أحلام ومؤخرة الحمار

حينَ رأني الحاج "عزالدين" أضاجع حمارهُ في حقله ذات ظهيرة ساخنة، خرج يجري في السانية، إلى بيت أهلي في النصف الثاني من القرية. عرفَ الأهالي والفلاحون في الأراضي الشاسعة، أنني أقدمتُ على ارتكاب فضيحةً أخرى، حينَ شاهدوه يجري مولولاً أن القيامة اقتربت. ولم يأتي المساء، حتى انتشرَ الخبر في القرية وخرجت النسوة من البيوت بفرشياتهن البيضاء مثل الخيام على أجسادهن ورؤوسهن، مهرولات إلى بيوت الجيران. وأجتمع الرجال في غراج بيت الحاج "المبروك"، ليناقشوا الوضع. فطلبَ "عزالدين" أن يتم سحبي من قدميّ من بيتي في أقصى القرية، إلى بيت الحاج "المبروك" بجانب المسجد، قربَ السانية الصغيرة. قالوا لي فيما بعد، حينَ التقيت ببعض أهالي القرية في طرابلس، أن ذاك اليوم لا يُمحى من ذاكرة القرية، حينَ وقفَ الحاج "عزالدين" بسحنته المرعبة، ووجهه المجعّد أمام بيتنا، يصرخ أمام الفلاحين التعبين في الحقول، أن بيتنا، هو مستنقع النجاسة في القرية، وأن لوثةُ الشر انتقلت من أبي إليّ أنا الإبن الذي عثرَ عليّ منذ لحظات أمارس الرذيلة مع حماره في أرضه. 

"أستعوذ من الشيطان يا حاج عزالدين، استغفر ربك، ربما كان يحاول أن يركب على الحمار ليلعب، ولم يقصد، فهو في الرابعة عشر فقط". قالوا له باصقين الطعام من أفواههم، ومهرولين نحوه. فأصرّ الحاج على كلامه قائلاً: "ورب الكعبة لو أنّي ما شفتاش بعيني ما صدقتش. كان الكلب ماسكاً الحمار ويتحرك مثل الكلاب".

حينََ ذهبواً ليجروني من قدميّ إلى بيت الحاج "المبروك"، كنتُ مختبئاً في براكة الحمام. كانوا خمسةً من أولاد الحاج "المبروك" وبعض الفتية الأخرين. حاملين في أيديهم العصيَ والحبال، وكنتُ ماسكاً مطوة في البراكة العالية، المستندة على أنانبيب طويلة مثبّبتة إلى الأرض، وفي داخلها علب فارغة، مرصفة بحذر ونظام لتكون أعشاشاً للحمام. أراقبهم يسيرون في اتجاه بيتنا، ثم بعدَ دقائقَ، عادوا، وأعينهم على برّاكة الحمام. حينَ وقفوا تحتها، سمعت أحدهم يقول بأن في البرّاكة حمام "بو طاقية"، فردّ عليهِ الأخر بأن يركبوا ليروا نوعية الحمام الموجود، يسرقوه، ويتقاسمون ثمنه. وهكذا، بدأت البرّاكة تهتز وهم يتسلقونها، وما إن وصل أحدهم إليها، حتى لكمته بمقبض المطوة فوقعَ على الأرض، صارخاً، وقفزتُ من على البراكة، وأنا أدرك أنني اعتدت القفز من الأماكن العالية دونَ أن يصيبني مكروه، وكان الذي لكمته واقعاً على ظهرهِ يصرخ متألماً. جريتُ مخترقاً الأشجار والحقول الشاسعة، وقفزت عدّة أسوار وبراريك، وأخذت انفاساً متقاطعة على أسطح بيوتٍ منخفضة، حتى وصلتُ إلى البيت، وهناك...

كانت جدتي جالسةً في السقيفة، بثيابٍ ممزقة، تظهر ثنايا جسدها الأسمر، وأمي واضعةً رأسها بين يديها وتئن. كان أنينها حاداً، وأنين جدتي لا يقل عن حدة أمي. أمي الجالسة بالقرب من جدتي على ركبتيها، ومغلّفة بـ "الردي"، تقولُ لي في حسرةٍ أنني اللعنة الثانية على العائلة، فتضيف جدتي أنني الحفيد الملعون في القبيلة وأنني وصمةَ عار على جبين جدي": "يا ربي، الواء اتطلع من عيلتنا البذرة الطالحة؟..." وبكت. بكت ومدّت لي سرّة كانت جانبها، قالت لي أنها وضعت فيها ما أحتاجه من طعام وملابس، وأن خالي "علي" سيأتي ليأخذني إلى محطة التاكسيات، لتقلني سيارة إلى طرابلس، حيثُ سيعرف أبي كيف يربيني هناك، وأن عودتي إلى القرية لن تسبب لهم سوى العار!
2
حينَ رأني "عزالدين" أضاجع الحمار، وخرج مولولاً، ارتعبتُ بادئ الأمر، وأدخلتُ ذكري في سروالي، وسرتُ متخللاً الحقول والأراضي، ويدايَ في جيبا سروالي القماشي المشمّر، أبحثُ عن الضفادع التي غالباً ما تنتشر في البركات الصغيرة في الحقول أثناء فصل الصيف. لم يسألني أحد عن سبب ذهاب الحاج "عزالدين" إلى بيتنا وهو على تلكَ الحال، لأنهم كانوا يدركون بأنني لن أردّ عليهم، بل سأواصل البحث عن الضفادع كعادتي كل يوم، كما أنهم كانوا يدركون، أنني أهوى مضايقة هذا الـ "عزالدين"، بعدَ أن رأيتهُ يذبحُ خروفي الجميل، والذي كنتُ قد أطلقتُ عليهِ اسم "سيمبا" بعدَ نذرٌ قطعتهُ على نفسي أمامَ أمي حينَ عرفتُ أن المعزة الوحيدة عندنا حامل. وقتها كنتُ سعيداً، وأحب مسلسل الكرتون الشبل "سيمبا". وحينَ ولدَ، أصبحتُ أرعاه، اخترته صديقاً: أطعمه الخبز المبلل بالحليب، كما كانت تطعمني جدتي حينَ كنتُ صغيراً. وفي الليل أو وقتَ أذان المغرب، كنتُ أنظفّ زريبته من الفضلات وأمسح صوفه جيداً، وأستبدل الماء القديم بأخر بارد ونظيف. ولكن ذات يوم جمعة، وحينَ عدتُ إلى البيت، لم أعثر على "سيمبا". كانت زريبته مليئة بالزبل، وحينَ سألتُ أمي، قالت أنها باعته للحاج "عزالدين". بكيتُ وقتها ووقفتُ متجهاً لبيته. كنتُ في حالةٍ من الخوف والفزع، وهذا سببَ لي كرهاً شديداً لعزالدين، حينَ وصلتُ لبيتهِ ووجدتُ على عتبته رأس "سيمبا" يقطّر دماً.

منذ ذاكَ اليوم، صارت عينايَ تدمعان كلما تذكرتُ "سيمبا". وصرتُ أحقد على عزالدين وأبنائه وبناته. كان له إبنةً تصغرني بعام واحد، رأيتها ذات ظهيرةٍ في حقل أبيها، حيثُ كنتُ أشوي لحم حمامةً، فدعوتها لتأكل معي. وحينَ اقتربت وجلست بالقرب منّي، قلتُ لها: "أبوكِ كلب"، فرمت على رأسي قطعة حجرٍ كبيرة، كانت بالنسبة لي وحيٌ من السماء، لأقفز عليها وأنهال على وجهها وجسدها ضرباً مبرحاً. لن أكذب عليكم، فقد شعرتُ آنذاك برعشةً ما في جسدي حينَ لمستُ صدرها أثناء ضربي لها. تلكَ الرعشة شعرتُ بها مرةً أخرى حينَ انتقلتُ فيما بعد إلى طرابلس ودرستُ في المدرسة الثانوية. حينَ كنتُ أركل "نادية" إبنة العقيد "فوزي القذافي"، وتلكَ قصةٌ أخرى سأحكيها لاحقاً. ماذا كنتُ أقول، أوه: كنتُ أضربُ إبنة الحاج "عزالدين" بما ملكت من قوة وحقد وأنا أرى صورة "سيمبا" تحلّق أمام عيناي، ولولا أنها لم تغرس يديها في التراب وترمي حفنةً على عينيّ، لتدفعني وتجري، لكنتُ أخذتُ السكين وذبحتها. نعم، أستطيع ذبحها. لا أمزح لأن لوثة الجنون آنذاك كانت تغطّي ثلث أرباع رأسي، كما قالَ لي الدكتور "مجدي" لاحقاً، حينَ كنتُ أحكي له هذه الحكاية، التي وصفها لي في تعقيبه، بالرهيبة. ومن ثمّ سألني عن ردة فعل أهلها، فأجبته بما أريد أن أقوله لكم الأن.

في تلكَ الظهيرة، كانوا يجرون ورائي. أبوها واخوتها، ولم يكن هناكَ أحد من باقي أهل القرية، وحينَ تعبت من الجري، استسلمت. انطرحتُ على الأرض، فقفزوا عليّ، ورفعَ أحدهم رأسي ووضعَ السكين على رقبتي، بينما الآخرون، كانوا يمسكون يديّ وساقيّ. ينتظرون أباهم الذي كانَ قادماً ببطء شديد، ماسكاً عصأ طويلة وعريضة في يده. ماسكاً بيده الأخرى طرفَ جبته الطويلة.

" اتفوا عليك.. تهتك شرفي وعرضي يا حيوان؟" قال لي وأشعة الشمس تحجب وجهه.

" والله ما درتش شي يا عمي عزالدين. وراس بوي" قلتُ وأنا أكاد أبكي.

" توّا، لمّا نذبحوك ونعلقوا راسك علي شجرة الزيتون حتعرف البكي واجد" قال.

" بالله أعليك يا عمي.. والله ما كانش قصدي يا عمي.. وراس أمي مش قصدي" وأصبحتُ أصرخ باكياً. بينما كان ينظرُ يميناً ويساراً، كأنه يخشى أن يراهُ أحدٌ من أهلي وهو يحاول ذبحي، ثمَّ بعد أن تأكد من خلوِ المكان، طلبَ من أبنائه تركي، وأمرني من ثمَّ بالوقوف. قال وأنا أمسح ما علقَ من التراب: "اسمع يا ولد. حنسامحك بشرط انك تسكّر فمك، وما تقولش لحد على الّي صار معاك، تفهم فيّ والاّ لا؟".

" ايه يا عمي، افهمتك.. معش انعادوها، وحق ربّي" قلتُ وأنا أكاد لا أصدق.

ولم أكتفي عندَ هذا الحد، بل في إحدى الليالي الصيفية الساخنة، حيثُ عادةً ما كنتُ أنام كباقي أولاد القرية في جنان البيت الإسفلتي.، خرجتُ من البيت وأتجهت إلى زريبة خرفانه وسرقتُ معزةً. كنتُ أريد سرقة خروف مليان، ولكن لصغر سنّي آنذاك، اكتفيتُ بمعزةٍ صغيرةٍ وضعتها على كتفاي وأنطلقتُ بها إلى حقلهِ، حيث رميتها بجانبِ شجرة الزيتون، وأخرجت سكين ذبح، طعنتها به بكل ما أملكُ من قوة في رقبتها، لأنني لا أعرف الذبح. شعرتُ في البداية وأنا أرى الدمَ في يداي بخوف ورهبةٍ شديدين، ولكنني فيما بعد، جمعت ما أملكه من قوة، وصرت أقطع أوتاراً وبعض الأشياء اليابسة في رقبتها، والتي لم أكن أعرف ما إسمها. ربما تكون حنجرة أو لا أدري ما هي. المهم، بعدَ أن انتهيت من قطع الرأس، حملته في كيسٍ خيش وجريتُ به إلى بيت الحاج عزالدين. كان أولادهُ جالسين في اللايدة. أظنهم كانوا يتسامرون على ضوء المصباح. رميتُ لهم الكيس وأطلقت ساقاي للريح.

في الصباح، حينَ خرجتُ كعادتي لأتنقل بينَ الحقول وأصطاد الحمام، كان الكل يتحدث عن ما حدث لمعزة الحاج عزالدين، وكانوا متعجبين أن هذا يمكن أن يحدث في القرية. كان الفلاحين يقولون أنهم أبداً لم يسمعوا أن هناك أحقاداً بين أهالي القرية تصل حدّ النذالة، وأنهم اعتادوا أن يعيشوا في ألفةٍ طيلة عمرهم، وأن أي خلافٍ يصلّح، في وقتهِ، أو يمارس بشكل علني دون أحقاد خفية ومن تحت لتحت. كنتُ أقترب منهم وأتلصص على كلامهم، وأكمل طريقي دونَ أن أتكلم، وكانوا يحترمون صمتي وتلصصي، بل بالأحرى، كانوا لا يعيروني أي إهتمام، لأنني لستُ سوى ولدٌ رماه أباه مع أمِه وجدته، وذهبَ إلى طرابلس، ليشتغل ويبدأ مشروع هوتيل كبير للسياح الأجانب.

خالي "أعليوة"، ذهبَ مراراً إلى طرابلس، وزارَ أبي في الهوتيل، وضيّفه غرفةً تطل على سوقٍ واسع، وفي البعيد خلفَ البيوت، يظهرُ البحر الأزرق الغامض، المختلط مع الأزرق الهافت في السماء. كانت الصورة التي يرسمها خالي وكلانا جالسان في الحقول نأكل من صحن الشرمولة، غايةً في الروعة. وقتها انتباتني الرغبة للسفر إلى طرابلس ورؤية والدي والإقامة في فندقه الذي يزورة الأجانب. قال لي خالي "أعليوة" أن أبي شريك في الهوتيل، ولا يمكنه أن يعطيني غرفةً، لأنّ شركائه لن يسمحوا له بذلك. ولكنني منذ ذلك اليوم، والرغبةُ في داخلي للسفر إلى أبي في طرابلس، ورؤية الأجانب الذين يشبهون أبطال الأفلام الأميركية، التي نشاهدها في بيت الحاج "المبروك"، مع أبنائه كل ليلة خميس. رأيتُ أبي أيضاً مثلهم. يرتدي ملابسَ افرنجية تشبه ملابسهم، ويتنقل في أجنحة الهوتيل بكل هيبةٍ وارستقراطية. وعلى الرغم أن جدتي من أمي، كانت لا تحب أبي لأنه كما سمعتها ذات مرةٍ تقول لإمي، بأن أبي من علّمهُ شربَ الخمر، وأنّ نسبه مشئوم، إلاّ أن خالي كان يحبّ والدي، وكثيراً ما يسافر إلى طرابلس لأسابيع طويلة، ليعودَ ببعض المال الذي يرسله أبي لنا وبعض الهدايا. وكانَ أبي لا يحبّ الرجوع إلى القرية، لأنه يعتقد بأنها لا تصلح لطموحاته. كان يقول لي في الزيارات القليلة التي جاء فيها إلى الريف، أن المكان أصبحت بالنسبة له مكان ملئ بأكداس المتخلفين والمنقرضين، من الفلاحين، الذين لا هدفَ لهم في الحياة سوى أن يستيقظوا في الفجر ليحرثوا، ويعدون في المساء لأكل صحن المكرونة المبكبكة أو البازين أو الكسكسي ويناموا. "هل هذه في رأيكَ يا ولدي حياة؟" كان يقول لي وأنا أهزّ رأسي موافقاً، ويستمر هو في كلامه:

" أنا يا إبني، هاجرتُ إلى اطرابلس لأبدأ حياةً جديدة. جدكَ رحمه الله كان معارضاً لفكرة هجرتي إلى اطرابلس، لأنه ذو عقل قديم وكلاسيكي، ويرى أن المدينة تُفسد البني آدم، لإختلاطها بكل عباد الله. هذا هراء، فالمدينة جميلة ببيوتها وعماراتها، وزحمة ناسها. صحيحٌ أنّ فيها الصايعين والباطلين عن العمل، ولكن في ذات الوقت، هؤلاء أيضاً جزء من البلاد، وسيعلموننا كيفَ أننا يجب أن نتسلّح بالتجربة لمقاومة الحياة. حينَ دخلتُ شريكاً في الهوتيل، كنتُ لستُ مقتنعاً، ولكنني كنتُ متسلحاً بروح المغامرة، وأنني بكل ما ادخرته من مال في حياتي، سأدخل بهِ مشروع، إمّا أن ينجح أو يفشل. وها آنذا، نجحتُ في العمل، وأصبحتُ قادراً على البدء بمشروع أخر. في الليلة، يأتي عشرات الزبائن، ونربح المئات، وأحياناً ألوف. كنّا ثلاثة، ولكن بفضل جهدي وعملي، أصبحنا الأن إثنين، وقريباً سيصير لي وحدي، ولكن عليّ أن أتخلّص من بعض المشاكل في أوراق العمل. هل تفهمني يا إبني. أنتَ الأن صغيرٌ، وربما لن تستوعب كل ما قلته، ولكن يومَ تكبر وتصبح رجلاً، ستأتي إلى طرابلس، وستأتي أمكَ أيضاً. سيكون لي شقةُ هناك، وستدرسُ أيضاً. فقط أمهلني بعض الوقت".

الحاج "المبروك"، صاحب الساعد القوي، والذي نادراً ما كنتُ أراه خارجَ الحقل، قال لي أنه رأى في البركة القريبة من براكة الحمّام في السانية، عشرات الضفادع الكبيرة، والتي من النادر أن أعثر عليها في هذا الجفاف الصيفي. ذهبتُ في اتجاه السانية دونَ أن أشكره. لم أكن قد اعتدت على كلمة شكرٍ وقتذاك، ولا أظن أن هناكَ من يستخدمها دون شيوخ المساجد والمسنّين. إلاّ أنهم يقولون "بارك الله فيك". كلمة "شكراً"، سمعتها أول مرةٍ من شاب جاء في زيارة من طرابلس إلى بيت إبن خاله الحاج "عزالدين". اصطدتُ له حمامتين مقابل بعض الجنيهات القليلة، فقال لي "شكراً"، فلم أردّ عليه.

سرتُ إلى السانية ويدايَ في جيوبي. اصطدتُ ضفدعتين ربط سيقانهم المطاطية بعضهم البعض وصرتُ أضحك وأنا أراهما غير قادرين على التحرك. كل منهما يريد التحرك في اتجاه. أخرجت قداحة بلاستيكية، ضرب رأسها المعدني على حجر فتكسر، سكبتُ الغاز على الضفدعين وأخرجتُ علبة كبريت أشعلتها ورميتها عليهما فاحترقا. سرتُ من بعدها طويلاً وفي يدي كيس وسادة مليئة بالضفادع، وخلفَ إحدى الأسوار، أخذتُ (صنارة العصافير المنزلية) و(صنارة حمام الحقول)، لممارسة عملي الصباحي.

ملاحظات 

صنارة العصافير المنزلية عصا طويلة جداً، من جذوع نخلة فارعة، قصّت بإحكام، بحيث صارت مستقيمة. وفي أخرها، حلقة مصنوعة من حديد أو نحاس بعد تعرضه للحرق، فيمكن بذلك صناعه حلقة دائرية منه، وتثبيتها على أخر العصا، ووضع في إحدى الجهتين كيس بصل أو ليفة شبكية، تكون مثل القفص، والحلقة الحديدية بابه.

صنارة حمام الحقول عبارة عن أنبوب بلاستيكي نحيل، يجب أن يكونَ قصيراً، يعني أقل من نصف متر، يستخدم كمسدس. أمّا الطلقات، فهي عبارة عن رؤوس من مسامير طويلة، وجسدها ورق ملفوف عليها، بحيث يكون على سعة الأنبوب تمام، وبالطبع المسامير في الرأس، وتلصق بأي نوع من اللاصقة الشريطية المتينة. توضع الرصاصة الكبيرة في أي طرف من الأنبوب البلاستيكي، وفي ذاك الطرف، تضع فمك، وتأخذ نفساً طويلاً وتنفخ، ودونَ شك، ستقع إحدى الحمامات من الأشجار.

ملاحظة نسيتُ أن أخبركم أيضاً أنني كنتُ أستخدم هذه الصنارة أيضاً في قتل دجاجات زوجة الحاج عزالدين، وفي إحدى المرات، تسلقتُ سورَ بيتهم، فرأيتُ دجاجتين. قنّصتُ جيداً ونفخت، فدخلت الطلقة إلى النافذة المفتوحة أبوابها، وسمعتُ صرخةً. بعدَ لحظات خرجت زوجة الحاج عزالدين بقميص نومها الفضفاض تلتفت بجسدها البدين يميناً وشمالاً، وفي ردفها الأيمن، ثبتت الطلقة.
عودة
أخذتُ الصنارتين، وأنطلقتُ إلى البيوت التالية: "عيت عمّي حمد"، "عيت عمّي امحمد"، "عيت الحاج مفتاح"، "عيت الحاج عبد الرحمن"، "عيت الحاج المبروك"، "عيت المرحوم عبدالله"، وأخيراً "الحاجة افطيمة" الأرملة. وهذه بيوت أذهبُ لها كلَ صباح، أتنقل بين الحيطان باحثاً عن فراغات صغيرة فيه، أتسلق الجدران أو أركب بالسلّم وأتأكد إن كان عشاً للعصافير. غالباً ما أجدُ في الأعشاش بيضتين أو أكثر. أخذ البيض وأضعه على جنب، ومن ثم أستند على حائط مقابل وعينايَ لا تفارقان العشّ حتى يأتي العصفور مسرعاً ليدخله. آنذاك، أكون حاملاً في يدي الصنارة الطويلة، لأنه يجب أن أسرع. فالعصفور حينَ لا يرى بيضه، يخرج مسرعاً، وعليّ أن أكونَ أسرع منه في رفع الصنارة وسند الحلقة المفتوحة على باب العش، وأنتظر العصفور الذي سيخرج مسرعاً، فيصطدم في الشباك ويعلق، فأنزل العصا ببطء دون أن أحرك الحلقة من الحائط، وحينَ يصير العصفور أمام عينيّ وفي متناول يديّ، أضعه في صندوق كرتوني. الصغير المثقوب. ثقب صغيرة للهواء. أضعه تحت إبطي وأذهب إلى بيتٍ أخر. وحينَ أنتهي ويكون ذلكَ بعد ساعاتٍ قليلة. أتنقل بين الحقول والأراضي كعادتي.
3
في ذاكَ اليوم، فكرتُ في مضاجعة حمار الحاج "عزالدين". لا أعرف السبب. ربما لأنني أردتُ مضايقته، أو القيام بتجربة جديدة لم أجربها في حياتي. أعرف بعض شباب القرية يضاجعون المعزات. كانوا يضاجعون المعزات، فتمسك المعزة بزبوبهم داخلها. وكانوا يصرخون ويتألمون، ومن ثم يخرجون إبرةً من جيوبهم، أو ربما تكون جاهزة في أيديهم، ويرشقونها في مؤخرتها، فتتركهم متورمين وفي لذّة. أنا علمتهم استخدام الإبر أثناء مضاجعة معزة، رغمَ أنني لم أجرّب مضاجعة المعيز. كنتُ ذاتَ مساءٍ أسير في السانية حينَ سمعت صوتَ أنين يصدر من زريبة خرفان "عمي مفتاح". توجهت إليها وتسلقت السور فرأيتُ جزء جسد إبن "عمي امحمد" السفلي، عارٍ تماماً. وذكره في مؤخرة إحدى المعزات، وحينَ رأني شعرَ بالخوف وطلب منّي القفز له ومساعدته. ابتسمت، وسألته كم سيدفع لي مقابل مساعدته، فردّ على الفورِ أنه سيكافئني بدجاجةً حمراء، وبعض البيض. عدتُ إلى البيت وأخذت إبرة من صندوق الخياطة الخاص بأمي وعدتُ إليه. قفزتُ داخل الزريبة ورشقت الإبرة في مؤخرة المعزة فأصدرت صوتاً وتركته. أعطاني دجاجة حينَ ذهبت إلى بيته في اليوم التالي. والبيض، سلقته أمي لطعام الفطور.

كانت صور طرابلس تحلّق أمامي وأنا في ذروة شهوتي الجنسية. أحاول الفرار من مظهر مؤخرة الحمار الذي يحوم حوله الذباب وذيله القصير يتحرك يميناً ويساراً بلا مبالاة. صور طرابلس كانت تحلّق وكأنني كنتُ أعلم بأنني سأكون الليلة في طرابلس. كأني كنت أعرف أن العالم كله سينقلب تلكَ الليلة. كأني كنتُ أعرف بأن دمي سيصبح مباحاً. كأني سأرى جدتي تبكي. أمي تولول. جدتي تعطيني سرّة كبيرة فيها ما أحتاجه من ملابس وطعام. وأن خالي "أعليوة" سيأتي بعد صلاة المغرب لأخذي إلى محطة التاكسيات.
4
الدكتور أمجد أغلق دفتر ملاحظاته. اكتفى على ما أظن بما سمعه اليوم، وطلبَ منّي أن أزوره بعدَ أسبوع. طلبَ منّي أن أكتبَ أي ملاحظة أو حكاية حدثت لي، ولا يمكنني التوقف عن التفكير فيها، وأن أحكيها له الأسبوع المقبل. حرّكتُ رأسي موافقاً، وخرجتُ من العيادة وأنا أتحقق من عدم وجود أحدٍ ما على الدرج أو أمام الباب من معارفي. تلكَ كانت جلستي الثانية. في جلستي الأولى تحدثتُ عن "أحلام". لا أدري لماذا. ربما لأنّ "أحلام" سببت لي عقدة تجاه النساء. ربما لأنها أيضاً سبب من أسباب تغيّر مجرى حياتي، ولأنها علمتني كذلكَ أن أعيش في الواقع ونبذ الخيال والأوهام العشقية.

كنتُ معها أعيش روعةَ الحبّ العذري. نلتقي في مقبرة "سيدي منيذر" صباح كل يوم إربعاء. نجلس خلف القبور ونتحدث. كانت تدرس في مدرسة "سكينة بنت الحسين" للبنات وكنتُ أدرس في مدرسة "علي وريث" للفتيان. نلتقي وأشعر برعشة أثناء لمسي ليدها، أو استنشاق عبق عطرها بين نهديها، خلفَ ملابسها العسكرية. تهمس شفتيّ لشفتيها قبل أن تلتحما وكأنهما قطعة كسرت لإثنتين، وألمس نهدها الأيمن.

أول مرةٍ لمست نهدها، قبّلته. ولكنني خفت من ممارسة الحب معها. ليسَ لأنها عذراء، فقد قالت لي أنه بإمكاننا ممارسة الحب باللحس والمص. كنت خائفًا لأنني، كلما وضعتُ يدي على ردفيها، خطرت في بالي صورة مؤخرة الحمار والذباب يحوم حولها! وهذا ما سأقوله للدكتور أمجد في جلستنا الثالثة غدًا، سلمت عليه، وقلبتُ المرآة الطويلة، والتي كانت قبالتي، فأختفى، وبقيتُ وحدي في الغرفة!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

معمّر مات