شرف حافي

1
حين التقيت بالعم "عبد الونيس" أول مرة، كان يبدو لي كما لو أنه أضاع شيئاً ثميناً على قلبه. كان ذلكَ في صيف العام الماضي حينَ عدت ورفاقي من " الكِتّاب"، بعد درس طويل في حفظ القرآن، وكنت يومها أسير ورفاقي في الشارع العام على رؤوس أصابعنا، بعد أن ضربنا الشيخ فلقة لأننا لم نحفظ صورة القارعة. كان رفيقي أحمد الموزة "وذلكَ لأن له وجه أصفر كالموز" يسب الشيخ ويدعو عليه بالموت، وأن نذهب غداً للكتّاب فنقرأ خبر وفاته. وسيفاو البلعوط " نلقبه بذلك لأنه يكذب كثيراً" كان يقسم لنا بالمصحف الذي يدرس منه أنه راء ابنة الشيخ في حديقة الكورنيش مع عبد الله بن العقيد ابراهيم جارنا، وكنّا نسمع له ونحن نعلم بأنه يكذب فقط ليستمر في نسج القصة وإثارة مخيلتنا ونحن نسرح في ابنة الشيخ تجلس بجانب عبد الله على المصطبة الحجرية ومالذي سيحدث، وهل سينام فوقها كما هي عادت العشّاق في الكورنيش. ويجب أن أكون صادقاً وأقول أنهم كانوا يلقبونني "سبانك" لأن وجهي مربع كالكلب سبانك والذي تعرض حلقاته على مدار السنة في التلفزيون الليبي، ولكنني لم أكن أتمنى أن يموت الشيخ ولم أقسم بأنني رأيت ابنته مع التشادي، بل كنت أخاف من أبي الذي سأخبره أن الشيخ علقني فلقة لأنني لم أحفظ سورة القارعة، وقد أقسم أمام أمي في البيت قبل أسبوعين إن لم أحفظ السورة القرآنية فإنه سيمنعني من خروج الشارع مع رفاقي صيفاً كاملاً.

حين ودعنا أحمد الموزة وأكمل طريقه بينما دخلت والبلعوط باب العمارة، التقينا بذلك الرجل الخمسيني، والذي أوقفنا وهو يبتسم بتوثر وسألنا أين كنّا وإلى أين نذهب، شعرت والبلعوط بخوف أول الأمر، ثم أصبحت وحدي خائفاً بينما البلعوط كان يتكلم براحة تامة مع الرجل وهو يخبره أين كنّا وماذا فعل بنا الشيخ، ثم بدأ يحكي بغضب للرجل عن ابنة الشيخ وعبدالله مع بعض التغييرات التي حدثت في مخيلته وكتبت على لسانه، وكنت أجذبه من طرف قميصه ليتوقف عن الحديث، ولكنني سرعان ما توقفت عن ذلك حين غرز ذلكَ الرجل عيناه في عيناي وهو يسألني عن سبب توثري. "لست متوثراً، ولكن علينا العودة مبكراً لكي نلعب الكرة قبل وقت الغذاء" قلت للرجل. ابتسم لنا وهو يمسح رأسينا ثم سمح لنا بالذهاب قائلاً أنه سيعود في المساء لأننا رجال كبار وهو يحب التحدث مع الكبار.

ونحن نصعد السلالم طلبت من البلعوط أن نلعب الكرة مساءاً في حديقة الغزالة، لأنني لم أرتح لذلكَ الرجل وأظنه حرامي، ضحكَ البلعوط مصدقاً نفسه أنه رجل وهو يقول لي:

- "أنت قاعد فرخ صغير ماتفهمش الكبار وطريقة كلامهم، هذا شخص عادي، والله صدقني".

- "أنا فرخ صغير يا بلعوط" قلت له ضارباً سبابتي على صدري "ماشي يا كلب، توّا نشوفوا من الصغير".

ضحكَ وهو يلهث وهو يقسم كعادته أنني لا أزال صغيراً وأنني لا أفهم شيئاً في الحياة، وأنه كبير في العمر ويفهم الحياة، وأن له شعيرات في ذكره مراهناً أنني لا أملك شعيرات، وأنه يراهن أيضاً بأن ذكري كذكر الطفل "أبيض وصغير"، وحينَ كذّبته، وقف وهو يرفع طرف جلبابه التقليدي ويمسك طرف سرواله أمراً بأن أفعل مثله لنعرف من الرجل فينا.


2
لم أكن أنوي الخروج ذلك المساء، لقد شعرت بالحرج لأنني لم أشأ اظهار ذكري أمام البلعوط، فضحك عليّ معتقداً أنني خائف منه لأنني لا أملك ذكراً كبيراً، وأنه مستعد لإظهاره عكسي. وحينَ مرت ابنة جارنا التي تسكن في الطابق الرابع مع صديقتها المقربة وقد كانتا في الخامسة عشر من عمرهما، قال البلعوط لهن عن ما حدث بيننا معلقاً: "أبيض وصغير" فنظرن نحوي وهن متمسكات ببعضهما البعض ويضحكن بفجور. صرخت بالبلعوط وأنا أمسك حقيبة يدي تحت ابطي: "يلعن أبوك يا خامر يا ولد الخامرة" وبصقت عليه.

البلعوط سيخبر كل الأولاد الذين سيلعبون معنا الكرة، وطبعاً هذا يعني أن طرابلس كلها ستعرف، فنحن نلعب الكرة ما يقارب خمسة وثلاثون شخص، كل من يأتي يمكن له أن يدخل ويلعب حتى دون أن يعرف مع من يلعب، لهذا فأنك تجد كرة مطاطية صغيرة مثقوبة ملطخة بكل ما في الأرض وجيش كامل من البشر يجري وراءها على رأسهم أحمد الموزة "نسيت أن أخبركم أن جسده أيضاً يشبه الموزة".

- "ولكن لو كذبت كلامه سيصدقونني، لأن البلعوط معروف بالكذب ولذلك أسميناه البلعوط" قلت لنفسي وأنا أنهض من السرير بفرح، "ومن ثم من هو هذا البلعوط ليحرمني من الخروج من البيت للعب الكرة".

حين ارتديت ملابسي التي ألعب بها الكرة دائماً وأخذت إذن والدي للخروج للعب وقد أخذ منّي ذلكَ نصف ساعة بحالها حتى أقنعته بأنني لن أخرج من الزقاق، قفزت السلم بسرعة وأنا سعيد وكلّي مرح، وحين أكملت القفز في الشارع في طريقي إلى حديقة "قصر الشعب"، سمعت أحدهم ولا أعرف من يكون يصرخ من مكان ما ضاحكاً: "أبيض وصغييييييير"!! لقد بدأ الكلب البلعوط بترويج أنباءه.


3
لم أجد أحداً في الميدان خلف القصر بجانب الأحواض التي كانت تتبع قصر الملك والتي كانت مخصصة للسباحة، والتي خصصت الأن للتبول، تحركت قليلاً حتى وصلت إلى المدخل الخلفي للقصر وجلست على الأرض. ألعب بالأحجار المبعثرة هنا وهناك شاعراً بتكاسل كبير ورغبة في أن أجد أحداً من أصدقائي للدردشة أو للعب الكرة. وحينَ تأخر الوقت قليلاً وقفت عائداً أدراجي إلى البيت أجر خيبتي ورائي، وقد أخذت الطريق الأخرى للعودة إلى البيت حتى لا أفاجأ بأخر يصرخ بي: "أبيض وصغير". وفي شارع السفارات الذي يفصل شارع "الظهرة" بشارع "البلدية" خطرت في بالي فكرة أن أعثر على الأصدقاء في حديقة الغزالة يلعبون الكرة، فهم عادةً إن لم يتواجدوا في حديقة قصر الشعب، فمن المؤكد أن يتواجدوا في حديقة الغزالة. شعرت لحظتها بنوبة السعادة تنتابني وأنا أتقدّم بسعادة مهرولاً حتى وصلت هناك قافزاً داخلها من السور الصغير وقد كانت الأشجار تحجب أخر قطرات شمس في نوبة غروب. سرت قليلاً وأنا أحرّك عيناي ولم أجد الأصدقاء، خفت وأنا أرى كائنين بشريين يتحركان، أحدهما قزم مقوس ظهره والأخر يتحرك ملتصقاً به. وقد ظهر لي الوجه من أشعة الشمس الهافتة. كان البلعوط ينظر لي في خوف بينما الذي معه الرجل الخمسيني الذي رأيناه في العمارة صباحاً يدخل ذكره في سرواله ضارباً على مؤخرة البلعوط بسرعة ليرتدي سرواله هو الأخر. لقد شعرت بتقزز وغثيان شديدين، وقعت على الأرض وأنا أفرغ ما في معدتي. رفعت رأسي فوجدت البلعوط يرتعش بينما الرجل يقترب نحوي وهو يساعدني على الوقوف.

- "ابتعد عنّي" صرخت بالرجل الذي جلس على ركبتيه وهو يبتسم لي متوسلاً. مشيت بسرعة خارج الحديقة والبلعوط يتبعني وهو ينادني.


4
قال لي البلعوط ونحن عائدان إلى البيت وأنا أشعر بإشمئزاز نحوه أن الرجل الخمسيني واسمه "عبد الونيس" سيعلمه الكاراتي وسيجعل منه رجل، وأنه سيشتري لنا كرة قدم جديدة لنلعب بها، ومشاريع وأحلام أخرى. وحين وقفنا عند باب العمارة وقد أصابني الغثيان مرة أخرى مرتمياً عند الباب أتقيأ الهواء قال لي البلعوط:

- "أرجوك يا صاحبي ما تقول لحد على إلّي شفته، بعدين عمو عبد الونيس مش حيشري لنا إلّي وعدنا به"

اتجهت داخل العمارة فسمعته يسمح لي بأن أشرط ما أريد مقابل عدم اخباري بما رأيته، فألتفتّ وأبتسمت له في عتمة البناية. قلت

- "قل للجميع أنكَ تكذب بشأني، وأنني رجل كبير" قلت

- "ماشي، كله مثل ما تحب" قال البلعوط سعيداً

في تلك اللحظة نزلت الفتاتان اللتان ضحكتا عليّ أثناء عودتنا من الكِتّاب، ضحكتا عليّ في بادئ الأمر فغرزت عيناي في عينا البلعوط، تقدّم البلعوط منهنّ وهو يشرح لهما أن ما حدث كان مجرد مزحة وأنا ذكري كبير مثل خرطوم الفيل، ولكن سعادتي لم تكتمل حينَ خرج لنا جارنا العجوز "حسين" بعصا المكنسة وهو يسبنا، ونحن كلنا نجري خارج العمارة.

- "أتفو عليكم أولاد قليلين التربية، شفتك يا سيفاو البلعوط وشفتك يا بنت علي، ورحمة جدك الذي أعدمه الإيطاليين حنخبر بوك على كلامك السخيف". 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

موت محمد

معمّر مات