القرد والخنزير


إلى الكاتب العراقي مؤيد عبد الستار، الذي لولا نصّه الدارويني، ما كتبتُ هذا القصّ

عندما رأى سكّان القرية خنزيرًا زهريَ اللون ولهُ ذيل حلزوني يأكلُ بعض الفضلات أمام بيت الأستاذ علي، قامت القرية ولم تقعد. وأنطلقَ الشيخ الجليل داعيًا الناسَ لإجتماعٍ طارئ في مسجد القرية، وكانَ المسجد مزدحمًا حينَ صارَ الشيخ الجليل يصرخُ فيهم متولولاً من دخول خنزير في أراضيهم الطاهرة.
وعلّل الناس سبب وجودَ خنزير زهريَ اللون في القرية، أنّ هذا يعودُ لمؤامرة قامَ بها الإستعمار الإيطالي لتكفير القرية، وقامَ بعضهم وقالَ أنّ وجودَ خنزير في القرية لهيَ علامة من علامات يوم القيامة، ولكنّ الشكوك زالت حينَ قالَ لهم الشيخ الجليل أنّ هذا الخنزير هو أخر من تبقّى من سلالة اليهود في القرية الكريمة، اذ أنّهُ لم يخرج إلى ايطاليا واسرائيل كما فعلَ أقرانهُ، فسخطهُ الله وحوّلهُ إلى خنزير كما يقولُ سبحانهُ في كتابه العزيز.
الشيخ الجليل بلحيتهِ المفركسة على وجهه كانَ صاعدًا المنبر. عصاهُ الطويلة كانت في السماء مولولةً بالعذاب الذي سيلاقونه ان لم يمسك الأهالي بذاكَ الخنزير ومن ثمّ قتلهِ. وتساءلَ في خطبتهِ المشهورة عن السبب الذي جعلُ الخنزير يأكلُ من فضلات بيت الأستاذ علي وليسَ من فضلات بيوت الأخرين، ولكي يقطعَ الشكّ باليقين فإنه قالَ ما قاله بأنّ الأستاذ علي الذي درسَ في مدارس الطليان بطرابلس، هو من كانَ يخبئ اليهودي في بيته في تلكَ الأيام المشئومة من تاريخ حروب العرب والدولة اليهودية، وهكذا أعلنَ الشيخ تكفيرهُ للأستاذ علي وهدر دم الخنزير، ثمّ في نهاية الاجتماع رفعَ الشيخُ يداهُ داعيًا المولى أن ييتّم أطفال العدو وعملاء العدو، ونصرة العرب والترحم على روح هتلر قاتل الخنازير في ألمانيا المنوّرة في عهده.
انطلقت القرية بحثًا عن الخنزير، سهروا الليل وأقاموا النهار بحثًا. بينَ الأشجار وفي الحقول وحتى في الفضلات والأكياس المرمية في الطرقات. أعلنَ الشيخ الجليل عن تكفير كلّ من يرمي بفضلاته في الشارع لأنّهُ بذلكَ يساعدُ الخنزيرَ على الحياة واشباعهِ وبذلك "نكون قد اطعمنا اليهود واعداء الله"، ولأنّ الأستاذ علي صاحب النظارات السميكة لا يعبأ بما يقولهُ الشيخ الجليل، فقد تمّ تكفيرهُ مرتين.
***
بعدَ أيامٍ، وبينما كانت النسوة والرجال والأطفال يبحثون عن الخنزير اللعين تحتَ شمس الصيف الحارقة، رأوا الأستاذ علي ببذلتهِ الرمادية وربطة عنقه الحمراء يكرّ حمارهُ الذي يحملُ صندوقا كبيرا على ظهره، سمعوا فيما بعد أنّ هذا الصندوق من سحر الطليان وأنّ لهُ اسمًا غريبًا الا وهو "التي لي في زيون"... فأجتمعت القرية في المسجد مرّةً أخرى، وصعدَ الشيخُ الجليل على المنبر وصرخَ في الناس مؤكدًا أنّ الأستاذ علي هو الذي جاء باليهودي الذي أسخطهُ المولى فصارَ خنزيرًا، وذلكَ لأنّهُ في هذهِ الأيام العويصة من تاريخ القرية، جاء بصندوق ينتهي اسمه بـ زيون، على وزن عائلة لوزون الليبية اليهودية... وقالَ أنّ هذا الصندوق يعرضُ صورَ اليهود.. وقالَ أيضًا أنّهُ سحرٌ ورجس من عمل الشيطان لا تجوز مشاهدتهُ ولا الاستماع إليه، وقالَ كذلكَ أنّ بنات طرابلس يتفرجنَ على الصندوق حتى صرنَ يمشينّ في الشارع شبهَ عاريات، وما أن قال الشيخ عاريات حتى انفجرت الصورة في مخيّلة الرجال: حريم حسناوات بنهود كبيرة وأفواهٍ شبقة.
وهكذا استغلّ الجمع عدم فتوة الشيخ بتكفير من يشاهدة التلفاز، فصاروا يتقرّبون من الأستاذ علي ليحظوا بليالٍ خميسية أمامَ تلكَ الشاشة الفضّية يستمعون لأم كلثوم وهي تشدو بأغانيها. كانت ليالي الخميس تمتلئ بالناس المتابعين للصندوق السحري كأمتلاء المصلين في المسجد يومَ الجمعة، وكانَ الأستاذ علي سعيدًا بذلكَ، وقررَ أن يبدّخَ لهم السهرة، فدعاهم يومَ خميسٍ طارئ للقدوم كذلكَ في الغد الجمعة لمشاهدة فيلم أمريكي.
وحينَ سمعَ الشيخ بقصة الفيلم الأمريكي، اجتمعَ بالناس في خطبة الجمعة وقالَ لهم أنّ الصندوق السحري حراااااام، وأنّ دعوة الاستاذ علي لهم لمشاهدة الفيلم الأمريكي، لهيَ مؤامرة أمريكية صهيونية للإيقاعِ بقريتنا الكريمة الطاهرة، إلاّ أنّ لا أحدَ استمعَ للشيخ وذهبوا كلّهم تلكَ الليلة لمتابعة الفيلم الطويل الذي سيعرض على الصندوق العجيب.
ورأى الناس في الصندوق رجلاً يتصرّف كالقردة، ويتحدّثُ إليهم ويجيبون عليه بلغةٍ لم يفهموها، وكانَ الشيخ الجليل يراقب أحداث الفيلم من نافذة صالون الاستاذ علي المطلة على الشارع، وشاهدَ القردة ورأى الرجل القرد وسمعَ اللغة الغريبة التي لا تشبه الإيطالية، فدخلَ عليهم وجذبهم من شرودهم صارخًا: "يا قوم، يا أهل القرية، يا أبناء الإسلام والمسلمين... الله أكبر، القردة تتحدّث... الله أكبر، الإنسان قرد... الناس التي سخطها الله فصارت قردة، ها هي تغزو قريتنا في ذاكَ الصندوق الفضّي، وتتحدّث إلينا بلغة الشيطان وأعوانه بعد ان نجحوا في ادخال الخنزير... إنها والله لمؤامرة بين ابليس والصهاينة وامريكا للإيقاع بشباب المسلمين في قريتنا". فأنتقضَ الناس مولولين يريدون كسرَ الصندوق واخراج القردة منه وذبحهم، ولكن الأستاذ علي وقفَ بينهُم وبينَ صندوقه السحري في محاولة لتهدئتهم قائلاً أنّ هذا صندوق لا ناس فيه، فقالوا له أنّ بامكانهم رؤية الناس فيه فكيف يختبئون أمامهم ويسبّونَ دينهم دونَ الانتقام منهم، فحاولَ أن يشرحَ الأستاذ علي لهم المسألة، فقالَ لهم أنّ القردة وطرازان يتحدثون بالانكليزية فقط لكي يمكننا فهم ما يقولون، "لكن للأسف نحن لا نفهم الانكليزية، وهم بالأصل ما يعرفون الاسلام لكي يصلوا فيه"، ولكن لم تكن هناكَ فائدة ترجى من ذلك، فوضعَ الأستاذ علي نظاراته على عيناهُ وقالَ لهم متوتّرا لشدّ انتباههم أنّه قرأ مرّةً أنّ هناكَ رجل انكليزي كتبَ كتابًا عن القردة والإنسان وأنّ هذا الرجل كانَ اسمهُ تشارلز داروين، وأنّ هذا الفيلم وفكرتهُ بشكلٍ عام ربما تكونُ مأخوذة منه، وأنّها ليست واقعًا، ولكن هؤلاء الناس يمثّلونَ أحداثَ فيلم له قصة عميقة عن علاقة الإنسان بالقرد.
ولأن الناس لم تفهم الكلمات السحرية التي أطلقها الأستاذ علي، ولأنّهُ كانَ انسانًا متعلّمًا ومثقّفًا، فقد كانَ عليهم أن يسكتوا وهزّ رؤوسهم والاعتذار له، إلاّ أنّ الشيخ الجليل سأل الأستاذ علي قائلاً:
"وهذا الحاج داروين الانكليزي كان يحكي على علاقة الانسان بالقرد.. كيف تجي هدي؟"
فأجاب الأستاذ علي:
"سهلة يا شيخ... هو فقط يقول بأدلّة وبحث طويل حول العالم أن الانسان ناتج لحالة تطوّر طبيعي، وانّ الانسان والقرد من ذات الفصيلة".
"الله واكبر يا ناس... يعني الحاج داروين يقول أن أصل الانسان قرد... يعني أحنا المسلمين أحفاد الرسول والصحابة وخير أمة أخرجت للناس... نحنُ قرود؟"
"..."
علا صوت الناس وهم يريدون تحطيم الصندوق السحري، فأوقفهم الأستاذ علي مستسلمًا لعدم قدرتهم على الفهموقال:
"ما فهمتونيش.. نحنُ المسلمين لا.. نحنُ خلقنا الله من أدم وحواء لأنّنا خير أمة أخرجت للناس، ولكن الإنكليز والطليان والأمريكان كانوا قرود وحتى خنازير، مثلما يقول داروين، ولهذا هم يتحدثون في الفيلم بالانكليزي مش بالعربي، لأنّ العربية لغة بني أدم، والانكليز سخطهم الله مع اليهود زمان وصاروا قرود، والأن رجعوا بني أدميين... يعني شهدَ شاهد من أهلها..."
فرحَ الشيخ الجليل لما قالهُ الأستاذ علي، وأنطلقت القرية فرحة لأنهم لم يتطوّروا من القردة وفضّلهم الله عن العالمين، وخرج الشيخ الجليل وناس القرية ومعهم الأستاذ علي وهو يضحكون ويصفقون سعداء، وذبحوا الذبائح وأقاموا الصلوات، وأنطلقوا في ظهيرة اليوم التالي للبحث عن الخنزير... تسلقوا الأشجار وقفزوا بينَ الأسوار والبيوت حاكّينَ رؤوسهم وأجسادهم، ولأنّهم تعوّدوا على المشي حفاة فلم تكن أشواك الشجر تضرهم... وفي المساء، وبعدَ القفز بينَ الأشجار والحقول والأسوار والبيوت، وبعدَ أن ملأت النساء سلال الأكل والفواكه والخضار، لم يجد الرجال الخنزير اللعين، وعادوا إلى بيوتهم سعداء.

تعليقات

‏قال Ibn La Ahad
فظ الله فاك، شل لسانك، انت الداعر والعاهر
‏قال غير معرف…
To be honest , I can't understand your writting, you remind me with Younes shalaby in Madrasat Almushagebeen.
‏قال alaref…
فعلا صدقت ولا تعتقد انه قد انقرضوا بل لا تزال هذه العقلية موجودة وبكثرة ولعلك شهدت واحدا منهم هنا

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات