رسم بياني للحظة انتظار
قصة قصيرة
1
لطالما كنتُ أسمحُ لعشيقتي بخيانتي، إيمانًا أنّ كلّ الأجسادِ التي ستمرّ عليها ستكونُ غريبة، وسأكونُ أنا وجسدي لها وطنًا ترجعُ إليهِ، مهما ابتعدت، ومهما طالت السنين.
في الواقع، كنتُ أستاء حينَ تتأخر عشيقتي عن موعد عودتها من عملها، وكنتُ أدركُ أنّها تخونني، ولكن إيماني العميق بماهية الوطن والمنفى، يجعلاني أسمحُ لها بأن تخونني كيفما شاءت، وقد مررتُ بتجاربَ عدّة، مليئة بالغيرة وعدم الثقة، حتى وصلتُ إلى إيماني ذاك، ولا مبالتي القاتلة. فقد كنتُ لنسيانها عندما تتأخر عن العودة إلى البيت، أملأ وقتي بالتفرجّ على بعض الفيديوهات على اليوتيوب، أو التسلية بالدردشة على الماسنجر. أحيانًا أحاولُ الدراسة أو كتابة مقال أو ريبورتاج صحفي، وأحيانًا أخرى أحاولُ كتابة نصّ قصصي، إلاّ أنّ كلّ ذلكَ لم يكن يثمر لنسيانها ونسيان خياناتها. وحتى الماسنجر وفيديوهات اليوتيوب سرعان ما أصبحت أتذمّر منهم، لعلمي أنّني بذلكَ أخونُ نفسي، وخيانة النفس أكثرُ حدّة من خيانة الحبيب.
2
ومن تلكَ الغيرة، ولدت محاولات اللامبالاة وفكرة الوطن والمنفى. فقد كان هناكَ حلاّن لتجنّب خطر الغيرة، فعوضًا عن إدّعاء الغضبِ أمامها وعدم مبالاتي بها، وتفادي قبلاتها التي تنهار على خديّ ورقبتي وفمي، كانَ عليّ البحثُ عن حلّ أخر، وسرعانَ ما تزاحمت الأفكار، إلاّ أنّ فكرتين إثنتين ظلّتا عالقتين في ذهني، وقد قمتُ مع الوقت بتنفيذهما:
الفكرة الأولى: اشتريتُ زجاجتي نبيذ من البقال الهندي المجاور لشقّتي، إحدى الزجاجتين نبيذ فرنسي والأخرى نبيذٌ إيطالي. عدتُ للبيتُ جلستُ في المطبخ – المكان الوحيد في البيت الذي يسمحُ لي فيه بالتدخين - وسكبتُ الكأس الأولى وشربتها دفعةً واحدة، ومن ثمّ بدأتُ بالشرب مستمعًا بنسمات الهواء الصيفية وموسيقى الجاز والكنتري. لم تكمل الساعة دورتها، حتى كنتُ قد أجهزتُ على القنينتين، إلاّ أنّ العجيب في الأمر، تحوّل موسيقى الجاز إلى موسيقى عبد الوهاب، والكنتري إلى موسيقى عبد الحليم. تحوّلت أغنية "ليت إت بي" إلى "يا مسافر وحدك"، و"ليدي" إلى "قارئة الفنجان". وعندما حاولتُ التحرّكَ إلى السرير كي أنام، كنتُ أترنّحُ وأشعرُ بأنّهُ من الصعب الوصول إلى ضفّة سريري. عندمَا يسكرُ المرء ويشعر بالمرض والرغبة في الغثيان، يكونُ السرير هو الحل. سيدورُ بهِ العالم في بادئ الأمر، ولكن بعدَ أن يغمضَ عيناه، يتلاشى كل شيءٍ حوله.
وحينَ كنتُ أحاولُ الوصولَ إلى سريري، وصلت عشيقتي للبيت. كانَ الكارادور ضيّقًا وطويل، وكنتُ أرى شبحها يمرّ في عتمة الظلام.
حينَ اقتربت منّي، صدّيتها بكلتا يداي، وأبعدتها بنظرات عيناي النصف مفتوحتين. سببتها ولعنتُ الساعة التي تعرّفتُ فيها عليها، ورميتها بشيء صلبٌ لا أعرفُ ما هو، ولكنّه كانَ بالقربِ من يدي. وفي الصباح.. ندمتُ على ما حدث.
أمّا الفكرة الثانية: فقد كانت الأفضل، لأنّها تمثّل حالة الوطن، مهما اعتقدتَ أنّ الفكرةَ بعيدة تمامَ البعد. فحينَ غابت صديقتي تلكَ الليلة، شعرتُ بحزنٌ كبير في داخلي، وكان هذا الحزن أشبهُ بالحزن الذي يعتري داخلي لحظةَ إفلاسي في لعبِ القمار في البيوت السرّية المبعثرة في شقق "كينغز كروس" وسطَ لندن. لكنّني كنتُ وقتذاكَ، متمتّعًا بنشوة وطيبة غريبتين، فلم أكفّ عن إرسالِ رسائلَ قصيرة إلى هاتف عشيقتي النقّال، اقولُ لها فيها أنّني مشتاقٌ لها وأنّني ميّتٌ في حبّها. كنتُ أشعرُ لحظتذاكَ أنّني سأرتكبُ تلكَ الحماقة التي ارتكبها ذاكَ الرسّامُ أو الشاعر، حينَ قطعَ أذنه وأهداها لحبيبتهِ تعبيرًا عن حبّهِ لها. أو أنّني سأضعُ لها الحبوبَ المخدّرة في كوب الشاي قبلَ أن تذهبَ لأخذ قسطٍ من النوم، وأثناء ذلكَ أحلّقُ لها شعرها صفرًا كي لا تفكّرَ بخيانتي. أو ربّما، ولأوفّرَ عناء كلّ ذاك، يمكنني أن أهجرها وأختارُ عوضًا عنها رفيقة قبيحة، كَي لا تفكّر أبدًا بخيانتي. الفكرة الأخيرة يرددها رفاقي كثيرًا. فأحدَ أصدقائي، كان رغم النساء الجميلات اللواتي يعرفهن وعاشرهن، كانَ يريدُ الإرتباطَ بإمرأةٍ قبيحة، لأنّها دونَ شكٍ لم تمرّ في حياتها بتجربة حب أو جنس، ولن تفكّرَ حتى بخيانته، وليزدادَ طمأنينة، قالَ لي أنّها بالإضافة إلى الفتاة القبيحة التي يرغبُ بالإقترانِ بها، فإنّه يريدها كذلكَ محجبّة. ليزدادَ قبحها، فالمحجّاب القبيحات (حسبَ ما يقول) لم يمرن بأي تجربة في حياتهن. وعندما اقترحتُ على صديقي ذاكَ أن يقترن بفتاة ترتدي النقاب، وتخفي وجهها، رفضَ الفكرة من أساسها، قائلاً أن الليبيات اللواتي يرتدن النقاب، هنّ عاهرات محترفات أو عميلات للمخابرات.
حينَ عادت حبيبتي للبيت، كنتُ وقتذاكَ في غرفة النوم. أعددتُ طقسًا رومانسيًا، فبالإضافة إلى النبيذ التشيلي، كانت الغرفة مرتبّة ونظيفة، ووحدهُ ضوءُ الشمعة ينيرُ المكان. دخلت عشيقتي الغرفة، وسمعتُها تقول: "وااااااو" عميقة. إلتفَتت إلى حيثُ سريري مبتسمة.
3
قبلَ وصفِ اللحظة الرومانسية، عليّ أن أركّز قليلاً على فكرة معيّنة، وهي فكرة لطالما ذكرها الشاعر "محمود درويش" في قصائدة، الا وهي فكرة الإنتظار.
تعريف الإنتظار هو اختلاس اللحظة المؤرقة بالقيام بشيء قد يفيد ما كنتَ تنتظره.
مثال عندما تأخرت عشيقتي، وبعدَ أن نظّمتُ الغرفة وأعددتُ المكانَ جيّدًا للحظة الرومانسية، استغلّيتُ فرصة إنتظاري لها لفرغ معدتي من فضالات الطعام، ثمّ قضيتُ وقتًا طويلاً في تنظيفِ أسناني التي اصفرّت من التدخين، وتعطرتُ بسائل الكولونيا وأنا أردّدُ ما قاله محمود درويش في قصيدته "انتظرها":
بكوبِ الشراب المرصّع باللازرود / انتظرها / على بركة الماء / حول المساء وعطر الكولونيا / انتظرها.
وكانَ التعطّرُ أمرًا مهمّا. فالوطن عليهِ أن يتفوّحَ برائحة زكيةٍ بعدَ التخلّصِ من فضلاتهِ، أي لكي يعودَ إليهِ من هجره إلى أوطانٍ / أجسادٍ أخرى. وبما أنّني تذكّرتُ محمود درويش في تلكَ الليلة الرومانسية، فلن أستطيعَ أبدًا الهروبَ منهُ ومن شخصه، فتأثري بشخصهِ رغمَ أنّني لم ألتقهِ في حياتي يحبسني كلّما تذكّرتهُ، فأصبحتُ أتصرّفُ كشاعر. في حركتي، مشيتي، استلقائي على السرير، سكبي للنبيذِ في الكأس وتأملي للحاجيات حولي. وعندمَا جاءت حبيبتي، كنتُ لستُ أنا، بل محمود درويش، أو على أقلّ تقدير، شاعر أخر ليس أنا. وأقصدُ بالأنا، ما أعني بهِ أنني لستُ أنا، وأنّني "لستُ لي".
4
"واااااو".. قالت حبيبتي وألتفتت لي مبتسمة.
"اشتقتُ لكِ" قلتُ لها "طال غيابك". وأخذتُ من تحت غطاء السرير فستانها الشفاف الذي لم أراها أبدًا ترتديه. تقدّمت نحوي وقبّلتني وذهبت إلى الحمّام كي ترتدي الفستان.
لم أتأقلم مع وضعية النكاح التي جمعتنا. أو ربّما، الشاعر الذي حلّ مكاني لم يتأقلم مع وضعية النكاح تلك. فوضعية الـ دوغي ستايل لا تتماشى مع شاعر عربي، رغمَ أنّني حينَ كنتُ حاضرًا، كنتُ أضاجعها بكل الوضعيات التي تعلّمتها من أفلام البورنو. أمّا الشاعر الذي لم يتأقلم مع الوضعية البعد حداثية، فكانَ متذمّرًا ويشعرُ أن هذا الوضعَ لا يروقُ له. تبًا. قضيبي لا يريدُ الإنتصاب. رقدَ في لحظة إنتشاء الجسد. ربّما لأنّ هذا القضيبَ ليسَ قضيبي، بل قضيبُ الشاعر. وعندما شعرت حبيبتي أنّ قضيبَ الشاعر فقدَ حيويته، مصّتهُ له ولكن دونَ جدوى. رفعت عيناها وأسنانها تداعبان رأس القضيب قائلة: "هل أنتَ مثليّ؟". أجابَ الشاعرُ: "إنّه الخوف يا عزيزتي" وأجبتُ أنا، محبوسًا في داخلي ومكتوم: "تضحكينَ وزبّي في فمك!!!".
5
رغمَ أنّني شعرتُ في اليوم التالي بالرضا، وبإقترابي أكثر من عشيقتي، إلاّ أنني في ذاتِ الوقتِ شعرتُ بالأسى على نفسي. كانت شخصيةُ الشاعر فد ذابت على السرير حيثُ تركتها، وأختفت، وكنتُ فكّر بأنّ أكتبَ نصًا عن الوطن والغربة، وأفكّرُ أيضًا في الكتابة عن حبيبتي.
في جملة أفكاري، لم أقرأ الرسالة التي تركتها حبيبتي بجانب الشمعة المطفأة وزجاجة النبيذ الفارغة في الغرفة، والتي كانت تشكرني فيها على أجمل ليلة قضتها معي، ومن ثمّ طلبت منّي تركَ البيتِ في أقربِ فرصة، لأنّها ستؤجرهُ إلى عاشقين، وقالت: "أظنّ بأنّ الشقّة تحتاجُ إلى عاشقين يوفران الدفء له طوالَ الوقت. على أي حال، ليلة البارحة كانت رومانسية والنبيذُ كانَ لذيذًا، لقد كانَ وداعًا عميقًا".
هكذا يتركُ الأنبياء أوطانهم، وتنتهي لحظة الإنتظار.
تعليقات