ما بين الثورتين أو أكثر




اثر انفجار ثورة 17 فبراير، استعدنا كما استعاد معظم الليبييون (الثوّار منهم والشهداء) مفهوم الوطن والهوية. في بداية الثورة شعرتُ نفسي كما الثوري في الستينات، مغموسٌ في طبق الأيديولوجية والأغاني الوطنية والمفردات الثورية حتى وان كانت بعيدة كل البعد عن مفهوم الفنّ والابداع. في الصباح حينَ أستيقظُ وقبيل ذهابي إلى العمل، أنغمس في سماع أغاني الثورة الليبية، معظمها في الواقع سطحية وبعيدة عن الفن، لكن الليبييون يتناقلونها فيما بينهم لأنّها أغانٍ عن الثورة وتسبّ القذافي وتشتم النظام المخلوع وتمجّد الشهداء والثوّار.

طبعًا مغنيوا الراب والروك الذينَ ظهروا أثناء الثورة لا يزالون أقلّ عددًا من الصحف والدوريات التي أفتتحت في بنغازي فقط. أكثر من 120 مطبوعة، أسبوعية ويومية منذ اندلاع الثورة، ثمانين في المائة منها تشبه بروباغاندا صحف القذافي واذعاته. تمتهن اللا احترافية في التعامل مع الأحداث، وهدفها الوحيد سبّ نظام القذافي ونشر كلّ خبر أو اشاعة. بعض المؤمنين بفكرة انقسام ليبيا يكتبون (نظام طرابلس) أي بمعنى نظام القذافي في ذاتِ الوقت الذي يكتبون فيه (الثوّار) كمصطلح لحكومة المجلس الانتقالي. من كثر الرفاهية التي تعيشها الصحافة في بنغازي في الوقت الحالي، بتنا نرى صحفًا كاملة مختصة بالرياضة، بعيدًا عن الثورة وبعيدًا عن محنة شعب لا يزالَ يصارع نظام متجذّر كما السرطان في عروقه.

ما نراهُ اليوم في بنغازي، سواء الوضع الاقتصادي أو الاعلامي أو الحكومة الانتقالية وكواليسها، هو نهاية للثورة والبدء في بناء دولة لمكان ومجتمع لم تجرّب يومًا أن تصيرَ دولة. أمّا الثورة الليبية للقضاء على المجرم معمر القذافي، فلم يعد لها مكان في بنغازي بعدَ اليوم. بإمكاننا متابعة هذهِ الثورة في الجبل الغربي ومصراتة وطرابلس وزليطن. إنّها الرفاهية الثورية التي تعيشها بنغازي هذه الأيام، فبفضل ثوارها استطاعوا اسقاط كتيبة الفضيل وباتوا يستمتعون بالثورة. وبينما اتجه الثوّار الحقيقييون شرقًا بعدَ تحرير بنغازي، نراهم تارةً في مصراتة وتارةً أخرى في الجبل الغربي أو اجدابيا والبريقة، فإنّنا اليوم نرى أشباه الثوّار يتجولون في بنغازي ماسكين أسلحة على اكتافهم ويرسمون نظراتٍ حقيرة على وجوههم، وفي الغالب يذكرون المارة بـ (لجان القذافي الثورية).

من وجهة نظري من خلال ما أراهُ على الساحة اليوم، المجلس الوطني الانتقالي الليبي باتَ همّهُ الوحيد هو كسب الاعترافات الدولية لا أكثر ولا أقل، دونَ أن يقدّم أيّ يدَ عون للثوّار المتجهين إلى طرابلس من الشرق ومن الغرب. لم يقدّم المجلس الانتقالي أي خطوة تجعل ثوّار مصراتة وثوّار الجبل الغربي يعترفون به كممثل وحيد للشعب الليبي (أقصد الثوار بأولئكَ الذين يمسكون سلاح ضد ألات القذافي الوحشية، يرتدون ملابس مدنية وصدورهم عارية)، كما أنّهُ لم يسعى لأي خطوات تقدمية في الشرق الليبي الذي باتَ تحتَ سيطرته المفترضة. انتشار السلاح وجواسيس القذافي باتَ ملحوظًا بشكل كبير جدًا، لا وجودَ لأمان ولا طمأنينة في الشرق الليبي بسبب عجز ألة المجلس الانتقالي على توفير ذلك.

تقول نكتة لن تعجب المجلس ولا الثوريين المتعصبين: لم تعد بنغازي معقل الثوّار، بل معقل الطابور الخامس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات