أميركا ربيع جابر



عندما تدخل الرواية حيّز التجريب، وعندما لا يملّ القارئ من تتبع كتابات ربيع جابر

يستمرُ ربيع جابر في سرد حكاياته. إنّهُ لا يتوقّفُ عن الكتابة. في جعبتهِ الكثيرُ من الحكايات والقصص، ومارتا، بطلة روايتهِ الجديدة، تأخذنا إلى عالمٍ أخر. لقد أخرجت مارتا حدّاد هذا الكاتب من عتمة الحرب الأهلية، والكتابة عن الحرب... الحرب التي أسرت ربيع جابر وجيلهُ، الذينَ ولدو في عتمة الحرب، وعاشوا سنوات حياتهم في رحمها، كَي يتحوّل مشروعهم الأدبي، عنوانًا لحرب انتهت، وربما تستمر!

في روايتهِ الصادرة عن دار الأداب ببيروت والمركز الثقافي العربي في المغرب، يأخذنا الروائي ربيع جابر إلى أميركا في السنوات الأولى من القرن العشرين. تقفُ مارتا حدّاد، وتصلّي للرب، وهي تنظرُ إلى تمثال الحرّية، وقد خالتهُ تمثال العذراء مريم. هذهِ كانت الأسطر الأولى من الرواية الواقعة في 400 صفحة من الحجم المتوسّط. ومن ذاكَ المشهد، يسردُ الروائي سيرةَ مارتا، منذُ أن كانت في جبل لبنان وزواجها من ابن عمّها خليل حداد، وحتى نزوحها لأميركا بحثًا عن زوجها الذي هاجَرَ كما هاجرَ الكثيرُ من السوريين في ذاكَ الوقت. ومن حكاية مارتا، يسردُ لنا الروائي حكايات المهاجرين السوريين وحياتهم وتجارتهم هناك... يصف لنا الشوارع والحياة والخوف والرهبة. يصف لنا حال الجالية السورية وقتها، معتمدًا في ذلكَ ببحثٍ وثائقي واسع وشاملٍ.

لم تعثرُ مارتا على زوجها خليل حداد على العنوان الذي كانت ترسلُ إليه الرسائل. قالَ لهُ صاحب المكتب الذي كانَ زوجها يشتغلُ فيه، أنّهُ اختفى... أّنّهُ كانَ نشيطًا في العمل، ولكنّهُ اختفى، وربما سيعود. مارتا تبقى في انتظار زوجها. تشتغلُ لتجمعَ ثمنَ خبزها، وحينَ تدركُ مكانَ اقامةِ زوجها، تتركُ العمل وتسافرُ إليه، وتصدم بأنّ لزوجهِ عائلةً أخرى.عائلةٌ جديدة، ويرتدي بذلةً بيضاء ناصعة. كانَ يبدو كما لم تراه، وعلى اثر تلكَ الصدمة، تجد مارتا نفسها وحيدةً في أميركا. تشتغلُ في بيع الحاجيات البسيطة لربّات البيت. من الصباح وحتى المساء تشتغلُ "كشّاشة" في بيع حاجياتها، ويعرض لنا الكاتب الأشخاص الذينَ تلتقي بهم. حكاياتٍ قد تصيبُ المرء بالكآبة والحزن. مشاهد الذينَ يحملون الكشّاشات على أكتافهم لبيعِ حاجياتهم ولكنّهم يغرقون في عاصفةٍ ثلجية فيدفنوا بكشّاشاتهم التي التصقت بظهورهم. الحرب العالمية وأثرها، ثمّ الوباء القاتل، وثمّ الأزمة الاقتصادية... كلّ هذهِ الأحداث تعيشها مارتا، ولكنّها تحتفظ دائمًا بهدوءها، وتحتفظ بصمتها... تلتحفُ بصمتها وتصلّي ليسوع المسيح، معتمدةً عليهِ في حياتها ولنصرتها.

الرواية مقسّمة لأربعة أجزاء... كلّ جزءٍ يعبّر عن مرحلة معيّنة من حياة مارتا. كما أنّ الرواية، رغمَ حجمها الكبير، إلاّ أنّها تقرأ بسهولة وذلكَ لقصر فصولها، أي لا يجاوز الفصل الواحد ثلاثمائة كلمة، ورغمَ أنّ بعض الفصول كانت تحتاجُ لطول، إلاّ أن عبقرية الكاتب جعلتهُ يقسمُ الفصول الطويلة... فحينَ يحكي الكاتب عن "علي جابر"، وقصّة علي جابر طويلة، فإنّهُ يضعُ فصولاً قصيرة متوالية على سياق "علي جابر 1"، "علي جابر 2"، "علي جابر 3"، وهكذا!

الأمرُ الثاني في عبقرية الكاتب داخل نصّهُ، أنّهُ استطاع الاحتفاظ بالقارئ وشوقهِ لقراءة الرواية، رغمَ أنّ حكاية مارتا خالية من المغامرات العاطفية والجنسية، ذلكَ لأنّ الكاتب اعتمدَ على فكرة التشويق في النص. فكلُ جملة تؤدي إلى الجملة التي تتبعها. لقد قلّص ربيع جابر روايتهِ، وأختزلَ الجمل، وقصّر كثيرًا في الوصف. خاصةً وصف الوجوه. ملامحُ مارتا لا تظهرُ جيّدًا في الرواية. الكاتب لم يكثّف وصفَ ملامحها وتقاسيم وجهها. جعلَ هذا الأمر خيارَ القارئ، الذي يمكنهُ أن يتخيّل مارتا وكيف تبدو... يقولُ فقط بأّن مارتا جميلة!

من زاويتي كقارئ، أحببتُ سيرة علي جابر أكثرَ من سيرة مارتا. علي جابر الذي يقولُ ربيع جابر أنّ لهُ صلة قرابة قديمة يدخلُ أمريكا بطريقة غير شرعية. وهناكَ يبدأ حياتهُ مفلّسًا، ويتعلّم الانكليزية بسرعة. يشربُ البيرة ورفاقهُ الاسبان والطليان، ويتذكّر أباهُ الورع، والذي رآهُ يدخّن مرّةً فخرجَ وراءهُ ليعاقبه. علي جابر، الشاب الذي تاجرَ في كلّ شيءٍ، خاصةً في أميركا اللاتينية عندَ منع الكحول، حيثُ صارَ مهرّبًا، سيتزوج في وقتٍ لاحق مارتا!

علي جابر يظهرُ في فصلٍ واحدٍ فقط في أول الرواية، ولكنّهُ في الفصل الثالث يأخذُ مكانًا مهمًا في سياق النص، حينَ يلتقي بـ مارتا في احدى أعراس السوريين!

في البداية، كانَ صعبًا أن يتمّ الزواج لأنّ علي كانَ درزيًا ومارتا مارونية، إلاّ أنّ الحب قضى على هذا الخوف، وأنجبا أربعة أطفال: "جاك، مارغريت، جيني، وجميل".

إن أتينا لحكاية علي، بعيدًا عن مغامراته وقصصه في أميركا، نجدُ أنّ الروائي استطاعَ أن يلعبَ بقصتهِ وأنّهُ استطاعَ أن يدخل القارئ في حيرة. فالراوي، أي ربيع جابر، هو السارد الأصلي للنص، وهو يقحم نفسهُ فيه، كما حدث معهُ في الكثير من كتاباتهِ الأخرى، فـ ربيع جابر ودوره في النصّ مفعمٌ بالحيوية، حتى صارَ جزءًا من النص، فإن حذفتَ السارد من سياق الرواية بمجملها، لما أعطت أبدًا هذا النوعَ من التشويق والتجريب فيها.

يقولُ ربيع جابر أنّ علي جابر يقربه. ويتضحُ من النصّ أنّ علي جابر يكونُ أخُ جدّ ربيع... جدّهُ محمد جابر. أي أنّ السارد للنصّ هنا هو فردٌ من عائلة زوج البطلة الثاني، أو البطل الثاني في الرواية بما أنّ علي جابر يظهر ويختفي في النصّ في الأجزاء الأولى ليقولَ فقط أنّهُ هنا، وأنّهُ سيكونُ متواجدًا لاحقًا، وهذا ذاتُ الشيء الذي ألمحَ لهُ ربيع بشكلٍ من الأشكال، حينَ كانَ يقصّ علينا سيرة أخُ جدّهِ.

هذهِ التقنية وهذا التجريب الروائي المتداخل مع كلاسيكية تقنية طرح قصّة مارتا، يجعلُ للرواية مذاقًا جديدًا ومختلفًا عن باقي السرد في الرواية اللبنانية بشكلٍ خاص، والرواية العربية بشكلٍ عام.

هوامش النصّ مهمّة في سياق السرد الروائي، وعلى الرغم من أنّ البعض لا يفضّل هذهِ التقنية التي تجعلُ من الرواية كتابًا وثائقيًا، إلاّ أنّها في ذاتِ الوقتِ جزءًا لا يتجزأ من الرواية. ففي بعض الهوامش يقولُ لنا جابر أنّهُ عثرَ على هذهِ الحكاية أو اقتبسَ هذهِ الحكاية من واقعة ذكرت في جريدة كذا الصاردة بتاريخ كذا، خاصةً ان كانَ الأمر متعلّقًا بمسألةٍ تاريخية، وهكذا قد يشعرُ المرء بأنّ هناكَ مصداقية في سرد الرواية وأحداثها. وكذلكَ بعض الهوامش ترجمات من أو إلى العربي، وبالإضافة إلى هوامش تقولُ بأنّها ترجعُ إلى فصلٍ ما من فصولِ هذهِ الرواية! الروائي استفاد من مسألة الهوامش أو "الريفيرنس" لتحقيق غرض روائي تجريبي، نراهُ يحسب نقطة للرواية لا عليها.

ربما بسبب طول الرواية، قسّم جابر روايتهِ إلى فصول قصيرةٍ جدًا، وربما لذاتِ السبب وضعَ الهوامش الكثيرة، ولكن ما يمكننا أن نقولهُ عن ربيع جابر وعلي جابر ومارتا حدّاد، وزوجها الأول خليل حدّاد، أنّهم بالفعل أبطالُ الرواية... إنّهُ فيلمٌ مكتوب، وان عُملَ للسينما، فسيكونُ من أفضل الأفلام التي تتحدّث عن النزوح والهجرة... ربيع جابر أثبتَ أنّهُ (لم يقع في فخّ البرود) كما قالَ الكاتب (شوقي بزيع) في عرضهِ للرواية، إنّها رواية لا تتقلّصُ على المشارقة ولا اللبنانيين... بل إنّها رواية انسانية، تستحقُ منّا الوقوفَ واعادة قراءتها، أكثرَ من مرّةٍ واحدة!


----

تمّ القاء هذا العرض في الموسم الثالث / الحلقة السابعة من بودكاست امتداد

تعليقات

لقد استمعت إلى هذه الحلقة منذ أسابيع, و للأسف لم أقرأ شيئاً بعد لربيع جابر.. عسى أن أستطيع الحصول على هذه الرواية لأن قراءتك فيها أخ محمد جعلتني أنشدّ إليها.

تحياتي
‏قال مو مصراتي
شكرًا لك عزيزي ياسين.. فعلاً رواية أميركا تستحق القراءة، وربيع جابر روائي مهم أتمنى أن ينالَ ما يستحقهُ قريبًا
‏قال هلال
يجب أن تقرأ يوسف الانكليزي الذي يظهر فيها علي جابر وان كانت ليست أفضل رواياته.

شخصياً، أفضل ربيع جابر في الرواية المعاصرة والنفسية (الاعترافات - شاي أسود - رالف رزق الله) كما أنه رواية صينية جميلة وخاصة في قسمها الأخير هي نظرة أخيرة على كين ساي، فضلاً عن روايات أخرى تتفاوت قيمةً بتفاوت التجريب.
‏قال مو مصراتي
هلال

قرأت الاعترافات وشاي أسود. الاعترافات جميلة وشاي أسود فيها الكثير من النقاط السلبية والضعيفة. على كلٍ ربيع كتبها في فترة كانَ لا يزالُ فيها كاتب شاب لم يتجاوز الرابعة والعشرين. لكن كما سبقَ وقلتُ بأنّ الاعترافات جميلة وجدًا، والرواية الممتازة وكانت تستحق البوكر عن جدارة هي أميركا.. أنصحكَ بقراءتها، وسأحاولُ الحصول على يوسف الانكليزي

شكرًا لتعليقك
‏قال hilal
قرأت أميركا طبعاً مصراتي. شاي أسود قد تكون فيها نقاطاً سلبية، لكن قوتها ربما محلية المضمون. شاي أسود أرخت لبيروت أوائل التسعينات، وبخاصة منطقة الحمراء، التي كانت خارجة للتوها من الحرب، وهي غير منطقة الحمراء اليوم تماماً. حتى المقاهي والمطاعم والسينمات تغيرت.

تستطيع أن تقول أنها رواية جيل، وطبعاً هذا بعيداً عن التقييم الفني.
أحياناً تغلب العاطفة والتماهي القيمة الفنية!

بالنسبة لي، أرى بيريتوس مدينة تحت الأرض، وتقرير ميليس من أضعف روايات ربيع، فيما كان بامكانه اختصار البيت الأخير ورالف رزق الله في المرآة بإصدار واحدة منهما فقط، لانهما متشابهتان جداً، وشخصياً أميل لرالف أكثر من البيت الأخير.

بالنسبة لبيروت مدينة العالم، كان بامكانه الاكتفاء بجزء واحدكبير أو جزئين. لا أعرف. هذا ما أحسسته عندما قرأت الثلاثية.

تبقى هناك أيضاً رواية اسمها "الفراشة الزرقاء" وهي صادرة عن المركز الثقافي العربي، وقد وقعها باسم آخر هو نور خاطر، وهي فعلاً من أجمل روايته، ويمزج فيها بين أول القرن ومنتصف التسعينات عبر حكاية جدته.

سلام سلام
‏قال مو مصراتي
يا هلال لا تلخص لي أعمال ربيع جابر فقد سهرتُ الليالي الطوال أقرأ عن كل ما كُتبَ عنه هاهاهاها... أعتذر، نسيتُ أن أذكرَ بأنّني قرأتُ الجزء الأول من بيروت مدينة العالم، وأودّ قراءة الجزئين الأخرين. يقالُ أنّ الثلاثية ستصير رباعية او ربما خماسية؟؟
أظنّني سأتوقف عن القراءة لربيع جابر الى ان اسمع بأن له عملاً خرق كل ما جاء قبله... أو ربما عندما ينضجُ قلمي أكثر.
ربما لأنّكَ بيروتي أحببتَ شاي أسود.. كنتُ أنا الأخر متشوقًا لقراءتها ولكنني بعدَ قراءتها شعرتُ بخيبة امل لأنني لستُ بيروتيًا هاهاها... ربما لو زرتُ بيروت يوما سأحب هذه الرواية

تشاو بيللو
‏قال أيمن زعقوق
هذه الرواية اسرتني منذ اول سطورها و ابكتني عند آخرها
هذه الرواية اكدت لي ان هم الانسان واحد..لا يختلف بتغير المنشأ او المكان او الزمان او الدين، فلا يصح ان نتجاهل معاناة البشر و لا يجوز ان ننسى انهم مثلنا..بشر
هذه الرواية اخجلتني.. من جهلي..من كسلي..من يأسي ومن انانيتي
توحدتُ مع "مرتا" ، بكيت عليها..وجذلت لأجلها ثم فجعت بفراقها
مرتا هذه اعادتني الى "اولان" في "الارض الطيبة"، و القتني تحت قدمي "فاطمة تعلبة" في "الوتد"، و كلهن اعدنني الى رحم امي
شكرا..ربيع جابر

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات