بدعـة القـراءة



القراءة بدعة، القراءة باهظة الثمن، القراءة تفسدُ أجيالاً

يبدو أنّ لعبة القراءة والكاتب الأفضل يسودها نوعٌ من الرهبة، الخوف واللامبالاة. ليسَ الخوفُ من الكتابة، بل خوفٌ من القراءة، باعتبار أنّ القراءة، الفنّ، والابداع، مادةٌ ثانوية ولا يجدرُ أن تكونَ هي الأساسُ في اطار مشروع مستقبلٍ لفردٍ ما. إنّنا نقتل القراءة، ونقتلُ الفنّ بتجاهلنا لهُ. وفي ظلّ هذا التغييب والتهميش، يجدُ المرءَ نفسهُ يضرب فأسهُ في الماء لا في الأرض.

هناكَ بالطبع من يقرأ كتبًا. لكن الكتب التي يقرأها، هيَ موادٌ أساسية في علمهِ ودراستهِ أو مجال تخصّصهِ. وهناكَ من يكتفي بالقول أنّ "غير كتاب الله وسنّة رسوله" لا يوجد ما نقرأ. وهناكَ (وهذهِ نسبةٌ كبيرة من الناس) من يرى أنّ الكتابة أو القراءة هيَ شيء نقومُ بهِ في أوقات الفراغ القاتلة، أي بعدَ العمل، الدراسة، النوم، ملاقاة الأصدقاء، السهر، الماسنجر، الفيس بوك، (التلقيح والقرمة)، أحلام اليقظة، وغيرها من هذهِ الأمور! والحجّة دائمًا واحدة في ظلّ هذهِ المعمعة، وهي أنّ سعر الكتاب باهظ جدًا. وفي الحقيقة، ثمن رواية لـ نجيب محفوظ، "ثرثرة فوقَ النيل"، "اللص والكلاب"، "يومَ مقتل الزعيم"، وغيرها من الروايات التي تقلّ عن مائتي صفحة، أرخصُ بكثير من ثمن "أركيلة بمعسل فاخر"، وأرخص بكثير من ثمن سروال جينز تركي. أنا هنا أتحدّث عن الطبقة الوسطى، والتي تشكّل نصف (المجتمع) الليبي. إذن، وفي هذهِ الحالة، لماذا تكونُ حجّتنا دائمًا: "لا نقرأ بسبب أسعارِ الكتب"!

***

الكتب الصادرة عن دور نشر حكومية، تُباعُ بأسعار أقلّ من أسعار المجلات الخليجية المهتمة بتعقّب فضائج الفنّانين وأخبارهم. إنّها ثقافةٌ عامةٌ دونَ شك، ولكن أتمنّى أن لا يؤخذ رأيي هذا بأنّني ضدَ هذا النوع من المجلاّت، ولكن ما أقصدهُ أنّنا نضعُ الأسباب بسبب ارتفاع ثمن الكتاب، في حينِ أنّنا نقرأ أشياءً أخرى قد لا تسمنّا ولا تغنينا عن جوع، وأنا الأن متأكدٌ كلّ التأكد، ان كانت الكتب تباعِ بخمسونَ قرشًا، لما كلّف أحدهم نفسهُ أن يضعَ هذا الثمن في كتاب، في حينِ أنّهُ دونَ أدنى شك، سيذهبُ ليشتري بهِ "سامينسا"!

***

النقطة الثانية في موضوع ثمن الكتاب، أنّني أوجّهُ سؤالاً الأن للذينَ يهوون قرصنة الكتب ويشجعونها: "هل تقرأون هذهِ الكتب المقرصنة فورَ تحميلها على حواسيبكم؟". أشكُّ في ذلك، لأنّ هذا الكتاب الذي بينَ يديك، عفوًا، على جهاز حاسوبك، لهوَ كتابٌ لم تدفعَ فيهِ ثمنًا من جيبكَ، فيبدو بنظرك دون قيمة (جرّب ذلك وافتح كتابًا حملتهُ على جهازك.. ليسَ كتابًا يخصّ مجال دراستك، بل رواية أو ديوان شعر مثلاً)، لأنّ الكتاب يفقدُ قيمتهُ في تلكَ الحالة. إنّهُ كتابٌ مجاني!

***

لنطرحَ الأن هذا الموضوع من زاويةٌ أخرى.

نعاني من مشاكل سياسية وسلطاوية تفرض قمعها على الكتب وتحجبها لأنّها (قد تؤثر على أمن الدولة). ونحنُ دونَ شكٍ أيضًا، نعيشُ حالةً عصية أخرى من ناحية القمع الديني للكتاب، والأنكى من ذلكَ كلّهُ، أنّنا في مواجهة أعراف وعادات وتقاليد نصفها بائسة ومحطّمة، تفرضُ جبروتها من أجل منعِ كتابٍ ما، وذلكَ لأنّهُ (قد يؤثر على أخلاق الجيل الجديد ويفسده)، انّهم يقصدون جيل اللامبالاة والكبت ومواقع البورنو (التي تحتلُ المراتب الأولى حسب احصائية موقع "الكسا"، سواءً أكانَ ذلكَ في ليبيا أو في معظم الدول العربية بشكلٍ عام). إنّهم يرونَ في ما يسمّونه بـ "الأدب الساقط" أفةٌ غربية ترأسها السي آي إيه والموساد والصهاينة لتضييع أبناءنا وبناتنا، وهم يقصدون بذلكَ الجيل الأخير الذي عانى أجدادهم الحياة الصحراوية والقمع الفاشي، كما عانى أبائهم من عهرٍ سياسيٍ وديني مقولتهما الأولى: "الموت للعملاء والخونة / اهدارُ دم الكفّار". بينما هم لا ينظرونَ إلى الإبداع من ناحيتهِ الجمالية، ومن الناحية الروحانية، ومن الناحية الفكرية والرقيّ. الأدب حتى ان تحدّثَ عن الجنس، فإنّهُ لا يدفعُ المرء للإغتصاب، وللتحرّش بالنساء في الأسواق والمصاعد والمستشفيات والشركات العامة، بل ان نظرنا لأباء الكتابة الجنسية "هنري ميللر، جيمس جويس، د. هـ لورانس، آرثر رامبو، أوسكار وايلد، ميلان كونديرا، جان بول سارتر وغيرهم الكثير"، فإنّهم سيكشفونَ لكَ المعنى الحقيقي للرقيّ والاحترام والأداب، وحتى النظر للمرأة بشكل أكثرَ تقديرًا وأكثرَ حضارةً.

العلّة ليست على الكاتب أو القارئ أو الناشر... العلّة بأنّنا نقولُ ما لا نفعل، ونغمضُ أعيننا عن الحقيقة ونلتفت لنقولَ أنّ الوهم على الجانب الأخر، هو عينُ الحقيقة.

***

أنتظرُ أرائكم أيضًا في جائزة القارئ... وكونوا صادقين في التصويت على الجانب الأيسر من الصفحة، وأشيروا لمعدّل قراءاتكم السنوية!


-----

الصورة المرفقة لجناحِ دور نشر "بانيبال، الجمل، ميريت، أزمنة" في معرض لندن الدولى للكتاب 2008.

تعليقات

‏قال Khaeri Aboshagor…
ya Mesrati, you astonish me every time I read an article of yours or one of your short stories (and I have not read that much). Given that I am much older than you, I am sure there are more young Libyans like you who think along the same lines, challenging the dogmatic culture and the appalling statuesque; but the question is behind what the rest are hiding and from whom (!) and why ??? More need to come forward to contribute towards stopping this downhill journey to the abyss.

Apologies for having to write my comments in English because, after living in Britain for almost 30 years, I struggle quite a lot to write anything in Arabic. What is important for using a particular language is the ability to communicate. It does not matter which one is used.

My best regards.
khaeri5@yahoo.co.uk
‏قال Malek Chaouch
القراءة هي ثقافة و سلوك اجتماعي يفترض أن يكون سائدا في المجتمع لكي يقبل القراء على شراء الكتب ومن ثم قراءتها ، لا وجود أصلا لمثل هذه الثقافة في بلداننا
فالثقافة السائدة هي ثقافة الرفاهية والاستهلاك
وللحق فأن المقارنة ستكون مجحفة بحق مجتمعاتنا
فلكي يصبح بمقدورك المقارنة، لا بد أن تلغي أو توحد العديد من العوامل والمؤثرات المختلفة الاخرى التي قد تؤثر سلبا أو ايجابا على طرفي المقارنة
او ما يعرف بالمقارنة القياسية
فالتطور الفكري الثقافي مرتبط ارتباطا وثيقا بالتطور الاجتماعي السياسي
‏قال Malek Chaouch
فلا مجال للشك أن التراكم المعرفي الحديث بفروعه المختلفة في عالمنا هو في أحسن حالاته في طور المراهقة
فمع دخول التطور الاجتماعي دهاليز الفوضى الطبقية وانخفاض سقف الحريات الشخصية والعامة، و شيوع الفكر الانحطاطي بشكل عام ، طبعا مع استمرار المنظومة الاخلاقية في لعب دورها المداهن للحفاظ على الصورة النمطية المفهومة عن مجتمعاتنا "المحافظة" والتذكير دوما بالقيم والتقاليد ، وأننا أفضل حالا من أولئك المنحلين أخلاقيا
واصبحنا كمن يحمل باستمرار صورة فوتوغرافية قديمة، ويشهرها في وجه اطفاله كلما أراد تذكيرهم بأنه يوما ما كان يتمتع بوجه شاب جميل ، وشعر اسود فاحم ، وقوام رياضي
‏قال Malek Chaouch
ولنسأل السؤال مرة أخرى
لماذا لا نقرأ
القراءة يتبعها استيعاب الذي يتبعه عادة تساؤلات التي تتبعها ضرورة تكون رأي معين بخصوص هذه التساؤلات
والاراء بطبيعتها الكيميائية متطايرة ، وتطاير الأراء في مختلف الاتجاهات يتطلب محيطا قادر على احتواءها ، و يجب على هذا المحيط أن يكون هذا المحيط رباعي الأتجاهات ، ثلالثي الابعاد
فمتى كان هذا المحيط أحادي البعد أو في أحسن أحواله ثنائيا ، تحول الى خط مستقيم
‏قال مو مصراتي
Dear Khiri
I'm totally agree on what you have said.Yes, we are moving towards the abyss, and what we see makes us feel disappointed. The fundamentalist movement is the main cause in our underdevelopment, but the only thing we can do is work, work and work.

مالك
هناكَ أسئلة نطرحها على أنفسنا عند قراءة تعليقك، وحتى بعد قراءة تدوينتي هذهِ... كيفَ السبيل لعلاجها، وكيف السبيل لخلق ناسٍ يفهمون الكتابة، ويفهمون القراءة.. كيفَ يفرّقون بين الفكر والابداع، والخطابات التحريضية التي يقرأونها ويسمعونها دائمًا؟
إنّنا نعيشُ أزمة... تصيبنا بخيبة أمل عظيمة... هل سنتمكن من معالجتها؟ هل سيتحقق المشروع النهضوي في بلدٍ ننتمي له، ولا ننتمي؟؟؟؟
!!!!!!!
هذهِ هي المسألة

محمد

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات