صورة معلّقة على جدارية طرابلس - 2



طعم القهوة مرّ هذا الصباح.. ضمآن، ولا رغبة لي في التزحزح إلى المطبخ من أجل كوب ماء. لذيذ هو العطش، لذيذة هي أخبار هذا الصباح. فمذ أن فتحتُ عيناي، تلمستُ المكان حولي، سحبتُ اللاب توب وبحركة لا ارادية وجدتُ نفسي أتحقق من الاحداثيات على الفيس بوك. الغرفة ساخنة، أرى المطر يهطل في الخارج، عنصر اللامبالاة يتفاقم في داخلي، وكما ديكتاتور تونس المخلوع، شعرتُ بألم وحزن عميقين. ما أتذكرهُ أنّني ليلة البارحة، قضيتُ وقتًا ممتعًا وشاقًا في البحث عن صور مدينة طرابلس القديمة، هذهِ هواية أخرى أضمّها لباقي الهوايات الساذجة التي أمارسها. عادةً ما أمارس هذه الهواية في ليالي السبت. الدخول في متاهات الانترنت وفي عمق المواقع المغمورة، أبحث عن صور، معظمها مخزّن على الجهاز، وصور أخرى جديدة أراها لأولِ مرّةٍ. أبحثُ عن صور طرابلس، وكعادتي أدركُ أنّ هذهِ الصور، هذه المساحات الشاسعة اللا منتهية من النستولجيات ستسحبني إلى اساسيات تدمير النفس، بالإنزلاق في ظلماتها. وفي المنام، أظنني قد وقعت في كابوس أخر. لا أدري متى نمت، ولكن من المرجّح أن تكون الرابعة صباحًا، وعلى تمام السادسة فقت من النوم، قرأتُ صفحات من كتاب، ثمّ خلدتُ للنوم مجددًا لأستيقظ على تمام الثانية عشر ظهرًا. بضع محادثات، وقليل من المشاحنات على الفيس بوك وفي أخر الأمر اضطررتُ إلى التزحزح من فراشي إلى المطبخ، كوب ساخن من القهوة المرّة (تعمّدتُ أن لا أضع سكّرًا) ثمّ لففتُ سيجارة وخرجتُ أدخنها. صوتُ المطر يزعجني، رائحة العشب المبتل تطفئ بعض النستولجيا. أفقدُ تركيزي دائمًا، عادةً ما يفقدُ الانسان تركيزهُ، اعصابه، لسانه. فقدنا بيوتًا وشوارع ومدنًا، وعلى مدى أربعين عامًا، فقدنا "وطنطنًا".
في مخيلتي، أنزلُ درج البريد الفاصل بين المبنى العتيق والشارع بميدان الكاتدرائية، أخذُ يمنيًا، حيثُ بار أورورا، هناكَ أجلسُ على طاولة قريبة من النافورة، أسندُ ظهري على الكرسي واطلبُ بيرة أويا، وعلى مقربة منّي أستمعُ لدردشات القاص عبدالله القويري ورفاقه من أدباء وشعراء الخمسينات والستينات وضحكاتهم العالية بعدَ أن امتزج بدمهم الشراب الشعيري. في الجانب الأخر يجلسُ شلّة من الرسامين والموسيقيين الطليان بعدَ أن أتمّوا عرضهم في مسرح ميراماري، بإمكاني أن ألمحَ جيّدًا ماريو اسكيفانو بشعرهِ المسبسب وعيناه الراقدتان بسبب الإرهاق والنبيذ، وأسفلَ قدميهِ حقيبته التي كانَت ترافقهُ دومًا كلّما نزلَ إلى طرابلس من روما، معربدًا بين المدينة القديمة وشارع الاستقلال وفنادقها الصغيرة قبيل زيارته لمسقط رأسهِ "الخمس". بعدَ شربي لبيرتين، أدفعُ لإبراهيم صاحب البار ثمن الشراب والميزّة، وأنسحبُ قاطعًا الميدان إلى الكاتدرائية، أنعطف يمينًا إلى شارع هايتي، وخلف الكاتدرائية أشتري جيلاتّي من محلّ "ديميتري" ثمّ أقرّر الخروج من هذهِ الأجواء الاستعمارية إلى المدينة القديمة حيثُ الطرابلسية
طرابلس، بتفاصيلها، محلاّتها، أبعادها التاريخية أبتترت. بياتزا دي ايطاليا، الساحة الصغيرة الملتفة بالمباني الأوروبية "بنك روما، مسرح ميراماري" أزيحت، لتصيرَ ميدان الشهداء اليوم... في الواقع، هناكَ تفاصيل مدينة تؤرقني.

--------------
الصورة: ميدان الشهداء (لمّا كان بياتزا دي ايطاليا) - طرابلس، عام 1921.

تعليقات

‏قال عابد
القهوة سادة نحتسيهاعلى مضض .. الافق ملبد بغيوم رمادية توهمك بانها ستمطر قريبا .. لكن رياح عاتية كالعادة لا تبقي ولا تدر .. تجرف المحيط .. البر والبحر

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

موت محمد