الحبيب الأمين

في السابع عشر من فبراير 2011، اقتحمت قوات القذافي بيت الشاعر والكاتب الحبيب الأمين وقامت باعتقاله وشقيقه الفنان محمد الأمين، ومنذُ ذلكَ اليوم لم يعرف أحد مصير الشقيقين المبدعين، ولم يعرف أهلهما مكانهما البتة. لقد كانَ هذا الخبر صدمة في الوسط الثقافي والاعلامي، فكلّ من يعرف الحبيب الأمين أو عاشره أو حتى شرب معهُ فنجان قهوة في يومٍ من الأيام، لا بدّ وأن تعلق صورته في العقل دومًا. بملامحه الصافية ونظراته الحزينة وحديثه الدائم عن التاريخ والحضارات القديمة والفلاسفة اليونانيين القدامى. لقد كانَ الحبيب الأمين للكثير من الأدباء والمثقفين في الوسط الثقافي مصدرًا هامًا للحوارات الهامة والجادة والعميقة، وكذلكَ روحًا للدعابة والانتقاد الدائم والبحث الدائم عن مفرادات الهوية.
في العام الماضي، كنتُ قد وقعتُ في صداماتٍ عديدة مع بعض الكتّاب الشباب والقراء حولَ مفاهيم عدّة، سواءًا مفاهيم آيديولوجية أو أخرى عقائدية ودينية. كنتُ قد فتحتُ حسابًا على الفيس بوك تجمّعَ فيهِ عدد كبير من الأدباء والمثقفين الليبيين، وفي منتصف الصدامات على حائط فلان والعراك في الشات مع فلان أخر، وجدتُ نفسي أنهي يومي مستمتعًا بالحديث التأويلي رفقة الشاعر الأستاذ الحبيب الأمين
الحبيب الأمين شاعر وكاتب اشتهر باقتباسه للتاريخ الليبي في رسم قصائده ونصوصه النثرية. إنّهُ بحكم تخصصه في الأثار، استطاعَ أن يكتشف روح ليبيا ونبضها وحاول في كل أعمالهِ الإبداعية أن يصوّر للقارئ هذا التاريخ العميق لهذا البلد متجسدًا في نصوص معظمها شعرية. لقد استلهم تاريخ الحضارات الفينيقية والرومانية والعثمانية في رسم صورة وملامح ليبيا التي شابت في السنوات الأخيرة وباتت تفقد هويتها ولمعان جوهرها. دراسته للأثار، وتخصصه في الأثار الليبية والتنقيب عليها واطلاعاته الواسعة في كتب التاريخ والأثار والحضارات القديمة، بالإضافة لحبه للشعر الحديث وكتابته للنصوص النثرية، مكنته من أن يجمّع كلّ ذلك داخل اطار واحد، قصيدة مفتوحة العوالم، متجمّعة عندَ نقطة كتابة التاريخ الليبي المشوّه والمنسي واعادة التنقيب عنه في زوايا اللغة. هكذا، بدأ الحبيب الأمين الكتابة عن ليبيا، شعرًا.
بشكلٍ شخصي، تعلمتُ الكثير منه، عن طريق الرسائل الطويلة بيننا والمحادثات في الشات، كما كانَ حائطه على الفيس بوك وحائطي مكان جيد جدًا للحديث التأويلي والسفر في أعماق الرموز. وهذهِ الكتابات الصغيرة على جدار الفيس بوك، رأيتُ من المناسب اعادة نشرها هنا على المدونة، لحفظها، ولأنّني أجدُ فيها لغة الحبيب ورموزه تتفجر حاملةً قصصًا وحكايات. هل تراهُ الأن في زنزانة ينتظر الغد!
يوم الإربعاء: 21 أبريل 2010 – الساعة 12:49
الحبيب الأمين:
سيدتنا الريح تفقدت القفة وسرقت كل العيون.. بقيت انت وانا معززين بالطرش في زفة الليل البهيم الأليل...قافلة الزغاريد مرت ولم تسمع صهيل الاذان وهي تعارك الصمت بعيدان اللدائن المتوجة بالقطن.
محمد مصراتي:
مدينة العجاج... ليلة سمر وابريل يفرش بساطه... على الضفة الاخرى تراب وغبار الصحراء، وفي بلاد الشقر صب غبار البراكين المتبخرة لا زغاريد هنا الاّ موسيقاي ووقع اسمي في صدا الموسيقى افرش الارض كلاما ايها الحبيب الاحب.
الحبيب الأمين:
مر زمان ونحن ننتظر في بحر الرمل فاذا بالبركان يثور بأرض الآيس. كنا نقول يا بركان الغضب. كنا نغني للاعماق من الاعماق نحن العرب فعوت الجيولجيا هناك ولم نعرف الا العجب. ياسيول اللافا ألاتعرفين بأرضنا ثقب او صدع كي تنفثين فينا بعض حليب الارض؟ أبناء التراب يهيمون على العجلات وعلى الاهداب. لا عاصم لهم من ذلة. الأرض هناك مازالت تنبض ولكنها هنا ممددة مسترخية تتنسم الغبار.
محمد مصراتي:
حين يحلق الأحرار فتقع طائرتهم ويموتون، تتساءل: هل الكوميديا الالهية التي نعيشها عادلةً أم تمارس ما يمارسه اصحاب الصور المعلقة على جدران العمارات؟ الارض لن تعطينا الحليب، لأنّ الراغب في حليبا عليهِ أن يمتصّهُ كالهرّ الجائع أرض الرمال هناك في منفاك لن تستوعب الحليب بعد كوميديا الارض والمنفى، حينَ يصبح الوطن منفى والمنفى وطن.
الحبيب الأمين:
دانتي الذي اضحك الادميين لن يكررها ثانية لو بعث .. وتعاليم ادوارد كانت مقدسة ولربما اعجبت المثقف والسلطة كونها كرست الاعتقاد بالنفي المطلق واستحالة الانقلاب عليه .. المنفي الاوحش ان تحيا بلا طعم ويصير راسك كراس فجل نبت بغير معنى او لون إلا ان يفاخر به من حيث الطول والهشاشة كمحفز للهضم والقضم.. انا الآن اتربص برأسي واستودعته قوس نغم بعد ان حشوت المشغل بقرص صيني المنشأ نجحنا معه في الالتفاف على العصر واستقبال الشمس والخداوت من الشرق بنظرية "وين وذنك يا جحا" ولازال اللف والدوران مستمرا هناك في المنفى وهنا في الوطن.. يال هذا العالم من جزيرة!
محمد مصراتي:
وهل رأيت المنفى في الجامعة الرومانية؟ لي جدّ ثمانيني، درس هناك في العقود القديمة وهو اليوم في مصراتاك... هل الرومانيون يعودون الى مصراتة ام مصراتة ياتيها الرومانيون؟ ام صار المصراتيون رومانا وانكليز؟ هل هي حقا جزيرة.. اي عالمنا الصغير؟
الحبيب الأمين:
المنفى يدرس على الارصفة ويوزع مجانا على المواطنين ,والمنفى عرفته هنا في مصراتة التى تنبت ظل وعوسج وفي روما حيث اهدتني مينرفا مفاتيح الكابيتول فأبيت !!هناك حيث أرضعت روما كل الملائكة والوحوش وحيث اوصلتني درب موحلة لاحدى بواباتها الصارمة لأكتشف مقولة كل شيء جائز فأنت بروما.هناك يا محمد تفطنت لاول لجسدي وعقلي وأكتشفت انا فيهما من المرمر ما يكفي لنحت ألف فكرة كانت تتحلل مني فور الوصول لأرض الازاميل.. مصراتة بناها رجال والرومان رجال وليس مهما ان تكون رومانية او ليبية تلك مباحثة اركيولجية تحيلنا الى محاضرة اشمئز ان اتمثلها في هذا الليل المتحلل من الكدمنة "اكاديمي". مصراتة نسيج قديم خاطته اعراق وقبائل وشعوب تعارفوا، ربما هي من المدن القليلة التي تحمل اسمها لا عرقها فحقيقة الايكولجيا والسوسولوجيا فعلت فعلها والبست الكل بحبها، ولازالت المصراتة مستمرة والوطن يلد. جدك الثمانيني جدي يا ولد الشيخ ففي اي فرع روماني حط طريقته.. فكلنا جملة بنادير في حضرة الحقيقة.
محمد مصراتي:
ربما هذه هي الاشكالية.. فعندما اقف بجوار النهر اللندني والالم يحسرني، تبدأ معضلة الدماغ وتبدأ الفكرة في الاشتغال... يشتغل العقل امام هذا الزمن وامام الفنتازيا التي يعيشها عقل ما كتبه دانتي في مجلده الكبير.. ان تفقد وطنا فهذا لا بأس، ان تفقد ايمانك بدانتي الاكبر لا بأس ايضا.. افكر هذه الايام انني بتّ على شفا حفرة من الكفر بالقط الصحراوي... نحن نطلب العسر من عقولهم التي لا تنتج اليسر.. حين لم نرى اليسر صرنا نفكر انه لم يكن هنا في الاصل وعل العسر هو الصواب والطريق للخروج من مأزقنا، عشيرة القعر فينا ارتدت شراشيف وعبايات، ما تبقى من روما كان الحولي والجرد
جدي الثمانيني لم يرتدي الجرد.. احتفظ برومانيته التي جاء بها من الجامعة هناك... درس الاقتصاد والجوع، كما درسنا نحن فقه الصمت والكتابة
الحبيب الأمين:
تعرف يا محمد وربما ستتعجب أن احب وديان البرية بمصراتة ولا اتصور ان لا اذهب اليها كل يومين او ثلاثة عندما اكون هناك ويكون اليومان قبلها بالبحر في منطقة اخرى بعيدة من شواطيء مصراتة البكر لتي لا يرتادها الناس لصعوبة الوصول اليها حدث هذت ولازال منذ حملة الاخوين بيتشي من البحرية الملكية البريطانية في القرن 19 وتحدث به الدكتور ديلا تشيلا الايطالى .في هذه الامكنة خلوات الروح أوثت الوحدة بمن اشاء واروض الطبيعة القاسية بملاطفتها هناك مع غنم اصدقائي وخيولهم ومراكبهم ابني عالما افتراضيا لمقاربة الطبيعة ومسح عوادم الاحتراق اللامدني الذي نعيشه ونسميها مدن وهي طافحة بالوحل والمياه الآسنة ومفاعيل القطط الذي عوت بسورنا ليلة البارحة. هناك اعيد قراءة الكتب باستغراقها واخط بحبر عذري او على كيبورد مغبرة صفحات طازجة وغير معالجة ذهنيا ..لانها تتهطل كما خرير العين الجارية كما الندى المتكدس على الورقة الخضراء ينساب مع هبة نسيم ... هناك يا محمد اغتسل بالتراب واتوضا بنور قمر مخضب بوهج النجوم.. قد امكث ليلة او اكثر ولكني اعود كما الصفحة البيضاء المدبجة بالحبر المبارك.. اننا في مازق ولازلنا ولكننا بالكاد نحاول الفكاك من الفخ. الأيام تعلمنا ان نجود بالأفضل مع قليلا من الصبر وبعضالارادة فالحياة التي نستحقها تستحق ان نكابد لاجلها.
محمد مصراتي:
لم يسبق لي وان تعرفت الى مصراتة عن قرب العقل من الواقع الافتراضي... مصراتة كانت بالنسبة لي سواني غيران واصطياد الضفادع والعصافير... طرابلس اخذتني ولم.. ولكن اقتراب العقل من الواقع الملحمي كان هنا في بلاد اخرى صارت بالنسبة لي موطنا... اتوضأ بنهر الثيمز وانزلق على العشب الاخضر في الحدائق. عشب تبلل بماء امطار الليل... صورة مصراتة يا عزيزي الحبيب هي صورة عطلات المدرسة ايام الطفولة.. قبل ان يصير عمري 100 الف سيجارة
ويبقى التاريخ... استورد المكان بصفحات الكتب. ملحمة القرى المدنية والمدن القروية
يبقى التاريخ والكتاب هو مفردي لمعرفة هذا البلد الذي ولدت فيه سهوا، وتلك المدينة التي اعود لها والاخرى التي عشت فيها والاخيرة التي اخترتها زوجة مؤقتة، حتى اطلق ساقي الى الباب الكبير المؤدي الى ساحات روما.. عشقي الروماني لعشقي لايطالية كسرت عظام الحياة وبها اعيد اسرجاع ذاكرتي الوهمية
الحبيب الأمين:
لست مطالبا بغير انتماءات المكان ويستحيل استزراع غيره. العصروية وحدت الكثير من الصور عن الحدائق والطرق المعبدة ومترو الانفاق وماكينات الصرافة.. حتى من لم يستعمله ويقطن الآن بصحراء كالهاري بات يعرف استعمالها عبر كتالولوجات المفتوحة التلفاز والسينما العالمية .. انا اتحدث عن الانسنة عن الطبقة الاولى في كرونولجيا التكوينعن جذرنا الادمي الموحد وعن الاحساسات بمعزل عن صور المحسوس فالافريقي يفطر بغرز اسنانه باناناسة معتبرة ومكتنزة ولكن الامريكي يشربه عصيرا باردا الشعور باللذة وممارسة الافطار حدث وكذلك الحال بشان ثقافة الحب وممارسته معويا وفسيولجيا.هذا العصر يا محمد اراه يمنحنا فرصة غير مسبوقة للعيش بالعقل واداركه اكثر من اعتمادنا على الحسية البليدة اي لمس الاشياء وحوكمتها .. يمكننا ان نمارس السلوك الحضاري بمعزل عن توفر الاثاث الحضاري يمكننا ان نتعلم الفنون التشكيلية دون توفر لجليريهات للفن المعاصر كتلك التي بباريس ونيويورك .. كما يمكننا ايضا ارتداء الكرافتات والتحدث بلكنة مرقعة وفكر رعوي ... ان نا على وشك الزوال مالم نحسن الاحساس بعقل والتعقل باحساس.. ايطاليا جميلة ساقترح عليك فيلما او لعلك شاهدته يجعللك تتنكه روما وكانها بحلقك وتشمه وكانه حبال الاسباقيتي تتلتف بشعرك .. اسمه (...). في ليلة قادمة ساحكي لك عن سيرجيو وعن استاذتي انطونيلا .... الى لقاء يا حمادي وفجرك كابتشينو وكورنيتي.
buna jurnata .. a domnai srea
ملاحظة من محمد مصراتي إلى الحبيب الأمين: لم تخبرني بعد عن أستاذكَ ولا عن سيرجيو ولا عن أنطونيلا... لا أزالُ أنتظر
تعليقات