الدرية ولد شارعنا
تعلمتُ في طرابلس أن يكون لي سند في اللحظات الأكثر حرجًا.
كأن يتعرضَ لي أولاد الكازا على سبيل المثال ويسألونني ربع دينار مقابل المرور بسلام، ووقتها (على سبيل المثال أيضًا)، لا يكون في جيبي سوى ولاعة بدون غاز وسيجارتين رياضي مليئتان بالتجاعيد بعدَ أن دخلوا غسالة الملابس على مدى حربين وبضعة قطرات عرق. وفي هذه الحالة عليّ أن أقولَ لهم أنني من أولاد المدينة وولد شارعي، والمتريسّ علينا هو رامي الحفيان.
طبعًا سأقولُ ذلكَ فقط لأتجنّب الدخول في مشاكل مع أولاد الكازا، على الرغم من ان علاقتي والحفيان كانت ماشية زي السمن على العسل، ولكن هذه الحيلة أوقعتني في ورطة، وكانَ ذلكَ في أول لقاء وجه بوجه مع فتحي التشاينا، الشاب الأسود ذو الرأس الحديدي، الذي وحينَ كنتُ ذاتَ ظهيرةً أمشي قاطعًا الكازا متجهًا لـ بن عاشور، أوقفني وسألني عن وجهتي، فأجبته، وكان من بعد ذلكَ السؤال البديهي الذي يقشعّر له البدن: “وين تسكن”، فأجيبُ ورأسي مرفوع، وحينَ يسألني عن من هو المتريّس على الشارع ليتأكد من صحّة قولي، أجيبه وكلّي تحدّي وشموخ: “رامي الحفيان”، فضحك وهو يمسحُ على صلعته: “قصدك رامي ولد الزمزامة! هات دينار وكمّل طريقك يا درية”.
لا أدري لمَ وضعني الله في شارع مليان سحانين وتشريلوات، ولا أدري إن كان رامي حقًا لا يهني معشر شارعه، ولا أدري حتى كيفَ أصبحَ المتريص بما أن الكلام الذي يشاع عنه قد يكون حقيقي، الا وهو أنه ابن زمزامة. ولكن ما أعرفه أنني ارتكبتُ خطأً فادحًا كادَ أن يهلكني حينَ جاءت قريبة رامي الحفيان من تونس، وقد كانت طرف وحاجة مش نورمال (على قولة اخواننا التونسيين) وحينَ علمَ رامي أنني معجب بقريبته وأنني عاكستها ذاتَ مرةٍ حينَ كنتُ متكأ بجانب باب مدرسة الفنون والصنايع الإسلامية، صفعني بكل ما يملكه من شرف امامَ الخلق، فكانت الطامة الكبرى حينَ صرختُ في وجهه عالياً لأنقذ ما تبقى من كرامتي: “يا ولد الزمزاااامة”. وما أتذكرهُ الأن تحديدًا، أنني بعدَ ربع ساعة من انشادي لتلك الحصلة التي كانت عالقةً في فمي، وجدتُ نفسي على سرير في مستشفى الحوادث في شارع الزاوية، وقد جاء أشراف القوم من صيّع أول سبتمبر وميزران ليروا في شأني ويطفئوا لهب الحرب بيني وبين رامي الحفيان وعائلته الحفاية الذينَ جاءوا من كل حدب وصوب أمامَ باب المستشفى، رافعين راية ردّ الشرف، بعدَ أن أجمعوا على ضربي ضربة رجل واحد، حتى يتوزّع دمّي على الشوارع فلا يستطيع صيّع الزنقة التي كنتُ أسكن فيها الأخذ بثأري. ولأنني إنسان، ولأنني كنتُ أخاف على حياتي، ولأنني لم أشبع من الحياة، ولأنني متيّم بالحياة كأنها الحياة، ولأنني بالإضافة إلى ما سبقَ ذكرهُ كنتُ طفيلاً، عفوًا، أقصد طفلاً، فقد وافقتُ على المبلغ الذي طالبوني به رامي وأولاد عمه الحفاية، وقد كلفني تجميع المبلغ المطلوب، فقع أكثر من عشرون سيارة وسرقة أجهزة المسجل أثناء وقتَ صلاة الجمعة، ومن ثم بيعهم بالجملة في سوق الجمعة. وكانَ عليّ أن انفذ البند الثاني من الشروط التي ملّها عليّ المرحوم (حسن الشمّة) الذي وافته المنية أثناء معركة ساخنة مع (سمير القطرة) وذلكَ لإختلافهما في سعر كيس البوخة، وكانَ الشرط أن لا أظهرَ وجهي في ميدان الشهداء والشوارع المحيطة بها مدةَ أسبوعين، فهربتُ إلى بيت جدّي، ولحسن حظي كان ذلكَ اثناء العطلة الصيفية، حيثُ أجمل وقت هناكَ للعب البطش مع النفاخين الذينَ لا علاقةَ لهم بحروب الشوارع التي كانت تستهويني أكثر من البلاي ستيشن وبطاقات البوكيمون.
أثناء بقائي في بيت جدّي تنفيذًا للشروط، تخيلتُ نفسي أسيرُ ذاتَ مساء في وسط شارع أول سبتمبر وقد مزقتُ سترةَ قميصي، بينما احتشد المارون الذينَ كانوا على علمٍ بأنني منفي من الشارع مدة ليست بقصيرة، فخرجَ رامي من باب العمارة حاملاً سيفه وهو يسألني أن أخرجَ من الشارع، فأصرخ في وجهه أنني قد جئتُ مدافعًا عن حبّي لقريبته، فجاءني يجري حاملاً سيفه وقد أسلمتُ روحي ولم أفرّ، بينما حبيبة القلبُ تنظر من الشرفة وقد بدأت الدموع تهطل من عينيها. ومزّقَ رامي صدري فأنطرحتُ على الأرض غارقًا في دمي، وجاءت الحبيبة مسرعة تحضنني واضعةً رأسها على صدري الصغير الغارق في دمه، فأضعُ يدي على رأسها الذي يغطيه شعرها الكيرلي، وأبتسمُ لها في حسرة وأقول لها أنني أحببتها وأنني لم أحبّ فتاةً في حياتي غيرها فتقبلني في فمي وسطَ دموع المارة، وتنتهي قصتي، ويخلدني المؤرخون في كتبهم، وأن ثورة الحب بدأت في ذلكَ اليوم التاريخي، حيث دفنت العادات والتقاليد البائسة معي في قبري، وأنّ اسمي صارَ على كل لسان، وقد كتبَ عن قصة عشقي البرئ مسرحيةً وأنتج منها فيلمًا سينمائيًا، ثم تلفزيونيا يعرض على قناة الام بي سي، ولأن قصة عشقي مليئة بالثورة والدماء، فقد حولت لعمل سينمائي كبير في هولييود، وسيتقمص شخصيتي في الفيلم ماكاولاي كورلكن، بطل فيلم وحيد في المنزل. أمّا في جنازتي، فسيسيرون بي وسط المدينة القديمة والحديثة وسترمي النساء الورد على التابوت المغطى بصوري كشهيد في سبيل الحب .
ولكن الحلم خاب وراء خوفي، وعدت الى الشارع بعد مرور المدة المتفق عليها، وقام أشراف قوم الشارع بمصالحتي ورامي في جلسة مغلقة ختمناها ببضعة جوانات وكؤوس بوخة. وفي تلك الجلسة المغلقة التي كان الناس يترقبون نتائجها، بايعت رامي منصبه كمتريص على الشارع وباركت له ذلك، فعادت المياه الى مجاريها.
الا أن مبايعتي تلك لم تعجب صيع شارع بلخير الذين يعترفون بالوحشي كمتريص اول على شارع اول سبتمبر، وحين اخبروا الوحشي بما حدث في الجلسة المغلقة، جن جنونه وطلب جنده بأن ياتوا بي. حقه يا ناس، فهو المتريص والمتريص لازم يكون عنده جنود مخلصين ملغمين بسكاكين البوخوصة.
المهم في الامر أن جند الوحشي جائوني وأنا في قمة نشوة الحكايات عن بطولاتي حين كنت جالسا في قهوة السنبلة وبعض الرفاق الهابي الذين لا يفهمون حرب الشوارع، وقد تطلب الامر ومكانتي وقتها وانا اسحب الدخان من انبوب الاركيلة ساردا بطولاتي ان اعطي نوعا من الهيبة ليصدقوني، فقلت لجنود الوحشي: الي يبيني يجيني. وبعد ان تزرقت عيني اليسرى وزهقت مكانتي الشارعية امام الهابي، رأيت نفسي في قهوة غالاليا بجانب الوحشي المتربع على عرشه يدخن الاركيلة، وقد لاحظت ان له وجها يشبه وجه والده، خاصة في بيض اسنانه انيعهاهاها! جو! وفي تلك اللحظة التي كان قلبي فيها يدق بقوة كمحرك حافلة ايفيكو، سحبت مبايعتي لرامي وبايعت الوحشي ملك ملوك الشارع! مليحة ملك ملوك صح؟
وحين علقوا علي فروخ شارع الزاوية بجانب جامع القلالي، في احدى أيام عاشوراء، قلت لهم أنني من أتباع الوحشي، ولكنهم ظلوا يتساءلون من هو الوحشي، ويا عينك ما تشوف الا تيروا راكب وتيروا نازل.
بعد تلك الحادثة، تعبت من المعارك ومن المتريصين الذين لا يحذفون ولا يجيبون رشاد. لهذا فقد بايعت نفسي متريسا على نفسي والشارع. فأنا لا تنقصني يد ولا قدم ولا سكين بوخوصة ولا زرقاء مطبوعة على عيني لتظهر بأنني مشكلجي ما عنداش الروح مع الضرب، ولكن لأننا في الشارع أصحاب شغل نظيف ومنظم، يجب أن تثبت أنك راص وكابو في شارعك ومن بعد ذلك تنطلق الى العالمية، عفوا قصدت، الشارعية.
وبهذا العزم والحماس بدأت أتدرب على اللكم والطعن بالسكين التشادي والنطح، حتى أنني في ألمع لحظات الحماس نطحت ابن جاري ذو الأربعة سنوات وتمتعت في الايام التالية بتأمل أنفه الذي وكأن قنطشة حفيانة سطربت عليه.
انقسمت خطة فرض نفسي على اولاد الشارع الى عدة اقسام من اهمها:
انقسمت خطة فرض نفسي على اولاد الشارع الى عدة اقسام من اهمها:
اولا: اختيار الشخص المناسب للضرب.
ثانيا: اختيار المكان واليوم المناسبان.
ثالثا: اختيارالمتفرجين.
رابعا: ادوات القتال.
اعدادي للمبارزة كانت استراتيجي وقد وقع اختياري اخيرا على : معاد الجبنة في قهوة السنبلة يوم الخميس قبيل صلاة المغرب وأدوات المعركة شيشة اركيلة وحزام بدلة عسكرية .
ورغم اننا قد هزمنا في المعركة لأن الجبنة مقاتل شرس الا اننا لا نزال نقاتل ولا نزال نقاوم حتى نصير متريصين للشارع او يعلق نعينا على ابواب مسجد ميزران.
2
قبلَ ظهور رامي والجبنة والوحشي، والشلّة الجديدة من السحانين في الشارع والتشيريلوات، كان شارع أول سبتمبر يعجّ بالفورتية الصح، أصحاب السوابق والرقاب، والكلمة التي لا تطيح، والدم الي يجري على الركاب. كانَ ذلكَ منذ الستينات، ولكن معلوماتي عن شارع أول سبتمبر من خلال خلفيتي في العيش فيه، جعلتني أعيش فترة التسعينات أسمع عن المتريّص الذي لا يهدّه أحد، الا وهو “الفورتي روما”.
كانَ الفورتي روما، طويل القامة، في العشرينات، عريضَ الجسد. يرتدي الملابس العسكرية، ويسير في منتصف الطريق الرائيسي مستعرضًا عضلاته، يرفع يديه يحيّي من يرفع يده للسلام. وإن كانَ لشخص ما ثأر لشخص أخر في الشارع، عليهِ أن يأخذ اذن الفورتي روما، وبعدَ الموافقة يستطيع أن ينصرف إلى شغله وثأره، ولكن الفورتي روما، سيحدد أنواع السلاح والضرب وما إليه، وإن أخطأ، أو تمادى، فوقتها عليه أن يدفعَ ضريبة للفورتي ويُضربَ أمامَ الخلق ليسترد المغدور به كرامته.
وإن كان مكانه المتواجد فيه عادةً هو الوسعاية التي خلفَ عمارة “الميّت”، إلاّ أنه عادةً ما يتواجد أيضًا بجانب مقهى سامي في الكورنر بين شارعي أول سبتمبر وهايتي، والتي تؤدي إلى ميدان الجزائر. حيثُ يتجوّل بين أبواب المحل يتفقد الرعية، والأحوال والبيزنس كيف ماشي، ونسيتُ أن أخبركم أنّه كان المتريص أيضًا على سوق القـلـّوب، والبوخة، ومتريّص أيضًا على الباعة المتجولين، الذينَ يفرّشون بضاعتهم أحيانًا على جانبي الشارع، كباعة النظارات والساعات والبقوليات والسامينسا، وذلكَ بجمع الضرائب منهم على كل يوم يبيعون بضاعتهم في الشارع، كما كان يحصل على الحشيش والبوخة وما تشتهيه عيناه من الباعة بالمجان، وكانَ أول من يسمح بباعة الملابس بالدخول إلى أول سبتمبر للبيع، مقابل نسبةأرباح
، و7 بناطيل مجانية كل أسبوعين، وقد كانت هذه نقلة كبيرة في الشارع، كادت أن تحدث تغييرًا كبيرًا فيه، وتحوّله إلى شارع يشبه شارع الرشيد الذي تملأ طريقه عربات باعة الملابس، وشارع الرشيد أيضًا كان المتريّص عليه هو الفورتي روما، حتى العام 2002، حينَ اعتزل الصياعة وأعطاها لبعض المفرخ، الذينَ لم يصبرَوا أكثر من ثلاثة سنوات، حتى انهارت سطوتهم وأصبح شرطة الشعبة متريصين عليه. ففي عهد الفورتي روما، كانَ الكل يدفع ضريبة كبيرة جدًا له، فكانَ يعيش مبحبح، رغمَ مظهره المتصعلك، بل أن الناس قالوا أنه أصبحَ مليونير، وأنه يدير بيزنس مخدرات يكفي خزانة ليبيا، وأنّ له بيزنس حتى مع الحكومة. وكانَ خيرُ دليل على ذلكَ، أنه إن لم تكن الضرائب التي يفرضها على الباعة المتجولين كاملة، فإنه يرسل دوريات الشرطة للإطاحة بهم، وإن كانت كافية، فإن دوريات الشرطة لا تمرّ أبدًا من هناك. وحينَ كادَ أن يتحوّل شارع أول سبتمبر إلى شارع يشبه شارع الرشيد، حدثَ خلاف كبير بين الحكومة والفورتي روما، أدت إلى بدء عمليات سجنه، خاصةً أن الأمر تطوّر وتدخل فيه الأمن الداخلي – المخابرات.

*
حينَ اعتزلَ الفورتي روما الصياعة في الشارع، وأستقال من منصبه كمتريّص، لكي يتفرغ إلى التسبيح في ملكوت الله، قامت الحرب في الشارع بين جماعتي المسقم وشرف الدين، للرئاسة على الشارع، خاصةً أنه لا وريث للفورتي روما ولا أقارب لهم سطوة ما في الشارع مثله، على مرّ تسعة أعوام شافَ فيها الشارع نظام متريّص على كل كبيرة وصغيرة، حتى أنني لا أزالُ أتذكرُ حتى الأن أننا لم نكن نلعبُ كرة القدم، إلاّ عندَ استشارة الفورتي روما: “عمّي روما، قالك بابا لو سمحت، تخلينا نلعبوا كورة في وسعاية الخطوط، ولاّ وسعاية عمارة الميّت”.
كنتُ وقتذاكَ في الحادية عشرَ من عمري، وكنتُ ككل الصيّع في الشارع، أتابعُ مجريات الأمور بلهفة، وأتابع المعارك واحدة بعدَ واحدة بين الوسعايات والأزقة وحتى في الرائيسي بينَ جماعتي شرف الدين والمسقم. ولم يعبأ الفورتي روما بما يجري، خاصةً بعدَ أن أسميناهُ ” الفورتي بن لادن”، كلما كنّا نراه مقلصًا حياته بين البيت والمسجد، وقد صارَ يرتدي جلبابين، أحدهما على مرّ الأسبوع، والأخر في الأعياد الدينية وأيام الجمعة، وكذلكَ تحرّرت لحيته على وجهه، وصارت مجعدة، تخفي ملامح وجهه. الشيء الوحيد الذي ظلّ من ماضيه، هو زياراته المتكررة إلى مراكز الشرطة. فحينَ كان المتريّص، كانَ يزور مراكز الشرطة بسبب مشاكله في الشارع وجرائم المخدرات والكحول، وحينَ تشيّخ، صارَ يزور المراكز بسبب اللحية والجلباب، ودوامه لصلاة الفجر حاضرًا في المسجدِ. وحينَ كان يلقّب بالفورتي روما، كانَ نزيل مكافحة المخدرات، وحينَ صارَ الفورتي بن لادن، صارَ نزيلاً في مكافحة الزندقة.
3
ما أردتُ الوصولَ إليهِ عندَ تحدثي عن الفورتي روما، أو الفورتي بن لادن، أنني تذكرتُ البارحة، قبلَ خلودي للنوم، الموقفَ التالي:
ذاتَ يومٍ شتوي، كنتُ مكسّدًا، مسندًا ظهري على بالو ضي. بجانب سينما “عمر الخيام”، حينَ رأيتهُ يتناقش مع قاطع التذاكر حولَ صورة إعلان فيلم معلقة على واجهة السينما لممثلة هندية، وصدرها فيها شبه عارٍ، قائلاً له:
“هذا حرااااااااااام، تخيّل أن هذه المرأة أختك أو أمك!”.
“أمك يا ولد الهاملة” أجاب قاطع التذاكر بحزم.
“أمي؟؟؟!!! حيه علي رفك!!!”.
وأنطلق لسانهُ يسبّ الجلالة وهو ينطحه، ليرتمي على الأرض وينهال عليه بقدميه، قاسمًا بحياة لحيته أن ينهي حياته في تلكَ اللحظة.
وكنتُ وقتذاك مع المارة أصرخ مشجّعًا بن لادن، بطل شارعنا ليجهز على الكلب بائع التذاكر:
“ايه بن لادن ايه.. ادفن رفّه في مكانه”.
الاّ أن المارة تدخلوا وأطلقوا سراح بائع التذاكر من غضب بن لادن.
بعدَ أيام، أُعلنَ في الشارع عن هدر دمي من قبل ارديف منطقة “بوسليم”، وذلكَ لأن بائع التذاكر كانَ واحدًا منهم، يعني كان عندنا في الشارع واحد يشتغل لصالح الأعداء… عادي يا شباب، خدوها إيزي! ولأنني شاركتُ في ضرب بائع التذاكر بتشجيعي لـ بن لادن، وإضافة إلى ذلك، أنني أعطيته سلسلة حديدية عادةً ما تقفل بها أبواب السينما ليجهز عليه بها، فقد وُضعَ عليّ الحد.
ولأنه لا وجودَ لـ متريّص على شارع أول سبتمبر لأحتميَ به ويعطيني الآمان، فقد قررتُ أخيرًا اللجوء إلى بن لادن، رغمَ أن هيبته انطفأت في ظل اعتزاله لمنصبه كمتريّص على وسط البلاد.
كانَ بن لادن، ليحافظ على دينه الذي تشبّث به، وعدم رغبته للعودة إلى الشارع، يخبئني في مسجد “كرشود” بجانب مقهى “عمي فتحي امتاع البريوش”، من كل صباح وحتى فترة الظهيرة، أي فترة الدوام المدرسي، ومن ثمّ من صلاة العصر إلى صلاة العشاء، ولأنّه لم يكن يريدني أن أضيّع وقتي دونَ فائدة، فقد وضعني في الحلقة التي يحفّظ فيها القرآن لطلابه الأطفال، وقد قضيتُ هناكَ وقتًا مملاً جدًا، وكنتُ أعلّقُ فلقةً كل يوم لأنني لا أعبأ بدروسي وحفظي للقرآن، وفي كل مرةٍ أعلقُ فيها فلقة كنت أبكي وأصرخ: “انشاالله تحج يا شيخ روما معش نعاودها”، وكانَ يرد صارخًا، وهو يضربني “أني ما اسماياش الشيخ روما”، فكنتُ أجيب: “يا شيخ بن لادن يا زرقاوي يا سديسي، ورحمة والديك خليني في حالي”.
وكنتُ شاهدًا أيضًا عليه وهو يأخذ الأولاد للطابق العلوي من المسجد ليحفظهم آيات معيّنة من القرآن، وبعدَ دقائق طويلة ينزلان، وكنتُ أدركُ عندَ كل مرةٍ أرى فيها الطفل – الذي أرسله والداه إلى المسجد لتعلّم القرآن – واضعًا يداه على مؤخرته، أن الفورتي روما سابقًا وبن لادن الآن، كان “يشوط فيهم”.
ولأنني أصبحتُ أخافُ أن يقتربَ منّي الدور، بعدَ أن تحوّلت حياتي في المسجد إلى جحيم لا يطاق، حينَ أغفو فيه، وأصحى على كل حركة تصدر، وفي كل مرة أشعر فيها بالنعاس أضع يداي على مؤخرتي كحائط، فقد قررتُ أخيرًا أن أسلّم نفسي للقدر، ولمردف بوسليم قائلاً في ذاتي ذاك اليوم بعدَ صلاة المغرب: “أن أطعنَ من الأمام أفضل من أن أطعن من تالي”، وهكذا خرجتُ من المسجد مسلّمًا حياتي، وقد اشتريتُ بثلاثون دينارًا دجاجتين محمرتين وقطعة حشيش وكيس بوخة، ودعوتُ أشراف الصّيع، ليشاركوني العشاء الأخير. وهناكَ قسّمتُ الحشيش فيما بينهم قائلاً هذا جسدي، وسكبتُ في كؤوسهم البوخة قائلاً: هذا دمي، كما فعلَ المسيح مع حوارييه، وهذه الجملة لطالما صرتُ أقولها في أي جلسة مع الصيّع ورفاق الكأس والسيجارة.
*
الاّ أن السنواتَ مرّت، دونَ أن يأخذ فيها شبيبة بوسليم بثأرهم، وعادَ قاطع التذاكر للعمل في السينما، وأنعزلَ بن لادن إلى الأبد في المسجد ليحفظ القرآن، وتعليم غلمانه، حتى مات صباح الحادي عشر من صيف العام 2004 برصاص كلاشن كوف في شارع السعدية، لسبب مجهول.
واليوم، أشعرُ بالندم على الثلاثون دينارًا التي صرفتها على العشاء الأخير، فلو حولتها للجنيه الأسترليني لكانت بأقل تقدير عشرة جنيهات، أضيفها لسبعون جنيهًا استرليني فتكون ثمانونَ جنيهًا، وأستطعتُ بذلكَ أن أدفع إيجار السكن في غرفتي اللندنية، لهذا الأسبوع.
تعليقات