّني أدقّق النظر في المتاهات المتبقية حولي، الساعات المتحوّلة، الكتب التي يتوجب عليّ قراءتها حولَ تفاصيل هذهِ المدينة.. الزمن الذي قيلَ أنّهُ في صالحي، الملل من كلّ شيء وصوتُ سُعاد ماسي يمشّط يومي "راني رايحة ومانولّي / ولا تزيد تشوف خيالي / غدوة نهاجر لبلاد بعيدة".. ارهاصات وهواجس متبقية.. ثورة مبعثرة والكلّ يحاولُ جمع خيوطها لتظهرَ عبث الصورة السوريالية لها، الصورة السوريالية للعظمة فيها.. والتاريخ - كما يقولُ درويش - يسخرُ من ضحاياه... والشيخُ الصوفي بعدَ الحضرة يلتفتُ لي بنشوة: "ويبقى وجهُ ربّكَ ذو الجلالِ والاكرام".
-----
الصورة: السراي الحمرا (قلعة طرابلس) ويظهر على الجانب الايسر مسرح ميراماري.

تعليقات

‏قال Akram
"come on you stranger, you legend, you martyr, and shine!
You reached for the secret too soon, you cried for the moon.
Shine on you crazy diamond."
بالنسبة ل "الّي ماحضرش الثورة الليبية فاته عمره كله" , قول اللي ما جاش ليبي فاته العمر كله, وبعدها ضيف "برو نيكوا".
فتحت هلبا مواضيع, في سطور قليلة جدا.
‏قال غير معرف…
لاتتحسر ياعزيزي لانه لم يفتك الا الالم والحزن فثورة الحرية والسلام ماتت في المهد ولم يبقى الا ثورة 14.5 والقتل بلا مبرر والنهب والسرقة....وطبعا غنائم حرب!! والى ماجاش ليبي فاته الهم كله!! ومانحتاجه أناو أنت وليبيا الصلاة لننعم بالسلام
كل سنة وأنت طيب
‏قال عابد
أدقّق النظر في المتاهات المتبقية .. سلمت

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات