الصورة الخرائية ما بعدَ الثورة الرومانسية



يتجكترُ أشباه الثوّار هذهِ الأيام وما سيليها بحملِ السلاح في العاصمة الليبية والمدن المحررة، واطلاق الرصاص العشوائي في الهواء علّ وعسّ تشدّ معهم في بعيصة مارة، مدّعين بذلكَ أنّهم ثوّار أشاوس من اؤلئكَ الذينَ يقاتلون حتى الساعة في الجبهات لإسقاط ما تبقى من النظام البائد، وبذلكَ باتت موضة هذهِ الأيام (خاصةً في العاصمة الليبية طرابلس) هي حملِ السلاح وارتداء الملابس العسكرية عوضًا عن الموضة القديمة: (كريمة شعر وملابس ايطالية وسيارة وسيجار)، يطلقون النار في الهواء فورَ سماعهم خبرًا سعيدًا ولو كانَ صغيرًا غير مبالين بالعواقب الوخيمة التي تتبعهُ وهو موت العشرات نتيجة ذلك ليضافوا إلى قوائم القتلى والشهداء في هذهِ الثورة. وعلى الرغم من الصفحات والمجموعات على الفيسبوك والتي تنهى عن فعل هذهِ التصرفات الصبيانية إلاّ أنّ الثورجي الليبي (وهنا أقصد بثورجي اي عكس ثائر حقيقي) لا يهمّه الأمر بقدر ما يهمه اطلاق الرصاص في الهواء مدّعي بأنّهُ جزء لا يتجزأ من هذه الثورة وأنّهُ حامي حمى المدينة، ولو وضعت أغلبهم في معركة حقيقية لرأيتهم يولون الأدبار هاربين خائفين على قصّة شعيراتهم السمحة.

هذهِ باختصار صورةٌ أخرى من الصور الخرائية التي تتبعُ الثورة الرومانسية، والتي لا تزالُ مستمرة في جبهتي بني الوليد وسرت. والصورة هنا لا تتوقف على ذلكَ وحسب، بل كذلك تتّسع لتشمل زوايا أخرى هي ناتج كبت اثنين واربعين عامًا من حكم استبدادي شمولي علّم الليبيين أنّ الحرية هي الاطاحة بالقذافي وحسب، وأنّ ما يليها من اشكال للتحرّر لا تمسّ الحرية بأي شكلٍ من الأشكال، بل هم يرونها مجرد بدع غربية ليضلوا بها شبابنا المسلم التقي، لوووول!

في السنوات الماضية، قرأتُ عن انقلاب القذافي عام 1969، وما يحدثُ اليوم في طرابلس ذكرني بما حدث ابان انقلاب القذافي على السلطة واقامة الجمهورية الليبية: فالناس وقتها زمزكت للجيش الليبي بقيادة الملازم معمّر القذافي لكي يتدخل في اقفال الطبرنات (البارات)، اقتحام بيوت الناس بحجّج وهمية وسرقة أملاكهم بحجّة أنّها للشعب، "من أين لكَ هذا؟"، وكذلكَ مظاهرات عارمة للـ "شعب" في الساحات والميادين مؤيدة للعساكر الجدد، واتهامات أخرى لناس بالرجعية والعمالة، وبالطبع طرد ما تبقى من اليهود الذينَ لم يسع الليبيين طردهم كلّهم، ممّا جعلني الأن في معضلة حقيقية تتحتّم عليّ استيعاب أمر مهم من شيئين: امّا أنّ ما حدث في الأول من سبتمبر عام 1969 هو ثورة حقيقية تحولت بقدرة قادر إلى انقلاب عسكري في السنوات التي تلتها، أو أنّ ما يحدثُ الأن في طرابلس هو انقلاب عسكري على موازين الثورة، وبالطبع في كلا الحالتين كانت الحجّة مرقّعة بشعارات أيديولوجية عقيمة مثل "عاداتنا وتقاليدنا"، "ديننا الحنيف"، "دماء شهداءنا"، وهي كلّها في النهاية مسائل تتعلّق بالشخص نفسهِ لا بشعب بأسرهِ. فالاسلاميين والسلفيين والاخوانجية يستغلون اليوم هذهِ الحجّة في تنفيذ أجندتهم السياسية. الاخوان باتوا يتوسّعون شيئًا فشيئًا داخل الدولة بعدَ سقوط النظام والفراغ السياسي والاجتماعي المنتشر. حسبَ احد الأصدقاء، تمّ توزيع مبالغ مالية في مدينة الزاوية للناس برعاية بعض الجماعات المتخفّية والتي تتّبع المناهج الاخوانية في كسب ودّ الناس لها، طمسٌ للحريات بطريقة بشعة كما حدث في عرضي الأزياء في برج طرابلس، الاعتداء بالضرب على صحفية ليبية في تاجوراء من قبل بعض الذين سمّوا أنفسهم ثوّار! ومن خلال التعارف على وجهة نظر الليبيين على الفيسبوك، نجدُ أنّ هؤلاء يرونَ أنّ "ليبيا حرّة" لأن سقوط القذافي هو من يجعلها كذلك، وقد نسوا أنّ الحرية الفردية والاستقلالية هي كذلكَ تمسّ صميم الدولة الحرّة الحقيقية، ليس هذا وحسب، بل أنّهم يرونَ أنّ التكبير والله هو حليفهم الوحيد في المعركة ضدّ القذافي وأعوانه وهذا ما يعني أنّ الله قد ساعدهم في هذهِ المعركة المجيدة، وبالطبع أنا هنا لا أقصدُ أنّ الله لم يكن معنا جزئيًا في هذهِ المعركة، بل أنّ معظم الذينَ قاتلوا كانوا طامعين في جنّة النعيم وهذا كانَ مصدرًا للقوّة، لكن ان يأتي أحدهم ويقولَ لي أنّنا انتصرنا لأنّ الله أنزلَ من السماء ملائكة تقاتل معنا أو أنّهُ جلّ جلاله نصرنا لأنّنا نحارب "اليهودي ابن اليهودية" هذا يُعتبر تخلّفًا لا يليقُ بتاتًا بشعبٍ سعى بعدَ هذهِ المعارك الطاحنة لزرع بؤرة ديمقراطية وكانَ مطلبهُ فيها الحرّية والعدالة الاجتماعية.

في الجبهة، كانَ هناكَ الاسلامي، والاخواني والسلفي والصوفي والأباضي والشيوعي والليبرالي والعلماني والملحد والشاب العادي الباحث عن العدالة والاستقرار، هذهِ ثورة شعب بأسره، والشرذمة التي يرأسها عبدالحكيم بلحاج في طرابلس لا تعبّر سوى عن ذاتها، فبأي حقٍ تقومُ بفرض استبداديتها على عرض أزياء مثلاً (مكسبهُ المادي يذهبُ لعلاج الجرحى الذينَ فقدوا أعضاء مهمّة من جسدهم ولا قدرة كبيرة للمجلس الانتقالي أن يوفر كامل العناية لهم)، والمشكلة أنّ هذهِ الكتائب وبكاء الناس حول الموضوع أنّ هذا ليسَ وقتًا لعروض الأزياء وثوارنا يقاتلون الطاغية وقواته في الجبهات! شوفوا الأن في طرابلس، أعراس وافراح وشباب يتزوجون وموسيقى "وجو مليح"! شوفوا طرابلس ايام الحصار والقتل والاغتيالات والخطف التي تقومُ بهِ كتائب القذافي والمعارك الضاربة في جبهات جبل نفوسة وساحل مصراتة، بينما الناس فاتحة بيوتها للخطّابة وأعراس كل يوم لإنخفاض أسعار الصالات، ولم يفتح أحدًا فمه معارضًا لذلك بينما يقومون الأن بانتهاك حريات ناس يقدمون ما يملكون لنصرة الثورة والحرية. لعلّنا هنا، والأن أن نتخلّى عن نفاقنا والكذب على الذات، والكتائب الثورجية التي تملأ طرابلس اليوم لا يحقّ لها البتّة أن تنتهكَ حقوق وحريات الناس فذلكَ يعني أنّنا سنعيشُ أعوامًا أخرى من الكبت والقهر والاستبداد.. وما اطاحة نظام القذافي إلاّ مقدّمة في كتاب الثورة، وما يليها هي الفصول الرئيسية في هذا الكتاب: التحرّر الذاتي، تحرّر العقل، تحرّر الموهبة والتفكير وتحرّر المرأة من ذكورية هذا المجتمع تليها استقلالية الجسد والابداع... كفانا استبدادًا باسم الدين وباسم دماء الشهداء، كفانا سعيًا وراء هذهِ الحركات الوهابية التي ستقتل هذهِ الثورة المباركة، نحنُ نحتاج إلى حرية ولا وجودَ لأي منهج واحد سواء كانَ منهج فكري او عقائدي بابًا للحرّية يومًا. ليبيا مسلمة ثقافيًا، ولكن لا فائدة من حكم اسلامي سيقومُ باضطهاد كافة الأقليات في المجتمع... ومرّةً أخرى، تعلقُ صورة ذاكَ الذي يحملُ سلاحًا في الجبهة وهو يصرخ: "مطلبنا الحرّية بس".


تعليقات

‏قال rima abdelmoula…
أنت تذكرني كثيرا بالمتفرج الفارس
فالذين تصفهم أنت * بالثورجية * هم فعلا خماة المدن ونحن لا نحس بالامان من دونهم و أغلبهم خاضوا معارك في سبيل حريتهم *وماجتهمش عالبارد* ولن أسمح لك بإتهام مدينتي البطلة على أن يتم إغراء شبابها الاشاوس من قبل الاسلاميين وأرفض هذا الاتهام جملة وتفصيلا....و كذلك لايجوز لك أو لغيرك أن تطعن في دوافع هؤلاء الذين ضحوا بدمائهم الزكية من أجل تعبيد طريق الحرية لأمثالك .... وأما بالنسبة لعرض الازياء فالناس وأنا أتكلم من قلب الحدث أعترضت فعلا على أن الشباب يستشهد في الجبهات وهم يقيمون عروض أزياء ولا تتحجج بأن هناك أعراس في طرابلس لان طرابلس لم تعاني ماعانيناه من قتل وإغتصاب وحصار وتجويع وقصف وتدمير و رعب ...
نصيحتي لك أن تهتم بكتابة مواضيع أخرى لا تطعن بهذه الثورة الدامية والتي عانينا في دروبها كثيرا هناا دااخل ليبيا
و أنا عموما لا أحب المتشدقين من وراء البحار * الي إيديه في النار مش زي الي إيديه في المية*
تحياتي.......

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

موت محمد

معمّر مات