أغنيةَ المسافرِ للمسافر


إلى صديق الطفولة فارس خليل
يحتسي قهوته على مهل. يحبّ نسكافيه روما، الذي يُقدّم في مقهى السنبلة حيثُ نلتقي في الأماسي وأثناء هروبنا من المدرسة في أيام الخميس. وجههُ المدوّر مضحك. كثيرًا ما أسخرُ منهُ بسبب وجهه الغريب. أشعلُ سيجارة، أقدّمها لهُ، يحتسي قهوتهُ ويتأملُ السيجارة بينَ أصابعي، ثمّ يقول: لستُ أحمقًا مثلك، هذهِ التي بينَ أصابعك ستقتلكَ يومًا، أمّا أنا، فأريدُ أن أرى أطفالي يكبرون، وينجبونَ لي أحفادًا. أبتسمُ له، وأقولُ: سنموتُ بها أو دونها.. إنّها مسألة عبثية. لا يفهمُ كلامي، ويظلّ يحتسي قهوتهُ، وأظلّ جالسًا أدخّن وأتحدّث عن بنات المدرسة، ومعاكسة البنات المارّات.
كانَ مساءًا ورديًا. مساء الخميس. الكلّ يمشي، والكل يقفُ أمامَ واجهات محلاّت الملابس يتفرّجونَ على الملابس. أسألهُ التحرّك. أسألهُ أن نتجوّل على الكورنيش. في الطريق، وهو لا يزالُ ماسكًا كوبَ قهوتهُ الورقي، سألني لماذا أودّ الذهابَ إلى الكورنيش.. أجيبهُ أنّني أريدُ رؤية شاطئ البحر. قال لي: "من يسمعكَ يخالُ أنّكَ ستموت". نقفُ أمامَ البحر الأزرق. السماء صافية، والبحر يلمع. لا شيءَ جميلٌ في هذهِ المدينة سوى البحر. رائحتهُ مخدّرة، أنفاس البحر عطشة. وهو، يقفُ بجانبي، محدّقًا في العدم، يسألني عن فتاةٌ أحببتها، لكنّها لم ترضى بحبّي لها، وأعتبرتني صديقًا. قلتُ له: "كلهنّ يردنَ منّي أن أصيرَ صديقًا، كَي يحدثنني عن عشّاقهن..". يهزّ رأسهُ أيجابًا ويرمي بكوب القهوة في البحر. لا أسألهُ لماذا يرمي بكوب القهوة في البحر. البحر أكبر من أن نهتمّ بنظافتهِ. أنحي برأسي وأرفعُ سبابتي نحوَ القلعة الحمراء، قلعة طرابلس، وأقولُ له: "سمعتُ أن يوسف باشا القرمانلي كانَ يسكنُ في تلكَ القلعة"، يهزّ رأسهُ نفيًا ويقول: "بيت القرمانلي في الأربعة عرصات" (1). القلعة الحمراء تصبحُ حمراءَ في ساعات الغروب. المدافع التاريخية تصبّ تجاهَ البحر. في شهر رمضان، ومن هذهِ القلعة، يُطلقُ مدفعَ الافطار. صوتٌ رهيب، يدوي بقوّة فيثيرُ صاعقة في قلوب الذينَ يسكنونَ حولها.
قالَ لي وكلينا شاردٌ، في أغنيتهِ: "ليست لي هواية... لا أعرفُ ما أريدهُ من الحياة أصلاً"!
كأنهُ اكتشفتَ شيئًا ما لم يكن يفكّر فيه؟ كنتُ قد أنجزتُ قصّةً، وأهديتها إلى الكاتب علي مصطفى المصراتي الذي غالبًا ما يتمشّى في شارع عمر المختار، حتى صارَ احدى أعلامها. قالَ لي حينَ لم أردّ على سؤالهُ، أو اعترافه: "لا أعرف مالذي يجعلكَ تحبّ الكتابة... أنا ليست لي هواية"... وقتها، شعرتُ بشيءٍ من السكون يطغي على ما في داخلي. كانَ الصمتُ جوابي، كانَ من المفترض أن أجيبه: "عليكَ أن تهوى الحياة وتحبّها، كما تحبّ أباك وأمّك.. أنا أحبّ الحياة، لهذا أشعرُ بأنّ لدي الكثير لأقومَ بهِ..." لكنّني لم أفعل. أنشغلُ في مراقبةِ البحر، أنشغلُ في التفكير بالضفّة الأخرى. كانَ هو يشعرُ برغبةٍ حقّة في الذهاب إلى قلب البلاد، أو منطقة قرقارش. قالَ لي أنّهُ يودّ الذهابَ إلى مقهى الثامنة، وأنّ معهُ ثلاثة دينار، تكفي ثمنَ تاكسي، وصحنَ بطاطس. أخرجتُ من جيبي ديناران وقلتُ لهُ أنّني أفضّل الجلوسَ في قهوة الغزالة.. ندخّن أركيلة ونشربَ الشاي، ومن ثمّ عليّ العودةَ إلى البيت.
في مقهى الغزالة.. كنتُ لا أزالُ أستنشقُ رائحةَ البحر... قبلَ أن أذهب، كانت العبرة تخنقني، عانقته، وقلتُ له: "غدًا يا صديقي، سأسافر".
المدينةُ تعيشُ صمتها. زمامير السيارات، وأصوات تصفير، وناس يزعقون ويضحكون. أخترقُ شارع البلدية، حتى أصل ميدان "الجزائر"، أرفعُ رأسي لمسجد الدعوة الاسلامية، الذي كانَ قبل أعوام "كاتدرائية طرابلس". الأضواء تلمعُ على حيطان المعبد، والسيارات تلتفّ حولَ الميدان كأنّهُ عروس. طرابلس تختفي خلفَ أصواتها وأرصفتها. مدرسةٌ كانت سجنًا، وعمارةً كانت قنصلية، ومقهًا كانَ حانة. أنحني يمينًا فأصيرُ في شارع هايتي. أسيرُ وأسيرُ، حتى أصلَ العمارة التي أسكنُ بها. أصواتَ الخزّان، وأصواتَ الفراغ. أخرجُ من تحتِ حزامي سكيني الأسودَ، وأخبئهُ داخلَ ثغرةً في عمود رخامي، وأصعدُ الدرجاتَ مهرولاً. لا شيءَ يجذبني للبقاء... أريدُ السفر.
في الليل، قرعَ الباب، فتحتُ الباب، فوجدتهُ، بعينينِ ذابلتين، سألني متى سأعودُ، لم أجيب، تعانقتنا، ونسيتُ أن أقولَ له، ما كانَ يردّدهُ محمود درويش:
ليس منفى أَن يكون البحرُ والصحراءُ أغنية المسافر للمسافر: لن أعود، كما ذهبت، ولن أعود... ولو لماما!
كانَ عليّ أن أردّدها بعمقٍ، وأجبركَ على سماعها، علّك بعدَ أربعة سنوات من ذاكَ العناق، تتذكرني أقولها لك، في اللحظة التي انقلبت فيها السيارة التي تحملك، من على الجسر العالي لترتطمَ بالأرض وتقتلك.. لعلّه كانَ النشيد الذي سيكتبُ لكَ حياةً أخرى.
لن أعودَ... ولو لماما!
نوفمبر 2009
---
فارس خليل: صديق الطفولة، توفي بحادث سيارة في طرابلس نوفمبر 2009

تعليقات

جميلةُ ذكرياتك, و جميلٌ ذكراك لصديقك و وفائك له


تحياتي أيها الرائع
‏قال غير معرف…
قصة رائعة ومتمكنة
لاحظت تطور مستوى السرد واللغة
اعجبت بها كثيرا
اقترح ان يترجمها د. غازي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات