المخبرون المتوحشون



سيرة ذاتية روائية وثائقية ترويها شخصيات ثانوية

من حسن حظّي، أنّني تعرفتُ مبكرًا على الروائي روبيرتو بولانيو، ومن حسن حظّي أيضًا أنّني قرأتُ مبكّرًا له. فهو واحدٌ من أهم الروائيين الذينَ اصطدمتُ بأدبهم وعالمهم الروائي، وعندَ فراغي من قراءة روايته "المخبرون المتوحشون"، وجدتُ أنّني كنتُ واقفًا أمامَ عمل لا يقلّ قيمة أمامَ عمالقة الأدب العالمي من أمثال ماريو يوسا وماركيز وكافكا وغيرهم الكثيرين.

أولى قصص روبيرتو بولانيو التي قرأتها، كانت بطاقة رقص، والتي ترجمها إلى اللغة العربية غازي القبلاوي، ثمّ قرأت روايته الأضخم "2666"، وبسبب انتقالي إلى لندن، توقفتُ عن قراءتها، حتى انتقلتُ بعدَ ذلك لقراءة مجموعة الكاتب "أمسيات أخيرة على الأرض" وبعدَ فترة زمنية قررتُ قراءة روايتهِ الضخمة "المخبرون المتوحشون". الرواية التي سحرتني منذُ صفحاتها الأولى وأخذتني إلى عوالمها وشخصياتها التي تعيشُ على هامش البوهيمية والشعر والجنس والتاكيلا.

كتبَ بولانيو رواية المخبرون المتوحشون عام 1996، وبعدَ وفاة صديق شبابه ورحلته الأدبية "ماريو سانتياغو" عام 1998، قررَ بولانيو أن ينتهي من كتابة روايته ومن ثمّ نشرها، لتلاقي نجاحًا كبيرًا وتخرجَ كاتبها من عتمة الكتّاب المغمورين ويحصد ما كانَ يحلم به من نجومية ومال ليتفرغ لكتابة أعمالٍ أخرى تاركًا عالم الصحافة وراءه، خاصةً أنّ بولانيو كانَ يعدّ أيامهِ الأخيرة، مدركًا أنّ الموت في طريقهِ إليه.

في حياتهِ، نشرَ بولانيو بعضًا من أعمالهِ الروائية والشعرية وأنطلوجيا حولَ الشعر المكسيكي الحديث. أعمال بولانيو تدورُ في كثير من هواجسها حولَ عالم الأدب والشعر والكتابة، والكثير منها سيرةً ذاتية يسردها أشخاص أخرون يعرفهم، مستعيرًا لسانهم ليحكي عن نفسه، كأنّهُ بذلكَ يحاولُ أن يكتشفَ نفسه، أو ربما كأنّهُ بذلكَ يبتعدُ عن الـ أنا الذاتية التي لا تقرأها كثيرًا في كتاباته. كما أنّهُ يكتب النقد بطريقة روائية، فيشرحَ لنا أعمال بورخيس من وجهة نظره عند كتابته لرواية تبدو في طريقة عرضها كمجموعة من المقالات والدراسات تحتَ عنوان "الأدب النازي في الأمريكتين"، أو محاولته التنظيرية حولَ الأدب المكتوب بأقلام نسائية في أمريكا اللاتينية في روايته "تميمــة"، وربما يعودُ هاجس التعمّق في التنظير داخل الروايات اللاتينية والكتابة عنها بأسلوب روائي هي حصيلة تجربة حياة بولانيو، الذي قضى سنواته مذ أن كانَ شابًا في العشرين داخل المجموعات الشعرية التي تسمّي نفسها (تصعلكًا) "عصابات شعرية".

يمكننا اختصار "المخبرون المتوحشون" على أنّها سيرة كلّ من الكاتب آرتورو بيلانو (روبيرتو بولانيو)، الشاعر التشيلي الذي عاشَ شبابهِ في المكسيك بطريقة غير شرعية ثمّ خرجَ من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا لتحقيق أهدافه الإبداعية، وصديق شبابهِ يوليسز ليما (ماريو سنتياغو بابسكيارو)، الشاعر المكسيكي الذي دمرته حياة التشرد بينَ دول العالم، فأختار في النهاية العزلة والتفرّغ لتجارة المخدرات وتعاطيها.



في الرواية المقسّمة إلى ثلاثة أقسام طويلة، ما يقارب السبعون راويًا، وكل الرواة شخصيات ثانوية في الرواية، وكلّهم يتحدّثون عن علاقتهم بآرتور بيلانو ويوليسز ليما ومدرستهما الأدبية "الواقعية الحشوية". تبدو الرواية كأنّها فيلم وثائقي، فبدأ من القسم الثاني الذي فيهِ تتشكّل الرواية، نجدُ عندَ بداية كلّ فصل اسم الشخص المتحدّث والمكان الذي يجلس فيه، ثمّ يبدأ السرد بحديث هذا الشخص عن الشخصيتان المحوريتان، ثمّ ينتقل السرد (الفيلم) إلى شخصية أخرى وأخرى وأخرى، ثمّ يعودُ إلى ذاتِ الراوي ويستمر بذلكَ ليلاحظ القارئ نفسه أمامَ فيلم وثائقي مكتوب، ونتأكدُ من ذلكَ أثناء مخاطبة الشخصيات الراوية للقارئ حولَ بعض الهوامش.

تبدأ الرواية بقسم "مكسيكيون ضائعون في المكسيك - 1975"، مع يوميات خوان غارسيا ماديرو (الشاعر خوان استبان آرنغتون)، وهو شاب في السابعة عشر من عمره، يحبّ كتابة الشعر ويدرس القانون، لكنّهُ فورَ دخوله إلى مجموعة "الواقعية الحشوية" وتعرفه على بيلانو وليما وماريا فونت ووالدها كيم فونت ومغامراته معهم في البارات والحفلات، يتركُ ماديرو الدراسة ويتفرغ للصعلكة وكتابة الشعر. تنطلقُ بنا هذه الأحداث في إطار اليوميات. العديد من المواقف المضحكة والدخول في العالم العبثي لهؤلاء الشعراء الشباب الذين يسعون لخلق جيل شعري يختلف عن المدارس والأجيال السابقة، تاركين العالم وراءهم ومتفرغين للكتابة والشعر والجنس والمجادلات الأدبية ومعاركهم، كُتبت بطريقة أشبه بالكوميديا السوداء منها إلى الكتابة العفوية التي تطرحُ سردًا واقعيًا إلى فترة السبعينات وظهورجيل كامل من الشباب الطموح، فنرى هذا الشاب يوليسز ليما المهووس بالشعر وقد فتحَ مجلة شعرية يموّلها عن طريق تجارته في الحشيش، ونرى ماريا فونت التي تستمدّ طاقتها في الكتابة عن طريق ممارسة الجنس السادي، ونرى كذلكَ بيلانو الذي لا ينامُ إلاّ وهو سكران يستمد شعريته من شرب التاكيلا، ثمّ نكتشفُ أنّ هؤلاء لم يصنعوا شعرًا بقدر صنعهم لحياة عبثية لا جدوى منها.

في إحدى الأيام، وبينما كانَ ماديرو يسير برفقة ماريا فونت، يلتقي الشاعران بمومس تدعى لوبي، وهي صديقة قديمة لماريا فونت، فيدور بينَ الثلاثة حوار طويل حولَ عالم المومسات في المكسيك، ثمّ تبدأ لوبي بالسخرية من ماديرو وتقولُ لهُ أنّ لقوادها قضيبًا أكبرَ من سيفهِ الذي لا يفارقه. فكرة القضيب الذي أطولَ من سيف قواد لوبي ستسيطر على تفكير ماديرو، حتى ذاك اليوم الذي اتصلَ فيه والدُ ماريا (كيم فونت) بـ ماديرو قائلاً أنّ لوبي في خطر وأن قوادها يريد قتلها وأنّهما في حاجة لهُ لكي يخبئوها في إحدى الهوتيلات الراقية نسبيًا لأنّهُ من الخطر عليها البقاء في هوتيلات القوادين، وهنا وبعدَ جلسة بينَ كيم ولوبي وماديرو، يكتشفُ الأخير أنّ كيم والدُ ماريا على علاقة جنسية بـ لوبي، وحينَ عجزَ عن مساعدتهما، قرروا أن يضعوا المومس المسكينة عندَ بيت عائلة فونت لحمايتها.

تستمرُ اليوميات التي بدأت في اليوم الثاني من نوفمبر للعام 1975 وحتى ليلة رأس السنة متخللة بينَ العديد من الشخصيات والشعراء وهذان الصديقان الصعلوكان يوليسز ليما وأرتورو بيلانو اللذان يختفيان ويعودان من خلال اليوميات حسبَ الأجواء والمعطيات، وفي يوم رأس السنة، اكتشفت زوجة كيم ووالدة ماريا أنّ زوجها ووالد أطفالها على علاقة مع المومس صديقة ابنتها البكر، فتطلب الطلاق منه. ماديرو كالعادة في بيت عائلة فونت، ولكنّهُ هذهِ المرة جاء ليحتفل برأس السنة معهم، ولم يكن يتوقع أنّ زوجة كيم ستكتشف خيانة زوجها لها في هذا اليوم، لكنّ ماديرو وباقي أفراد العائلة والأصدقاء، سيشعروا بأنّ كيم رجل غير طبيعي بحقّ، فهو لا يبالي بشي، وجالسٌ أمامَ التلفاز ويضحك، ويتصبب العرق من جبينه ويشعر بالخوف بين كل لحظة وأخرى. قبيل ساعات قليلة من رأس السنة، يأتي لبيت عائلة فونت الصديقان بيلانو وليما ليشاركوا العائلة حفلة رأس السنة، وقبيل دقائق قليلة من ساعة الصفر، يأتي قوّاد لوبي مع رجل شرطة يطلبان المومس ليقتلاها، وبعدَ مشهد من العراك والدم والضرب، تركبُ لوبي سيارة كيم فونت ويعطي كيم مفاتيح السيارة لـ ليما، فيصعد برفقة بولانيو، وحينَ أوقفَ قواد لوبي السيارة وكانَ على وشك أن يكسر زجاجها، ينتفض (بوصف بارع ومضحك) خوان غارسيا ماديرو وهو حاملٌ في يمناه كتب الشعر وبورخيس ونيرودا، ليضرب بها وبيسراه وجهَ القواد حتى كادَ يغيبه عن الوعي، ثمّ قفزَ داخل السيارة، التي انطلقت مسرعة، لحظة بدء العام الجديد.

أمّا في القسم الثاني من الرواية والذي جاء تحت عنوان "المخبرون المتوحشون"، نرى أنه عبارة عن فيلم وثائقي وحوارات تمتدُ إلى ما فوق الثلاثمائة صفحة. نقرأ في بداية كل فصل من القسم الثاني اسم الشخص الذي يتحدث (الراوي) يتبعه المكان وتاريخ التصوير والحوار، فيتنقل السرد بذلك بين العديد من المدن كمكسيو وباريس ولاس فيغاس ونيويورك وتل أبيب وبرشلونة، والكثير من الشخصيات التي على ما يبدو تجاوزت الخمسة عشر شخصية.

يتحدّث الرواة حولَ حركة الواقعية الحشوية ومؤسسيها "آرتورو بيلانو" و"يوليسز ليما"، فكما تبدأ الحركة من المكسيك لتتحدّث عن اختفاء آرثورو بيلانو وصديقه ليما، تتحدّث الأجزاء الأخرى، كفصل باريس والأخر حول برشلونة عن لقاء بعض الناس من الشعراء الفرنسيين والاسبان وحتى المكسيكيين بالشاعرين البوهيميين، لتبدأ بذلك رحلة السيرة الذاتية التي يكتبها بولانيو لنفسه، وسيرة صديقه ماريو سانتياغو.

يسير السرد بشكل متقطع ومنفصل ومبعثر، لكن استطاع بولانيو الحفاظ على خيط دقيق قادرٌ على حمل توازن القارئ أثناء قراءته للنص، وقد استخدم الكاتب في ذلك تجربته في العمل على أفلام الوثائقي وسنوات عمله الطويلة في الصحافة، كما أنّ مغامراته في السفر والرحلات والتشرد والفقر والبطالة، استطاعت أن تزرع في داخله كمًا هائلاً من السخرية والكوميديا السوداء والتمرد على كل الأساليب الأدبية، وهذا ما جعل المخبرون المتوحشون، وغيرها من روايات بولانيو القريبة منها من حيث الاختلاف في الكتابة (الأدب النازي في الأمريكتان و2666 خير مثال على ذلك) هي التي تجعل القارئ متمسكًا بالرواية ويتابعها من أولى صفحاتها وحتى أخرها. هناكَ أيضًا عنصر التشويق والاثارة في العمل، والفصول المفتوحة والجنس المكتوب بطريقة غريبة، أقرب إلى الرومانسية منها إلى الواقعية المتطرفة ان صحّ التعبير.

ينتهي الجزء الثالث بنهاية بيلانو وليما وباقي الروؤس المتمسكة بالواقعية الحشوية، متخيلاً بولانيو لنفسه نهاية مأساوية مقتبسة من أيامه في منتصف التسعينات حينَ كانَ مراسلاً في أفريقيا، حيثُ يختار لنفسه نهاية مفتوحة يتوقع بها القارئ أنّها نهاية الفصل الأخير من حياة الروائي، خاصةً بعدَ مأساة حياته وطلاقه وتعذبه وتشرده، كأنّ بولانيو الذي كانَ يعاني الفقر وهو يكتب المخبرون المتوحشون، كان يتمنى بشكلٍ أو أخر أن تكون نهايته مقربة من هذهِ التي يكتبها، بينما كانت نهاية يوليسز ليما كما هي نهاية ماريو سنتياغو الحقيقية، مدمن مخدرات يقيم في كوخ بسيط في ضواحي المكسيك، يشغل يومه بتدخين الماروانا وشمّ الكوكايين والقراءة وتدين المال، وقد بدأت حياتهُ تتدمّر تدريجيًا.

الجدير بالذكر هنا أنّ العديد من الشخصيات الراوية في النص حقيقية وواقعية كحفيدة المنظّر الروسي تروتسكوي والشاعر المكسيكي مانويل آرسي والشاعر المكسيكي كارلوس آشيفز.

في القسم الثالث، يعود بنا الروائي إلى ليلة رأس السنة في العام 1976، حيثُ بيلانو، ليما، ماديرو ولوبي في السيارة، متوجهون إلى الصحراء، يتبعهم شبح قواد لوبي والشرطي الفاسد. كتبَ بولانيو القسم الثالث من الرواية على هيئة يوميات، مكمّلاً بذلك الجزء الأول من الرواية، وبذلكَ أيضًا يكشف السر الذي دفع بيلانو وليما يسافران بادئان مغامراتهما في الحياة.

قبل نهاية القسم الثالث، والذي بهِ تنتهي الرواية، نقرأ الكثير من الحوارات الأدبية والألغاز التي تكشف الهوية، وسنكتشف أن بيلانو لاجئ غير شرعي في المكسيك، ونتعرف على خوليو آلامو، الناشط في حركة الواقعية الحشوية والذي يسكن في بيت صغير بـ نيكاراغو، حيث سينضم إلى الهاربين في السيارة قاطعًا معهم الأيام الأخيرة.

تنتهي الرواية بمشهد فنتازي، حيث ستحدث معركة في وسط الصحراء بين قواد لوبي والشرطي الفاسد مع بيلانو، ليما والأخرين، حيثُ سيقتل ماديرو وبيلانو فيها الشرطي الفاسد وقواد لوبي، ويروح ضحيتها خوليو آلامو.

سيفترق الرفاق وقتها. سيأخذ ليما وبيلانو جثة خوليو لدفنها، بينما يعود ماديرو ولوبي إلى بيت خوليو، ويقيمان هناك سويةً إلى الأبد بعدَ زواجهما.

هذهِ النهاية فنتازية، لكن بعض أعداء بولانيو قالوا أنها واقعية، خاصةً أنّ الشاعران البوهيميان كانا تاجرا مخدرات (هذهِ معلومات لا أدلة قاطعة فيها).

كتبَ بولانيو الرواية في منتصف الستينات، حينَ كانَ مراسلأً لصحف في أفريقيا، ولكنه توقف عن كتابتها حينَ انتهى من كتابة القسم الثاني، لكنهُ عادَ إلى كتابتها بعد وفاة ماريو سنتياغو وحيدًا، ولهُ أهدى الرواية. كانت هذهِ الرواية هي المغيّر في حياة بولانيو، حيثُ فازت بالعديد من الجوائز وأطلقته في سماء النجومية والأدب، وكتب عنها العديد من الأدباء الكبار نذكر منهم غابرييل ماركيز، وقد انتصرَ بولانيو بروايته هذهِ على الأدباء الذين نشب برفقة ماريو سانتياغو معهم معركة وعداوة وظلّ طيلة حياته يسخر من أدبهم، وهنا أقصد الأدباء الذينَ باتوا يحتلون اليوم صدارة الأدب العالمي بالاسبانية، مثل ماريو فارغاس يوسا وايزابيلا الليندي.

لقد كتبَ بولانيو روايته متحدّيا حياته وفصولها الأخيرة، متحدّيا المرض والفشل والاحباطات والصداقات المنتهية. لقد كتبَ عن عبثية الحياة والحركات الأدبية والمدارس الإبداعية، لينتج المخبرون المتوحشون، ورواياتٍ أخرى لم تنشر بعد، كانَ قد كتبها في فترات طويلة في حياته، دونَ أن يفكرَ يومًا بنشرها، لكنها رأت الضوء، بعدَ رحيله منتصف يوليو العام 2003، وبالتحديد بعدَ ثلاثة أيام من عيد ميلادي الثالث عشر، العام الذي قررتُ فيهِ بطفولية مضحكة، أن أصيرَ يومًا روائيًا.


----------

الصورة المرفقة (من الشمال إلى اليمين): ماريا فونت – وربما تكون لوبي المومس -، روبيرتو بولانيو (آرثورو بيلانو) وماريو سنتياغو (يوليسز ليما).

تعليقات

‏قال عابد
يا لروعة المتابعة محمد .. ممارسة نقدية سردية اختصرت فلم وثائقي مزدحم بفصول روائية جمة .. انها ليست الارهاصات الاولى لتحقق حلم قديم وفقط . اكثر من ذلك بكثير .. لك مودتي ..

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات