عشيق الليدي روزا
إن كنتَ تبحث عن اثارة المشاكل مع شخص الكاتب، فنصيحتنا لك أن تميّز بين السيرة الذاتية والنص الأدبي قبل قراءة هذا النص – فقط للحفاظ على وقتك الثمين!
م.م
روزا
روزا، إنّي تعبٌ.. لقد أتعبتني، أشعرُ بالفراغ، وأشعرُ باللاطمأنينة. هناكَ الكثيرُ لأحكيهِ لكِ، وأنتِ لستِ هنا. أينَ ذهبتِ؟ استيقظتُ الصباحَ ولم أجدكِ... الشمعةُ على الكوميدينو مطفأةٌ، وأنتِ كسرابٌ ضاعَ. هل كنتُ ملتصقةً بي البارحة حينَ نمتُ. لم أشعر بيديكِ تطوّقان عنقي، ولم أشعر بساقيكِ تلتفان حولَ خصري. السريرُ فارغ! فارغٌ كمعدتي.. إنّني جائع، جائعٌ وعطشان... لم يَسقني حمى يومي، ولم تسقني الإلياذة، ولم تسقني الإيدوسيا... وكُتبي المبعثرة في أرجاءِ الغرفة تشبهُ فوضايَ وأنا أبحثُ عنكِ، لا تزالُ كُتبي، كما لا تحبّين! مبعثرة.. اليومَ بدأ، وفتحتُ عينايَ. ورقةٌ على الكوميدينو، ليست منكِ. كتبتها أنا قبلَ أن أنام البارحة. كتبتُ فيها: "اليومَ سأنظّمُ كتبي، سأدرسُ، وأقرأ رواية العمّة جوليا والسيناريست". أينَ أنتِ يا روزا، ولماذا استيقظتُ صباحًا ولم أجدكِ؟
انتقال
حينَ انتقلتُ إلى منطقة هامستد، قررتُ أن أبدأ حياةً جديدة. في محفظتي أخبّئ دائمًا ورقةً كتبتُ فيها: أهدافي: 1 - أنهي مجموعتين قصصيتين، الأولى قصص طويلة، والثانية قصص قصيرة. 2 - أنهي روايةً أعتكفُ ما يقارب الثلاثة سنوات على كتابتها، ولم أستطع أن أضعَ لها حدًا! 3 - أصمّد مبلغًا مالي كَي أتمكّن في الصيف من السفر إلى دول أوروبا كلّها، وأقومُ بمغامرتي في البحث عن تاريخَ المدن، والعربدة بين البارات وعلى أجسادِ النساء الحسناوات.
تلكَ الورقة تشعرني أثناء قراءتها بقشعريرة، وتوقظني في الوقتِ ذاتهِ من أحلام اليقظة، فأقولُ لنفسي: حانَ الآوان للعمل، تبًا للأحلام! أبعثرُ هنا عن كتاب، وهناكَ أجلسُ أمامَ جهاز اللاب توب أطبعُ قصصًا غريبةً، لا أدري ما تحتويه، وفي النهاية، أعرفُ أنّها لن تكونَ سوى خربشاتٍ سأرميها لاحقًا، ولن ألتفتَ لها، وعلى أقل الإحتمالات، لن ألتفتَ لها. مصيرُ ما أكتبُ، أن ترمى في النفايات، أو أنساها، أو يضرب فيروس جهاز اللاب توب فتضيعُ قصصي ونصوصي، دونَ أن أشتاقَ إليها. (أعرفُ أنّكَ الأن تقولُ وعيناكَ على هذهِ السطور، أنّ الفيروسات تدخل جهاز الكمبيوتر بسبب مشاهدتي لأفلام البورنو، ولأطمئنكَ بذلك، فما رأيك أنّ أكثر المواقع التي يتعرّض جهازك فيها لخطر الفيروسات هي المواقع العربية، باسم الاسلام).
يا روزتي أنتِ لم تسأليني يومًا أن أحكي لكِ حكاية، ولم تسأليني أن أحكي لكِ قصّة الوطن. لم تسأليني أن أحكي لكِ عن طرابلس. أنتِ دائمًا كالوطن، جحودٌ وأنانية، ولكنّني أريدُ أن أحكي لكِ. أريدكِ الأن نائمة في حضني، ككلّ ليلةٍ كنّا ننامُ فيها مع بعض على السرير الوتير.. سأحكي لك ِ كلّ شيء، مبعثرٌ وحدق، والغريب أنّني أريدُ أن أحكي لكِ تلكَ الحكاياتَ في النهار... إنّ الليلَ يا حبيبتي طهارة النهار، ولأنّني سأحكي النجس، فسأحكيهِ في النهار، كي أتطهّر في الليل قبلَ انشقاق القمر.
طقوس عشقية
قالت لنا المعلّمة الجميلة، التي يكادُ نهديها المنتصبان أن يمزّقا كنزتها الصوفية: "الإيطاليون المستعمرين دمّروا الوطن واستنزفوا ثروته، وقتلوا الرجال والنساء والشيوخ، ومنعوا عنّا التعليم، في حينِ كانَ أبنائهم يتمتّعونَ بكامل الثقافة والحرّية وينعمون بخيراتِ هذا البلد"... وكانَ علينا أن ننقلَ ما لقنتهُ لنا المعلمة إلى ورقة الإمتحان، لتنتهي السنة الدراسية ونحنُ سعداء بنجاحنا في مادّة التاريخ. كانت السنةُ تنتهي في كلّ عام، حينَ تكادُ درجة الحرارة أن تذوّب الأجساد. العرقُ أمرٌ ضروري في فصل الصيف، وهذا أمرٌ لا يختلفُ فيه إثنان. كنّا حينَ خروجنا من المدرسة، نتّجهُ إلى حديقة "القصر" متعرّقينَ. نلعبُ كرةَ القدم في الحديقة الخلفية لقصر الملك المخلوع منذ حقبة. نركل الكرة ونجري وراءها. في البداية نكون ثمانية لاعبين، أربعة أربعة، ومن ثمّ يتكدّس الأولاد. الكل يقول: "يا نلعب أو انزبّل"، فيدخل، وهكذا دواليك حتى تصير المباراة عشرينَ مقابلَ عشرين، ولا يعرفُ هذا مع من يلعب، ولا ذاكَ لمن يرسلُ الكرة، أو في أي مرمة عليهِ أن يضعَ الهدف. الكل يتسابقون وراء الكرّة. أجساد تتساقط وندعسُ عليها. معركة بين إثنان من الأولادِ أو ثلاثة، والباقيين يسعونَ وراء الكرة. وعندما تنتهي المباراة، وعادةً ما تنتهي المباراة بالكمّ من المصابينَ بجروح وخدوش، تبدأ لعبتنا المفضّلة، الا وهي من يكسّر أكبرَ عدد ممكن من زجاج نوافذ القصر. هذا القصر كان سابقًا للملك، وهو اليوم مكتبة عامّة لا فائدةَ من الدخولِ إليها. نرمي الأحجار، رمياتهم تصدر صوتَ شتاك شتاك شتاك، ورمياتي تصدرُ صوتَ كش، كش، كش، فأنا هدّاف.
سمعتُ مرّةً في موقع الفيس بوك أنّ القصرَ الذي صار مكتبة، قد تمّ تحويلهُ إلى متحف تاريخي، وقد أغلقوا الحديقة بسياجٍ، فصارَ من الصعبِ على العشّاق أن يلتقوا لممارسة طقوسهم العشقية. القبلات التي جمعت العشّاقَ هناك، صارت محاطةً بالأسوار، والعاشق الفقير الذي لا يملكُ سيارةً كَي يختبئ فيها ومحبوبتهِ، قرّرَ أن ينفصلَ عن عشيقتهُ قائلاً: "حبيبتي، عشّنا الوحيد أغلقتهُ السياج، لا مكانَ للحبّ بعدَ اليوم"!
أحدَ أصدقائي كانَ يعملُ في الجيش. يذهبُ أسبوعًا إلى الجنوب الليبي، ليحرسَ معسكرًا ويحتسي الشاي والبوخة، ويعودَ بعدها لقضاء أسبوع اجازة. حينَ يعودُ، يجلسُ في وسعاية عمارة الميّت ببذلتهِ العسكرية الخضراء وينتظرُ حبيبتهِ لتنزلَ من شقّتها. تتبعهُ حتى يصلا إلى قصر الشعب. يختارانِ مكانًا بينَ الأشجار. يفرشانِ سجّادةً بلاستيكية، ويضعُ حقيبةً بلاستيكية بها سندويتشان لحم مفروم ومشروبان "شاني" الفراولة ويتعانقانِ طويلاً ويقبّل كلٍ منهما الأخر. يأكلان ويتحدّثان، ثمّ تعودُ هيَ إلى بيتها، قبلَ أن يفيقَ أخاها لإختفائها، بينما يسيرُ هو باحثًا عنّا (أي أصدقائهُ)، ماسكًا بينَ يدهِ سيجارة حشيش، وسعيدٌ بكلّ شيءٍ.
هذهِ بعض حكاياتِ مدينتي. صديقي ذاكَ تزوّج. هل تعرفينَ يا روزا أنّني أعيشُ في زمنٍ بعيد؟ أعيشُ مذ في أخر شهرٍ خرجتُ فيهِ من طرابلس. طرابلس توقّفت عندَ تلكَ النقطة، ولم أعلم بأنّها كانت تتحرّك والناس يتحرّكون، وكلّ ما فيها باتَ يتغيّر. تغيّروا كلّهم ومات أحد أصدقائي، وكلّ من رافقتهم في طفولتي ومراهقتي الأولى، صاروا اليومَ بشواربَ وذقون وأصواتٍ غليظة، وصارت ذكورهم تصبّ السائلَ المنوي، كلّما استنموا!
القطار 1
أفتحُ عينايَ. عندما أفتحُ عينايَ، أجدُ الساعةَ أمامي. ساعةٌ دائريةً بيضاءَ، بعقاربَ حمراء، عبثية. أتأملُ الفراغ جانبي وأتساءلُ أينَ تكونين! أجدُ الجوابَ مرًّا.
في هامستد، تبدو الأماكنَ حولي خاليةً. أشربُ قهوةً في مقهًا كانَ قبل نصف قرنٍ مكتبةً يشتغلُ فيها "جوروج أورويل". أقطعُ بعدَ فنجانِ القهوة الطريقَ إلى الغابة، أصعدُ التلّة، حتى أصلَ إلى القمّة، أراقبُ لندن الغائمة، والضبابَ الكثيف يغطّيها. العشب تحتَ قدميّ ذابل، مبتلٌ بندى أو بماء مطر، بقايا عاصفة الليلة الماضية. هناكَ كرسيٌ لعاشقين، فارغٌ، تشبّعت ألواحهُ بالماء. أنزلُ التلّة، ولا رغبةَ لي بالعودةِ إلى الأستوديو. أغوصُ بينَ الركّاب في القطار. أحاولُ أن أتصلَ بصديقي الطبيب، ولكن هاتفهُ مغلق. إنّهُ السبت، قلتُ في داخلي وأبتسمتُ.
في القطار، بدأ المشهدُ أكثرَ تراجيدية. هناكَ عجوزٌ بلحيةٍ طويلة، وبشرةٍ بيضاء. عيناهُ مغلقتان، ورأسهُ يتدلّى عندَ صدرهِ. إنّهُ نائمٌ. الكرسي جانبهُ فارغ، وكلبهُ الأسودَ الضخم تحتَ قدميه. حينَ جلستُ، اشتممتُ رائحةَ نومهِ. كانَ يبدو تعبًا، ويصدرُ صوتًا أشبهَ بالمواء. حدستُ من كلبهِ الذي بدأ يتيمًا في شروده بقسوةً ما يعانيها الاثنين. علّه عاشقٌ عتيقٌ نستهُ عشيقتهُ، بينما ظلّ هو مخلصًا لحبّهِ لها. سروالهُ الجينز ملطّخٍ باخضرار العشب. هذا الجينز، كانَ قد انخرطَ دونَ شكٍ على عشبٌ مبتل. أرفعُ رأسي إلى صدر العجوز، حيثُ رأسهُ يتدحرجُ اثرَ اهتزازِ عربة القطار. قبّعتهُ الصوفية نظيفةً، عليهاَ علامةٌ صغيرة بيضاء، فيها صليبٌ أحمر، علم انكلترا. هذا العجوز انكليزي، ولعلّ حياتهُ كانت بائسة. تعلمتُ من سنواتي القليلة في هذا البلد أن لا أشمئزَ من هؤلاءِ المساكين، ولا أبدي لهم اشمئزازي من أوضاعهم، لأنّني لم أعاني بعد من تلكَ اللحظة التي قلبت حياتهم حتى صاروا بهذا الشكل، وفي ذاتِ الوقت، لا أعطيهم المال. إنّني أحتاجُ المال لنفسي. أحيانًا لا أملكُ ثمنَ سجائري. طوالَ الأسبوع، أبقى مستغرقًا في التفكير بطريقة لأسدّدَ بها إيجارَ الأستوديو وطعامي وشرابي. عندما أقبضُ على معاشي الشهري، أسارعُ في شراء صندوق بيرة وعلب سجائر كثيرة، مخزون شهر. هكذا أرتاحُ لسجائري وشرابي، وأقضي الشهر أسدّدُ ديوني وإيجارَ السكن، وفي الأسبوعِ الأخير من الشهر، أبقى مفلّسًا، باحثًا بينَ مواقع الانترنت عن فرصة عمل في ترجمة بعض الأوراق أو كتابة تقارير صحفية لوكالات بريطانية. أزوّر ورقة مؤهلاتي وتاريخَ ميلادي ولقبي. أخلط الكلمات كَي لا تكونَ ذاتَ طريقة الهجاء، وأحيانًا أغيّر جنسيتي. إن حصلتُ على عمل، أنهيهِ مباشرةً، وان لم أحصل، أظلّ طوال الأسبوع الأخير مغلقًا هاتفي، محاولاً نسيانَ جوعي بقراءة الكتب وشربَ الفودكا. في الصباح، أخرجُ لشراء خبزٍ من البقّال الهندي المقابل لمحلّ سكني. أتأملُ أسطحَ البيوت المثلّثة من نافذةَ الأستوديو وأقضمُ الخبزَ بسعادةٍ بالغة. أتلذّذ بالخبز في فمي قبلَ بلعهِ. أشربُ كوبَ ماءٍ وأقولُ لنفسي، مازالت أربعةَ أيام على موعد استلامي لمعاشي الشهري، عليّ الصبر في هذهِ الأيام الأربعة، ثمّ أفتحُ مذكّرتي التي ملأتها بما يتوجّب عليّ القيامُ بهِ من أشغال، فقط لأنسى جوعي. الجوع لم يكن يومًا كافرًا.. الجائعُ هو الكافر، والخبز صلاة الجائعين.
الشهرُ ينقضي أحيانًا بسرعةٍ. حينَ أشغلُ نفسي بجدولٍ صارم في الكتابة والقراءة والدراسة، أشعرُ بأنّ عليّ القيامُ بهِ، كَي أموتَ يومًا ولا أنتسى. كَي أموتَ وذاتي تعرفُ من هيَ، وإلى أينَ تذهبُ بعدَ هذهِ الحياة. أحيانًا يخطر في بالي، كمن يتناسى الأعجوبة المقدّسة، أنّنا ذاهبين إلى حفرٌ، ستصيرُ يومًا أشجارًا يابسة... في هذهِ الأشجار أرواحَ من دفنوا في تلكَ الأماكن، وفي أنوفنا رائحة الأجساد المحترقة بعدَ موتها.
لحظةَ الولادة، ولحظةَ الطفولة
روزا،
في طرابلس، قبل عشرينَ عامًا، وُلدتُ من رحم اللحظة، وكانت البلد تعاني حصارًا عالميًا، بشعًا، وكانَ الطقسُ حارًا. لم يكن الطقس الحار يستهويني يومًا. في الواقع، كنتُ أحبّ فصلَ الصيف والحرّ في ليبيا، لا بسبب البحر والراحة، بل بسبب العطلة المدرسية. وحينَ حللتُ بهذا البلد، وجدتُ نفسي تلقائيًا أبغض الصيفَ وأهوى الشتاء. الشتاء بضبابهِ ومطره وثلوجهِ أجملُ بكثيرٍ من الصيف. الصيفُ الإنكليزي جميلٌ بنساءهِ النصف عاريات. بسيقانهنّ الجميلة وصدورهن البارزة، ولكن في ذاتِ الوقتِ الذي أتمتّعُ فيهِ برؤية امرأةٍ تسيرُ بمحاذاتي وسيقانها سمراوان ثمريان، وأنا متربّع على كرسيٌ في شرفة بار أحتسي البيرة المثلّجة، أشعرُ كذلكَ باللهفة والرومانسية، حينَ يكونُ البردُ شديدًا، وأنا واقفٌ بمحاذاة نهر الثيمز، على يساري يظهرُ برج الساعة، وصوتُ كعب حذاء امرأةً تسيرٌ بمعطفٍ منفتحٍ الألوان، يكسرُ صوتَ حذائها وهو يضرب الأرضَ سكونَ المكان. إنّ مجرّد التفكيرِ بذلكَ، يعطيني الإحساسَ بالدفئ، وبالرغبةِ في قضاءِ ليلةَ حبٍ تحتَ غطاءٍ كبيرٍ ودافئ.
كنتُ قد ولدتُ والبلدُ يعاني حصارًا بشعًا. قضيتُ سنواتي الأولى أتعلّم الرقصَ على صوت موسيقى أفلام الكرتون، ومن ثمّ دخلتُ المدرسة، ومنذ اليومِ الأول، صفعتني المعلّمة لأنّني لم أستطع حفظ أيةٍ صغيرة من القرآن، أتذكّرُ أنّ المعلّمة قالت لي: "أنتَ حمار!"، وحتى اليوم، كلّما سمعتُ أحدهم يقول لي "حمار"، تذكّرتُ اليومَ الأول في حياتي التعليمية. فمنذُ ذلكَ اليوم، وأنا أرسبُ أو أعودُ إلى البيت بدرجاتٍ "على الحافة". أستعدُ كثيرًا لفلقة والدي، ولصفعاتَ أمّي، وشرشحة أخوالي وأعمامي، الذينَ نجحوا أبنائهم بالرشاوي. سألتُ أبي يومًا عن السبب الذي لا يعطي فيهِ مبلغًا من المالِ لمعلّمة الرياضيات كَي أنجح، فصفعني بقوّة. إذن يا روزا، تستطيعي من هذا الملخّص البسيط، أن تعرفي أنّ حياتي تكوّنت من حمار وصفعة وفلقة. حينَ أخبرتكِ مرّةً أنّني كنتُ أرسبُ طيلةَ سنواتي في ليبيا، حتى قررتُ أن أتركَ التعليم وأنصرفَ للتجارة، لم تصدّقي، وقلتِ لي: إن كانت علاماتكَ الجامعية في لندن عاليةً كما أراها، فبالتأكيد أنّكَ من أوائل الناجحينَ في بلادك. ولكن يا روزا، في بلادي، لم أكن لأنجح، لأنّني لا أحفظُ القرآن، ولا أملكُ ثمنَ رشوة، وأخافُ من عصا المعلّم / ــة.
لكنّني في فترةِ الامتحانات، وحينَ يكونُ الطلاّب جالسونَ في بيوتهم يدرسونَ حتى الصباح، ويتعبون ويتقيأونَ من التعب، أكونُ أنا في سابعِ أحلام اليقظة، وأنّني في يومٍ من الأيامِ سأخرجُ من طرابلس، وأذهبُ إلى لندن، وهناكَ سأعشقُ فتاةً لندنية تعطيني الدفءَ، بينما كلبي العزيز يقضي مساءهُ تحتَ قدميّ، وأكونُ أنا جالسًا أقرأ جريدةً أمامَ مدفئةٍ حمراء، توقظ نارًا ساخنة. نعم، هذا كانَ حلمي الأول، ان حققتهُ، ستحققُ باقي أمنياتي وأهدافي وأحلامي وطموحاتي.
هذا اختصارٌ لفترة نموّي، كانَ ذلكَ، في الوقتِ الذي تطلّقتِ فيهِ أنتِ من زوجكِ، وأنجبتِ وحيدكِ، وتركتِ فيهِ بيتَ والدتكِ المتغطرسة، برفقة مولودكِ، لتواجهي متاعبَ الحياةِ وحيدةً.
في الوقتِ الذي باتَ فيهِ الخبزُ منفردًا..
وهدأت العواصف..
هدوءًا، يسبقُ مسافاتَ الشوكِ إلى المنتهى الأفقي!
القطار 2
قالَ سائق القطار أنّ الخطّ معطّل، وعلينا النزول في المحطّة القادمة وانتظار القطار التالي. فتحَ العجوز المسكينُ عيناهُ الزرقاوان الصغيران وشدّ على حبلِ كلبهِ وسارَ، وسرتُ وراءهُ. لاحظتُ وأنا أسيرُ خلفَ العجوز وكلبهُ، أنّ كلبهُ يمشي على ثلاثة. ساقينِ أمايتان، وساقٍ يسرى خلفية، بينما اليمنى الخلفية كانت مختفيةً تمامًا، فكانَ الكلبُ يمشي بمقدمتيهِ، ويقفزُ بساقهِ الخلفية، كانسانٍ يعتدُ على عكّازينِ للتوازن.
في الرصيفُ، حيثُ ننتظر القطار، بدأ الثلجُ يتساقط بهدوء. كنتُ طيلةَ الوقتِ منسجمًا في متابعةِ ملامحِ الرجل العجوز، وتعابيرِ وجههِ فيما يراه. هذهِ هوايةٌ نمت فيّ مذ أن كنتُ يافعًا، وحينَ كبرت، كبرت معي.
التفتَ العجوزُ لي وقالَ بعدَ أن ابستمَ وبانت أسنانهُ المحطّمة: "انّهُ يومٌ جميل.. لم أرى الثلجَ يسقط بهدوء كهذهِ اللحظة، مذ أن كنتُ طفلاً أرضعُ من ثديا أمّي.. أتمنّى أن لا تزولَ هذهِ اللحظة".
ثمّ نظرَ إلى السماء وقالَ:
"لا أظنُّ أن المسيحَ سيسمحُ لها بأن تزولَ، حتى أزولَ أنا".
أعلنت إحدى العاملاًت بالمحطة عن اقتراب قدوم القطار، وعلى المنتظرين الابتعادَ خطواتٍ من سكّة القطار. اقتربَ منّي العجوز ومدّ لي الحبلَ الذي يربطُ بهِ الكلب ذو الثلاثة أقدام، وقال:
"هذا كلبي. انّهُ كلب أليف، سأذهبُ للحمّام لحظةً قبل قدوم القطار، وسأعودُ بسرعة.. أرجوك!".
مسكتُ حبلَ الكلب، فراحَ الحيوان الأسودَ الضخم يلعق قدميّ وحذائي، بينما كانَ العجوز يجري حيثُ الجهة الأخرى، والتي كان القطار يأتي منها إلى الناحية التي أقفُ فيها والكلب. قلتُ لنفسي أنّ هذا العجوز سيكونُ مسئولاً عن ضياعِ هذا القطار، وأنّ عليّ الانتظار لربع ساعةٍ أخرى حتى موعدَ القطار التالي، ولكن العجوزَ الذي كانَ يهرولُ، انعطف يسارًا حيثُ سكّة القطار، والقطار قادمٌ بسرعة، ثمّ حينَ اقتربَ القطار منهُ رمى بنفسهِ وسمعتُ صوتَ اصطدامٍ يتعبهُ مكابحُ القطار وهي تتوقّف. نبحَ الكلب، فأخذتُ أهرولُ ناحيةَ العجوز المرتمي، بينما النساء يصرخنَ والرجال يتقيّاؤن. كانَ نصف العجوز تحتَ عجلات القطار، ونصفهُ الأخر غارقٌ في دمي، بينما زادَ نباحِ الكلبِ، وهو يحاولُ أن يقفزَ لصاحبهِ. جاءت الشرطة والاسعاف بسرعة، وأمرني أحد رجال الأمن في المحطّة أن أخذ كلبي إلى الخارج، حاولتُ أن أشرحَ ولكن الضجيجُ كانَ يعمّ المكان، وقلبي يخفق بخوفٍ واشمئزازٍ، وصدمةً.
أخذتُ الكلبَ خارجَ المحطّة، وقررتُ أن أستقلّ الباص بهِ إلى شقّتي: "لا بدّ أنّكَ جائع" قلتُ له.
صارَ هذا الكلبُ صديقي، حينَ خلت الحياةُ من الأصدقاء. اكتشفتُ حينَ أخذتهُ إلى الأستوديو أنّهُ أعورٌ. عينهُ اليسرى عوراء، قلتُ في نفسي: "ما ينقصني الأن صديقٌ بعينٍ عوراء وقدمٌ مختفية"! قدّمتُ لهُ الطعامَ المجفّف وأعطيتهُ صحنَ حليبٍ. أكلَ الكلبُ الأسودَ الضخم بشهية، وحينَ انتهى، ارتمى في مكانهِ كَي يأخذَ قسطًا من الراحة. كنتُ جالسًا بالقربِ منهُ، على الكرسي اليتيم في الأستوديو، وسألتهُ: "الا تشعرُ بالأسى على موت صاحبك؟"، دونَ شكٍ أنّهُ أجابني، ولكنّني لا أفهم لغةَ الحيواناتِ بعد. لعلّهُ قالَ لي: "على ماذا سأشتاق؟ على حياةِ التشرّد والبرد والجوع! تبًا لهكذا حياة.. فاك ات". هززتُ رأسي إيجابًا وقلت: "معكَ حق"، ثمّ التفتّ إلى الأوراق الممتلئة على سطح الطاولة، والتي يتوسّطها جهاز اللاب توب. رفعتُ شاشتهُ وضغطتّ زرّ التشغيل، وحينَ جهز اعداد البرامج، فتحتُ صفحةً بيضاء، وبدأتُ أكتبُ قصّة قصيرةً أو قطعةً نثرية. تحدّتثُ عمّا حدثَ معي اليوم، ووصفتُ ذاكَ المشهد التراجيدي. صورتكِ يا روزا كانت حاضرةً في ذهني وقتها، لكنّني لم أكن قادرًا بعد عن الكتابةِ عنك. أشعرُ بأنّني لا أريدُ أن أكتبَ عنك. بلا، أريدُ ذلك، ولكن هل أستطيعُ ذلك؟ كانَ ذلكَ هو السؤال، وكل إجابةٍ كانت مجرّدَ هامش.
آوار
قد تسأليني الأن يا روزا، عن السبب الذي جعلني أعلّق فيهِ هذهِ الصورَ الكثيرة عن طرابلس، وهذهِ المكتبة التي امتلأت بالكتب عن طرابلس في مراحل تاريخية متنوّعة، وعن حديثي الدائم عن طرابلس، رغمَ أنّني أقولُ لكِ بأنّني لا أحبّها ولا أريدُ العودةَ لها، وجوابي سيكونُ حولَ أسئلتكِ الكثيرة هو أنّني أحبّ طرابلس التاريخ لا طرابلس الحاضر. أحبّ طرابلس التي كانت وليست التي صارت. فمكانَ لم يصير، وما صار سيكون. هذا هو تعريفي لطرابلس اليوم. وهذهِ هيَ مفردةَ الحزن الذي يعتريني كلّما ظلّيتُ وحيدًا، أرى هذهِ الصور المتوزّعة على حائط الأستوديو، والكتب التي كادت تنفجر من ضيقِ مكتبتي.
اخترتُ للكلبِ اسمًا. أسميتهُ "الأعور". سألتني امرأةً انكليزية عجوز عن كلبي المسكين، حينَ كنتُ واقفًا أتأملُ البيتَ الذي سكنَ فيهِ جورج أورويل في منطقة هامستد حيثُ أقيم. سألتني العجوزَ عن اسمهِ فعجزتُ عن الاجابةِ في بادئ الأمر، لأنّني لم أعرف اسمهُ، ولم أختر لهُ اسمًا، بل نسيتُ أن أختارَ لهُ اسمًا، فأجبتها بعدَ أن أعادت السؤال مرّةً أخرى، دونَ التفكير في معنًا لجوابي: "الأعور" وأضفت "هذا هو اسمهُ". صمتت للحظات ثمّ قالت: "آوار.. اسمٌ غريب"، ثمّ مضت، ومنذ ذلكَ اليوم، أصبحتُ أنادي كلبيَ المشلول "آوار".
تغيّر روتين حياتي في تلكَ الأيام، صرتُ حينَ أستيقظُ الصباح أشتري قطعة خبزٍ وعلبةَ بسكويت، وعلبةَ حليب صغيرة. أعودُ للأستوديو. أفتّتُ البسكويت وأضعهُ في صحن، وفي صحنٍ أخر أسكبُ علبةَ الحليب، ثمّ أضعهما على الأرض، فيقفز آوار مثلَ كونغر ليتناولَ افطارهُ، بينما أمارسُ طقسي المعتاد في مراقبة أسطحَ البيوت الحمراء وأكظمُ قطعة الخبز بشهية. صرتُ لا أبالي لعدم استخدامي للنقّال. نقالي بعتهُ بخمسِ جنيهات، كَي أشتريَ لفافةَ تبغ وأوراقِ بافرا. أقلعتُ عن تدخين التبغ والبافرا باستخدام قطن الفلتر. أصبحتُ ألفّ ورقة كرتونية وأستخدمها عوضًا عن القطعة القطنية، كَي تكونَ اللفافة المشتعلة أقوى. أقضي صباحي برفقةِ كلبيَ العزيز المسكين آوار. أتحدّثُ إليهِ، وأتشاجرُ معهُ ثمّ نتصالح. أعانقهُ بحرارة فأشعرُ بلهاثهِ، وأرى ذيلهُ يتحرّكُ واقفًا، وهذا ما يعني أنّهُ باتَ سعيدًا. وفي الظهيرة، أقضي وقتي في تعلّم اللغة الإيطالية. أقرأ بعضَ الجرائدِ الإيطالية وأقومُ بترجمةِ بعض الأخبار لغرض التسلية. نادرًا ما أتحقّقُ من بريدي الالكتروني، لأنّ لا رسائلَ تصلني، ولا رغبةَ لي بإرسالِ رسالةٍ لأحدٍ ما. وفي المساء أكتبُ كثيرًا. خربشات وقراءات وعروض سينما. أشتغلُ على مدوّنتي الجميلة، والتي يدخلها بعض المهتمين بالسينما والمسرح والكتب. أنشرُ بعضَ القراءات، ولا أنتظرُ ردودًا وتعليقات، ثمّ حينَ أملّ. أقفلُ اللاب توب، وأسترخي على الفراش ماسكًا كتابًا سحبتهُ من المكتبةِ دونَ أن أعرفَ ما هو. أقرأهُ بمتعةٍ. أعيشُ صحبةَ الكاتب، بينما آوار متربّعٌ تحت الطاولةِ متكاسلاً. وحينَ أملّ من الكتاب، أرميهِ حيثُ لا أعلم، وأربط الحبلَ على عنق كلبي الضخم، ونخرجُ سويّةً للنزهة المسائية. وفي الليل، وأنا أحتسي نبيذًا رديئًا أو علبةَ بيرة أو فودكا، أشاهدُ فيلما حمّلتهُ من احدى المواقع المختصّة بالأفلام، حتى أنعسَ وأنام.
اللقاء الأول، وحكاية نجوى
حينَ تعرفتُ عليكِ، كنتُ أبحثُ عن بيتٍ. التقيتكِ يومَ الثلاثاء، على تمامِ الساعة السادسة، وكنتُ وقتذاك في أسقفُ شغفي بهذهِ المدينة التي تسمّى لندن. التقيتُ بكِ على تمامِ الساعة السادسة، في بيتكِ، وكنتُ ترتدينَ مريولاً فوقَ فستانكِ الأزرق. رحبتِ بي، قبلتُ وجنتيكِ وقلتُ لك: "تشاو روزا... كيف حالك؟"، تحدّثنا كثيرًا عن أشياءٍ مختلطة. حاولتُ أن أشرحَ لكِ عن ليبيا، وأنّها مزيج بينَ الثراث العربي والأمازيغي والكولونيا الإيطالية الفاشية. أتذكّرُ الأن أنّني كلّما تحدثتُ عن ليبيا، كمستعمرة إيطالية سابقة، أنّكِ لم تكوني منجذبةً إلى الحديث، بل على وجهكِ تظهرُ علامات اللامبالاة، كأنّكِ لا تستسيغي هذهِ الفترة، والتي كنتُ أحلمُ أن أعيشَ فيها. كنتِ تهزّينَ رأسكِ فقط، أسمّي لكِ كلماتٍ نقولها بالدارجة الليبية وهيَ في الأصل إيطالية، ولكنّكِ كنتِ تستهزينَ بذلك وتقولينَ أنّكِ لم تستطيعي أن تميّزي كلمةً إيطالية، كلّما كنتُ أتحدّثُ مع أصدقائي على الهاتف. أظنّ بأنّكِ تعتقدين أنّني أختلقُ هذهِ الكلمات، فقط لأثبتَ علاقة ليبيا بإيطاليا، وأن أخرجَ هذهِ الدولة المعتمة في ظلّ سياستها ودينها، لأرتقي بها إلى دولةً أوروبية.
الأن، أودُّ أن أظهرَ لكِ الجانب البشع من إيطاليا في ليبيا، لعلّكِ ستقتنعينَ أنني لا أخلقُ الحجج. سأتحدّثُ عن المخيّمات والتعذيب والقتل، وسأتحدّثُ عن عمر المختار، كبطل وشهيد ضدّ ميليشيات إيطاليا الغازية على بلدي. بهذهِ النظرة الحاقدة، علّكِ تقتنعينَ بأنّ لنا دمٌ قد تلطّخ بيدا أجدادكِ. ما رأيكِ؟
حينَ التقيتكِ، شربنا النبيذ الإيطالي معًا. اشريتُ من بقالٍ مجاورٍ لبيتكِ قنّينةَ نبيذ معتّق، وشربنا أنا وأنتِ والذينَ يسكنونَ في بيتكِ النبيذ نخبَ قدومي. ثمّ أكلنا العشاء في حديقة البيت، وكانَ الطقسُ الصيفي وقتها لطيفًا، خفيفَ النسمات، ومبهج، رغمَ أنّني لا أحبّ الصيف. في المساء عدتُ إلى شقة صديقي حيثُ أقيم. نمتُ نومًا عميقًا، وفي صباحِ اليوم التالي، أرسلتُ لكِ رسالةً أشكرُكِ فيها على حسنِ ضيافتك، وأنّني بعدَ أسبوعٍ من ذاكَ الوقت، سأتي وبضاعتي القليلة.
كنتُ منهمكًا طوالَ الأسبوعِ في عملي في إحدى هوستيلات ادجور رود. أشتغلُ في تنظيف الغرف والأسرّة والحمّامات والمطبخ، وبعدَ أن أنهي عملي تعبًا، وعطشانًا، أحتسي بيرتان باردتان خارجَ حانة الهوستل. أدخّن وأشربُ البيرّة وأتحدّث مع بعض السكّرينَ المغاربة والعاهراتِ. تعرّفتُ هناكَ على "نجوى"، وهيَ امرأةٌ مغربية خمسينية. ملحدةٌ متطرّفة، ودائمًا تقعُ في مشاجرات ومشاحنات مع السكّرينَ المغاربة، والذينَ يؤمنون بقيامِ دولةٍ اسلامية. يتشاجرون فيما بينهم، حتى تطردهم صاحبة الحانة والهوستل، الإيطالية الشابّة التي تدعى "فرانشيسكا".
تعرّفي على نجوى كانَ مصادفةً، إذ أنّني كنتُ بعدَ نهاية يوم عمل شاق، جالسٌ على ناصيةَ البار أشربُ كأسي بقلقٍ. لا أدري مالذي كانَ يقلقني، ولكنّني لم أكن منسجمًا مع ذاتي، وأشعرُ بالضيق والحسرة، وكأنَني حقيبةً محشوةً بالمصائب. جاءني صوتُ امرأةٍ تجلس بالقرب منّي: "منّي الأن، هدية.. كأس بيرة على حسابي" وضعت الكأسَ أمامي، رفعتُ رأسي أتأملهُ للحظة، ثمّ التفتّ لها. كانت مهندمة، وتضعُ الكثير من المساحيق على وجهها، ولكن هذهِ المساحيق لم تفلح في اخفاء سنّها الخمسيني. شكرتها، وأبتسمت. قلتُ لها اسمي، وتصافحنا. تحدّثت لي عن كرهها للرجال، ولكنّها ترى فيّ شيئًا مختلفًا، ثمّ بدأت بسرد قصص حياتها وحكاياتها.
منذُ ذاكَ اليوم، صارت نجوى صديقتي. نتغذّا معًا أحيانًا وأحيانًا أخرى نتبادلُ نخبَ أشياءٍ غبيّة. تتحدّثُ لي عن عشّاقها المشرقيين وزبائنها الخليجيين. تسبّ الجميعَ وتضحكُ بفجور، بينما أحتفظُ أنا بابتسامتي.
الثلاثــاء
1:03 / لا رغبةَ لي في السرد. كلّ شيءٍ فيّ ذابل. إنّها الواحدة ظهرًا ولم أتزحزح من فراشي. قضيتُ الليلة مهلوسًا. أهلوسُ في منامي. هل كنتُ نائمًا؟ أشعرُ بأنّني أودّ الإنفجار. آوار يستلقي تحتَ الفراش. أذني تلتقط صوتَ أنفاسهُ. سأراهُ متربّعًا على الأرض يراقبُ النافذة ولسانهُ يتدعدع من فمه. أغطّي وجهي وأفكّر في النوم.
1:07 / أفكّر في الذهابِ إلى البقّال الهندي القريب من الأستوديو.
1:11 / أشعرُ بأنّ الموتَ يقترب.
1:13 / أفكّر: يا لي من ساذج.
1:13 / ماذا لو جاءت روزا ورأتني على هذا الحال؟ ماذا سأقولُ لها؟ سأقولُ لها أنّني أشعرُ بالملل والوحدة وأحاولُ أن أزرعَ فيها الشفقة عليّ! لا، مستحيل، لا أريدها أن تراني على هذا الحال. أريدها أن تأتي وتجدني بكامل قوّتي، وفي وجهي يجري الدمُ. فإن جاءت ورأتني على هذهِ الحالة، ستقولُ لي: "لم تتغيّر. أنتَ كما أنت، عبوسٌ وجهكَ، ونحيفٌ ققطّ جائع، موف أون، تحرّك وأستبدل هذهِ الحياة البشعة التي تعيشها". لن تفهمَ روزا أنّني هنا، سعيدٌ بوحدتي مع آوار، وأنّني بدأتُ بكتابة القصص التي أحلمُ منذ زمنٍ بكتابتها، إلاّ أن السهر في المراقص وانغماسي في الحبّ والخمر كشعراء الجاهلية أبعدني مسافاتٍ طويلةً عن الكتابة. لن تفهمَ أنّني كلّ صباح، حينَ هيَ تستيقظ وتجدني أتأملُ من نافذة الغرفة ثلجَ ديسمبر يغطّي حديقة البيت، أنّني لحظتها أفكّر بالكتابة. أفكّر في خطّ الكثير من القصص التي ستقتلُ شرودي وتصنعُ منّي ذاكَ الذي أريدُ أن أصير. ولكنّها لن تتفاهمَ موقفي، أنّني أصبحتُ هنا، في هذهِ الغرفة في ضواحي هامستد، أفكّر في شيءٍ واحدٍ لا أكثر، الا وهو كيفَ سأكتبُ قصّةً.
1:16 / 1:19 / حلمتُ بأنّني أنيكها!
1:20 / 10:06 مساءًا / هل أتزحزحُ من سريري أم أنام... انتهيتُ من مشاهدة ثلاثة أفلامٍ وقراءة رواية. الصفحة البيضاء على شاشة اللاب توب تنتظرني لأخطّ قصّتي عليها!
الإربعاء
قرأتُ ذاتَ مرّةٍ رواية، كاتبها يتحدّثُ فيها عن دارهِ التي يجلسُ فيها لكتابة القصص والروايات، لكنّهُ لم يكتب أيّ شيءٍ، وعوضًا عن ذلكَ، وجدَ نفسهُ يكتب رواية عن تلكَ الفترة التي كانَ يفكّر فيها بكتابة رواية. المشكلة التي لديّ، أنّني لن أتمكّن من كتابة رواية أتحدّث فيها عن رغبتي في كتابة رواية. مسألة عبثية. عن من سأكتب؟ آوار، كلبيَ الأعور، أم روزا، العشيقة المنسية! في الحقيقة، يبدو أنّني لن أتمكّنَ من كتابة أي شيءٍ طيلة السنوات العشرَ القادمة لأنّني لم أتسلّح بعد بكامل معدّاتي التي ستساعدني لإنهاء سطرٍ من قصة قصيرة جدًا. سأغرقُ في الصمتِ سنواتٍ طويلة، وحينَ أعود، ستكونُ كتاباتي مبتذلة ومضحكة، وسيتناولها النقّاد بعينِ المقارنة السلبية لرواية أخرى لكاتبٍ أصغرَ سنّ منّي، معتبرينَ أنّي من الذينَ لم يملكوا أدواتهم رغمَ تجربتي الحياتية. السؤال الأن: أينَ سأكونُ وقتها؟ سيكونُ آوار ميّتًا، وروزا في اليابان أو ايطاليا، وأنا في طرابلس. سيقالُ عنّي: كان في بريطانيا وعادَ منها بخفّي حني. ستقولُ النساء الجارات في جلستهم المسائية: يا حنّة مسيكين، امشي لبريطانيا ورجع متبهدلة حالته. الانكليز ما علموشِ إلاّ الفقر. وهكذا سأصيرُ علكةً لمن لا علكةَ له.
الخميس
أفكّر جدّيًا في تغيير حياتي. أختارُ يومي للتأملِ، لأعرفَ من سأكونُ غدًا!
الجمعة
لم أنم البارحة. لا أنامُ حينَ أقضي يومي في التفكير. أسحب ورقةً بيضاء وقلمًا أسود وأكتب:
1 – أشتري كتبًا كثيرةً باللغة العربية وأقرأها بتمعّن ودراسة.
2 – أكتبُ في اليومِ الواحد قصّةً قصيرة كَي أتحسّنَ في الكتابة.
3 – أتعلّم الإيطالية، وأقرأ كتبًا عن ثقافتها وحضارتها.
4 – أصيرُ كاتبًا حقيقيًا. يس.
السبــت
تحليل منطقي لنقاط تغيير حياتي
(أشتري كتبًا كثيرةً باللغة العربية وأقرأها بتمعّن ودراسة)
في مكتبة الساقي بمنطقة "كوينز وي"، يطالعني وجهَ آمين المبتسم ويسألني عن حالي بلهجتهِ العراقية البغدادية، ثمّ حينَ أسألهُ عن جديدِ المكتبة وافضلُ ما كتبَ في الروايات العربية، يملأني بأسماء كتبٍ وعناوينٍ بعضها قرأتها وبعضها الأخر لم. كانَ في جيبي ثلاثون جنيهًا فقط. سألتهُ عن خمسةٍ كتب جيّدة وتستاهل القراءة بهذا الثمن، فتقشّر وجههُ وصارَ أعبسَ من وجهي وقالَ أنّ الثلاثونَ جنيهًا تصلحُ فقط لشراء ثلاثة كتب. اشتريتُ ثلاثة روايات. قبلَ أن أنهي قراءتها، سأشعرُ بالملل وأستخدمُ أوراقها في مسحِ الصحون.
(أكتبُ في اليوم الواحد قصّةً قصيرة كي أتحسّن في الكتابة)
استيقظتُ صباحًا فوجدتُ نفسي في مكانٍ أخر غير ذاكَ الذي نمتُ فيهِ البارحة. أين أنا. إنّني في حلمٍ على ما أظن. أشعرُ بثقلِ حركتي وموتيَ المسكونِ بالظلال. رأيتُ نفسي في طرابلس. في الحقيقة، لم تكن طرابلس، بل مدينةً تشبهُ طرابلس، أو أنّها مزيجٌ بينَ طرابلس ولندن ومدنًا مررتُ عليها أو قرأتُ عنها في الكتب والروايات. حركتي بطيئةٌ جدًا أشبهُ بحركة العم رباح الذي يسكنُ بشارعِ البلدية. العم رباح يشربُ في الليل سائلَ البوخة حتى يتدعدع ويتطايح، ثمّ ينيكُ طفلاً يلعبُ في إحدى الحدائق، ومن ثمّ ينامُ على احدى كراسي حديقة الغزالة.
انتهى السرد
Bullshit
هذهِ قصّة حمقاءٌ كصاحبها. إنّها ليست حكاية. لماذا أعذّب نفسي ببعض التفاهات التي لن تسمنّي ولن تغنيني عن جوع؟ يلعن أبو الكتابة وسريب الكتابة وصرم أم الكتابة!
(أتعلّم الإيطالية...
قبلَ حقبةٍ من الزمن، كانوا الإيطاليون، أجدادُ روزا في بلادي، وقد بنوها وأسّسوا بنيتها التحتية، ويتقاتلون في الصحاري والجبال بعض المتمردينَ في أعينهم، والمجاهدين في أعينِ أهل البدو. وكانَ أجدادُ روزا من الفاشية بقيادة دوتشي موسوليني، الذي أرادَ بعدَ أن تولّى الحكم أن يعمّم سيطرتهُ على الدول التي كانت امبراطورية روما مسيطرةً عليها، ولهذا، فإنّ طرابلس الغرب، بساحلها وآثارها هيَ البلد الأجدر بأن تصيرَ عاصمة الامبراطورية الرومانية الحديثة في شمال افريقيا. سيأتي أجدادُ روزا، ليقيموا على أرض طرابلس، وحينَ أخبرُ روزا عن ذلكَ، لن تعيرَ كلاميَ أي اهتمام. ستبقى صامتةً تنتظر صمتي. تريدني أن أسكت، أن أتوقّفَ عن سرد التاريخ، أن أصيرَ خشبةً صامتة، تطفو، ولا تتكلّم. تريدُ أن تكونَ روما هي روما، ونابولي هي نابولي وميلانو هي ميلانو. تتحدّثُ عن الحضارة والثقافة الرومانية، وحينَ أشاركها الحديث متباهيًا بمعرفتي بثقافتها أكثرَ منها، تهزّ رأسها، كأنّها تقولُ لي: أنتَ لا تَعرفُ شيئًا. أنتَ مجرّد ليبي لا يفكّر في هذهِ الحياة سوى بزبّه. هل تقومُ بذلكَ كَي تواري جهلها بثقافتها. لا أظن. حينَ سافرَ صديقي الليبي إلى روما، قالت لي أنّهُ لا يعرف تاريخَ المدينة، عكسي أنا الذي أعرف، ثمّ أردفت: "الشخص الخطأ ذهبَ إلى هناك". ضلّيتُ صامتًا. أصمتُ وأنا أقولُ في نفسي، سأتعلّم الإيطالية، لأنّها جزءًا من أرضي، ولأنّ روحي، وروزا واحدٌ، والروحُ تتكلّم لغة الجسد.
... وأقرأ كتبًا عن حضارتها وثقافتها).
ليسَ معي وقتٌ ولا مال لقراءة هذهِ الكتب.
تبًا لهذا السرد
لماذا أعطي لهذهِ القصّة حجمًا أكبرَ من حجمها، وأصنعُ منها أسطورةً أو ملحمة. كلّ ما في الأمر، أنّني أحبّ روزا، ولكنني وجدتُ نفسي صباحَ أحد الأيام في هذهِ الشقّة في منطقة هامستد بلندن، وبعدَ أيامٍ قضيتها وحيدًا، صارَ لي بالصدفة أيضًا صديقًا هو كلبي الأعور "آوار"، وأريدُ كتابة قصّة ما بعدَ أن أتممها سأشعرُ بأنّني صرتُ كاتبًا. وحينَ فشلتُ، قلتُ في نفسي لأكتبَ هذا الفشل، وها قد كتبتهُ ولكنّهُ طالَ، ولم أقل ما أرغبُ بهِ بعد. أشعرُ بالخيبة والملل والإفلاس والكساد والجوع والموت. لا أصدقاء ولا صنطمار، لا فلوس ولا داحوس. لا شيءَ على الإطلاق، ولكنّي، علّي ذاتَ يومٍ أصير آرثر رامبو، الذي كتبَ مفلّسًا، عاشَ مفلّسًا، وماتَ في صمت، وبعدَ سنواتٍ وعقودٍ طويلةً اكتشفوه. هكذا الكلّ، حتى الأنبياء، حينما جاءوا كانوا منبوذين، وبعدَ عقودٍ من موتهم صاروا شعاراتً، وحتى الملحدين، وحتى داروين، عاشَ / ــوا مبنوذ(اً)ـــون وبعدَ عقودٍ من موتهِ ــم صار ــوا أنبياءًا. إنّها مسألةٍ عبثية. مسألةٍ مضحكة ومعادلة لا حلّ لها.
حسنًا حسنًا، اسمعيني جيدًا يا روزا، اسمعيني ودعيني أقولُ لكِ شيئًا واحدً.. إنّني تعب، تعبٌ جدًا وخائف وعطش وجائع... إنّني أكرهُ هذا البلد الذي ولدتُ فيهِ حسرةً، إنّني أشتهيه وأكرهه، أحبّهُ بكرهي له... أحبّه بسبّي العظيم له...
إنّ ليبيا امرأةٌ اغتصبتني فأفقدتني عذريتي، ومهجري امرأة نمتُ على سريرها عطشًا، لكنّها لم تسقني!
ما أريدهُ الأن هو الوقوفَ على عتباتِ نفسي، وتأملِ لحظةَ الصمت. أريدُ عزلةً. أريدُ صمتًا، وأريدُ غرفةً صغيرةٍ هي هذا الأستوديو الذي يغلّفُ جسدي.
مالذي جاءَ بي إلى هنا؟
ذاتَ يومٍ كنتُ وروزا نمارسُ الحبّ في دارها، على فراشها. كانت تتموّج، وكنتُ كالثملِ بلذّة فرجها وشيئي يخترقه. كانت تعانقني وتقبّل رقبتي ولحيتي وأنفي وتعضّ رقبتي. كانت بساقيها المفتوحين ونصفي السفلي يخترقها أشبهُ بملاكينِ لحظة زفاف. لروزا شفتينِ شهيتين منتفختين، زهريتا اللون. عروقٌ خضراءَ تظهرُ في ساقيها. أحبّ هذهِ العروق وهيَ لا تحبّها. تقولُ لي: "صارَ عمري أربعةً وثلاثون عامًا. أخجلُ من أن أكونَ عشيقة فتًا لم يبلغِ العشرينَ بعد". تتأوه، يختفي سواد عيناها وتخرجُ لسانها لتلعقَ شفتها العلية. أتحرّكُ فوقها. تصرخ، آه آه آه. وفي لحظة النشوة، كانَ ابنها واقفًا أمامَ السرير ينظرُ إلينا بعينانٍ جاحظتان.
لهذا استيقظتُ صباحًا لأجدَ نفسي وحيدًا في منطقة هامستد.
الأحــد
ترتاحُ الألهة، ويرتاحُ الأنبياء، وترتاحُ البشر.
(أظنّ أنّ على مصراتي أن يوقف هذا السرد... كفاهُ كذب واستعارة لشخص روزا... لقد فشلَ حتى في رسم صورة واضحة لي... فاك آف مصراتي)!
ديسمبر 2009
تعليقات
كالعادة نصوصك لا يمكنني الإكتفاء منها .. أقرأ وأقرأ وأقرأ .. وأنا مستمع .. ولا أمل .. بالنسبة لي أنت روائي ليبي معاصر بكل ما تحمل الكلمة من معنى .. أجد فيك تفاصيل عالمي التي أستمتع بها .. مميزات كثيرة تغلف نصوصك لن أستطيع ذكرها كلها .. أنا أستمتع وكفى بهذه الحكايات الرائعة .. النهاية دائماً قوية .. أحببتها جداً .. أنت .. أحد أفضل الكتاب وأقربهم إلى قلبي .. سلام
صابرة !