محمد الشلطامي - لماذا الموت؟
لماذا الموت وقد كنّا على بعد خطوات من أبواب الحرية
لماذا رحلت؟
قبلَ عامٍ من اليوم، قررتَ الرحيل، لم ترغب بالعلاج، ولا بالأدوية ولا بالعمليات الجرحية لمداوات ذاكَ الجسد الذي تعبَ من سياط الجلادين وتعذيب الجنرالات لهُ. لم تنقذكَ القصائد التي كتبتها، كما لم تجد عمر ابن الخطاب في السجن الحربي. رغمَ سنون السجن، لكنّكَ كلّ ليلةٍ، ترى في متاهات الحلم الزنزانة رقم 6، تتأملها، تتأمل حيطانها والقصائد التي نقشت عليها. تعبتَ من تلكَ المشاهد، فأخترتَ الرحيل في الخامس والعشرين من مارس العام الماضي، لكنّكَ يا معلمي لم تعرف أنّ في ذاتِ اليوم بعدَ اثنتي عشرَ شهرًا، ستزغرد بنغازي بانتصارها على سياط جلاديك ومغتصبي قصيدتك.
أتذكركَ هذهِ الأيام، أراكَ بوضوح، أقرأ قصائدكَ في الصباح، وفي المساء أرددُ بعضًا منها. أنحني لجلالة كلماتك، وأسرحُ في تأملُ الحكايات عن يوم اعتقالك. أنفثُ دخانَ سيجارتي بغضب وأنا أتذكّرُ ذاكَ الضابط الواقف ببدلته العسكرية وهو يتأملُ السجادة الحمراء التي عثرَ عليها في حوزتك، أستطردُ في تأمل ذاكَ المشهد، وكأنّني أسمعُ صوته لحظتها وهو يقول لك: "شيوعي، حتى سجادة صلاتك حمراء اللون"... هل كنتُ هناكَ يومها، هل كنتُ أحد مرددي قصائدكَ في مظاهرات الطلبة ضدّ لجان جلادك. هل كنتُ أردّدُ شعركَ الثوري في وجوه القتلة؟ هل كنتُ جالسًا في زاوية الزنزانة وأنا أراكَ تنحتُ الجدار بقصائدك؟ هل كنتُ واقفًا تحتَ أشعة الشمس الحارقة وأنا أراقبُ العسكري يجلدُ ظهركَ بالسوط المعدني، وأنتَ ملقي على الأرض،تغطّي رأسكَ بيداكَ وبأبيات القصائد.
أقفُ من على سريري الأن. على الأرض قطعة كرتونية كبيرة. أكتبُ عليها "كم أحببتكما، لكنني أحببتُ الحرية أكثر"، أرفعُ اللوحة وألصقها على جدار الغرفة، بجانب الكتب المبعثرة على الطاولة والأوراق التي كتبتُ فيها نصوصًا لم تكتمل. أعودُ لسريري، أتابعُ الأخبار، أتابعُ التقارير السريعة، أتذكّركَ، أغمضُ عيناي وأزفر للحظة. أفكّرُ في جدوى غيابك، أفكّرُ في جدوى بقائك. أفكّرُ في رؤية ابتسامتكَ المستحيلة وأنتَ ترى الألعاب النارية والأفراح تغطّي ساحات بنغازي.
قلتَ يومًا ما مفاده أنّكَ لا تهتم بما يحدث على سطح الأرض في حضورك بقدر ما سيحدث على سطح الأرض وأنتَ في بطنها، فها هيَ اللحظة التي انتظرتَ قد حانت. ها هو الشباب يخرجُ في مواجهة الطاغية وجهًا لوجه، محولين جدران المدينة إلى لوحة كاريكتارية، وأنا، على شاشة الكمبيوتر أتابع الملصقات والرسومات، أبحثُ عن قصائدك على هذهِ الجدران.
قل ما تشاء / وأكتب بخط التاج ما نحت الشقاء / فينا، وقل متخاذلون / جبناء ماتت في عروقهم همم الرجال / أنا قد هربت / وتركتُ أحذيتي ورائي / وتركتُ خلفَ الجسر صوتَ اذاعة الشرق الثقيل / قل ما تشاء، أنا عميل / متخاذل، حافٍ، يجرّ وراءهُ عار جديد / قل ما تريد / لكنّما أنا لن أموت / أبدًا لتركب جثّتي للنصر... لا... لن أموت.
----
محمد الشلطامي شاعر ليبي تعرّض للسجن والتعذيب في فترة السبعينات اثرَ انتفاضة الطلاّب الذينَ خرجوا يلقون أبياتًا من قصائده.. غاب عن الدنيا في الخامس والعشرين من مارس 2010.
تعليقات