رائحة البيض صباحا





1
رائحة البيض في الصباح لذيذة. حالما يفتحُ عيناه، يتجّه للمطبخ. صوت المطرب "أحمد فكرون" يصدح من المسجّل العتيق فوق الثلاجة. يعتمدُ أثناء طهوه للبيض على السير وفقَ لحن الموسيقى. يحبّ أثناء تجهيز البيض، تحريكها داخل الطاوة وسماع صوت الزيت المقلي. عادةً، أثناء طهوه للبيض، تكونُ السماء صافية، ولأن العمارة التي يسكنُ فيها تكونُ مواجهةً للبحر، من الجهة الشرقية، فإن الشمس تسقط على مطبخه كل صباحٍ، كأنها تتجوّل لتطمئن على حاله. وعلى الرغمِ من أن الطقسَ بارد، إلاّ أن الشمس في مدينة طرابلس، ترسلُ دفئها في مطبخه، ومن المتوقّعِ أن يكونَ هذا السبب الذي جعله لا يقترن بالنساء اللاتي زرنه في شقته، والسبب أيضًا في طلاقه من إبنة عمته، وإبنة الجيران، وكلاهما أحبهما بكل ما يملك، لكن الزواج أفسد الحب، ورأى في الشمس حبّه الذي لا يطارده رجال شرطة الآداب، ولا تجبره الوالدة أطال الله في عمرها على الزواج منها. بل هكذا.. كل صباح، يطهو بيضةً واحدة، اصفرار حوله بياض وعلى جوانب البياض احتراق بنّي اللون، ويمارسُ طقوسَ عشقهِ لشمسهِ الدافئة.
كانت سوسن تقول له: "الشمس والسيجارة وأحمد فكرون.. هؤلاء الثلاثة لا أحبهم فيك، لأنهم يسرقونك منّي". ورغمَ أنه يحبّ سوسن، ولكنّه لا يرضخ لطلباتها في اقفال المسجّل العتيق، ولا يكفّ عن طهو البيض صباحًا، كما أنه لا يكفّ عن التدخين. التدخين يساعده على احتمال ثرثرتها. إنه يقول: "النساء ثرثرات.. كومة كلام، لا ينفعن في العمل"، إلاّ أنه كثيرًا ما ينسى وراء قناعته تلك نفسه، وهو يصرف في اليوم خمسة دينار أو أكثر مقابل الجلوس أمام محرّك البحث على شبكة الإنترنت، يتأمل صور تلكَ الصحفية المجتهدة التي لطالما تفاجئه بمقالاتها وتقاريرها وأعمالها الصحفية والثقافية. قالَ لسوسن: "أنتِ لستِ صحفية يا سوسن، أنتِ كومة مشحونة بالكلام الفاضي". "يلعن أبوك قليل أدب" قالت سوسن كعادتها وأنصرفت. سوسن تدخّن أيضًا، لكنّها تدخّن الكيف لا السجائر. تدخّن وتتحدّث. أحيانًا تنام على الكرسي. أحيانًا يتفقا للنوم سويةً في حجرته الصغيرة، لكنهما ما أن يشربا الويسكي ويدخنا الكيف، حتى يغلب عليها النعاس فتنام، بينما يظل هو يستمع إلى الفكرون، وأحيانًا يستمتع برؤية سوق الرشيد تحتَ العمارة والباعة المتجولين فيه. يفكّر في سوسن. تكتب مقالاً أسبوعيا في زاوية جريدة "الشمس". مقالها ممل حولَ أمجاد الثورة أحيانًا، وفي أحيان أخرى، حولَ هذا البلد الذي تقول عنه "بلد الطيوب"! حاليًا، هذه الأيام، بدأت تكتبُ مقالات عن العيد الأربعون لثورة سبتمبر 69، ولكنّني لم أملك الصبر لأنهي أيًا من ما تكتبه.
2
أحيانًا يفكّر في جدّه الذي كانَ يضحكُ كلّما رأى حفيدهُ. لم يعرف جدّهُ إلاّ ضاحكًا. جدّهُ لم يكن يضحك لسعادتهِ لرؤية حفيده، بل كانَ يضحكُ عليه. أحيانًا وهو يطهو البيض أو يدخن الكيف، يضحكُ متذكّرًا جدّهُ. كانَ يقولُ أحيانًا أنّهُ باتَ يشكّ بأنّ جدّهُ كانَ مدمنًا على تدخين الكيف. لم يرى في حياتهِ جدّهُ وهو يعدّ ورق السجائر لصنع لفافة حشيش، ولكنّ ضحكتهُ هيَ ضحكة المسطولين لا محالة.. إنّهُ يفكّر كثيرًا، كأنّهُ جدّهُ حينَ يضحكُ كثيرًا.
جدّتهُ لا تضحك.. هي فقط تتحسّر. جدّهُ يضحكُ عليه وعلى الحاجّة التي تتحسّر ليلَ نهار.
3
إذن، ثلاثة هوايات يمارسها في حياته.. شمس تغمره. رائحة البيض في الصباح، المختلطة برائحة السيجارة وصوت أحمد الفكرون. وفي المساء يمارس هواية التفرّج على صور الصحفية التي لا تشبه سوسن. أحيانًا، يمارس هواية جمع الصور على الإنترنت لرجال مجهولين بجانب بعض المطربين الأمريكيين، يقوم بواسطة برنامج الفوتو شوب بقصّ الوجوه وتركيب صور وجهه عوضًا عنها، ثمّ طباعتها والصاقها على حائط المطبخ. لهذا: شمس تغمره، رائحة البيض في الصباح، المختلطة برائحة السيجارة، وصوت أحمد الفكرون يصدح من المسجّل القديم فوق الثلاجة، ورؤية صوره مع مشاهير العالم...
كانَ أيضًا يريدُ إضافة القهوة لصباحه.. رائحة القهوة الصباحية، مع سيجارته.. لكنّه كل صباح ينسى أنه مساء الأمس لم يشتري بنّــًا.
لندن 29 / 09 / 2009

تعليقات

‏قال غير معرف…
قصة جميلة خاصة حين لا تنسى شراء البن في اليوم السابق ثم تصنع قهوة عربية وتجلس على كنبة في صباح لندني مغيّم وتقرأها لوحدك وتتمنى لو كان جدك يضحك مثل جد الكاتب
‏قال عابد
قصة رائعة مع ان طهو البيض قلما يرتبط بزرقة السماء او صفائها .. ومن طرابلس او بالاحرى ليبيا يأتي الجديد .. وكذا المؤلف القدير

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات