صيف صاخب

بداية
أعرف ما تتمناه، حب، سعادة وهناء. ثلاثة أمنيات ساذجة، عادية وروتينية، الاّ أنك تطلبها بشغف، لا أعرف السبب، ولكنها بالنسبة لك حلم تسعى لتحقيقه و تحلم بإحتضانه. أسأل نفسي: "هل لهذا الحلم علاقة بكونك إنسان في بداية حياة جديدة بعد خروجك من السجن، وبعد تذَوقكَ فيه المرارة والعذاب؟ أم أنك كنتَ تحلم بهذه الأمنيات الصغيرة منذ نعومة أظافرك؟ أم أنها كانت مجرد هواجس سرعان ما تنقضي؟".
أثناء المغيب، حين تختفي الشمس وراء العمارات العتيقة التي تطل عليها نافذة الحمام الصغيرة، كنت أستحم، لست مكترثة بأسرتي، ولا بالأقاويل التي تخلق لإثارة الشكوك حولي حينَ أتأخر في الداخل، أقف تحتَ الدوش عارية والماء ينسل برقة عليّ، بنعومة كنتَ تراها فيّ، وكنت تغمض عينيك حينَ تقرب أنفكَ من جسدي لتشتم العطر الذي تعشقه. وحينَ أخرج من الحمّام وقطرات الماء تبلل جسدي تحت الفستان الأحمر الفضفاض، أنام على السرير براحة تامة، كانت صورتك داخل دفتر صغير أهديتني إياه ذاتَ يوم، أراها صورة كلاسيكية لإنسان معاصر، حيث تظهر فيها بربطة العنق الظريفة، والجاكيت الأسود الذي ترتديه فوق قميصكَ الأبيض، عيناك في الصورة تخفيان جرحاً عميقاً لم تستره إبتسامتك، شعرك المجعد مرفوع لأعلى كما تحب أن يكون. أراكَ كما في شِعركَ، مندفعاً ومغامراً، حياتكَ مشتعلة بفتيل رغبة. أتذكر وأنا أمام صورتك "سارتر"، "همنغواي"، "جون فانت" "كافكا"، لم أكن أعرفهم من قبل، إلاّ أنكَ من علمني نطق أسماءهم، وكيف يفكرون وماهي كتبهم وكيفَ يبدون خارجياً وكيف كانوا يعيشون. أبتسم وأنا أتذكر أنني أخبرتكَ ذلكَ يوماً، أنك تبدو مثل هؤلاء الأدباء، فسألتني مبتسماً "لماذا لم يخطر في بالك أنني أشبه "علي مصطفى المصراتي، أو الصادق النيهوم"؟!". كم أحببت هذه الصورة، أتذكر بأنني عثرت عليها في أبريل 1986، في اليوم الذي يلي الغارة الأميركية على طرابلس وبنغازي، كنّا نبعثر تحت الحجارة بعد أن أقعدت قذيفة العمارة، وكنتَ أنت وقتها جالساً بعيداً عن الناجين من الموت ماسكاً قميص أختك الصغيرة، قميص زهري ملطخ بالدم الأحمر، كنت أدرك أنكَ منعزل هناك لأن الدمع حزين، يحتاج لخد يحضنه.

صورتكَ لحظتها كانت بين يديّ، مجردة من برواز يحميها من غدر الزمان، رأيتكَ تنهض لتقترب منّي تبعثر معنا الحجارة باحثاً عن أشياء لكَ فيها أمل للنجاة، بعثرت أنا كذلكَ الحجارة، ومن ثم رأيتكَ تجمع كتبك التي تناثرت أوراقها في إتجاهات مختلفة، إنحنيت حينَ لمحت كتاباً يحمل عنوان "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، لم أكن أعرف هذا الكاتب لحظتها، ولكن لفت انتباهي العنوان وجذبني لأقرأ منه بضع فقرات، وكانت أجمل فقرة قرأتها، هي التي ولدت من بين شفتيكَ ساعة كنت شاردةً في أسطر الكتاب. قلتَ لي:"لماذا لم يطرقوا جدار الخزان؟"، ومن ثم أضفتَ وأنت تسحب ورقة من على الأرض وتمسحها بيمناك بينما قميص شقيقتك الملطخ بالدم لا يزال بين يسراك: "أحب هذه الجملة"، أخفيت صورتكَ وسط صفحات الكتاب، وقلت لكَ وأنا أهم بالذهاب أنني سأعيد لكَ الكتاب لاحقاً، لم أكن أريد أن أقرأه بقدر ما كنت أريد أن أخذ الصورة من بين صفحاته وأن أخبئها في خصري لكي لا تأخذها منٌي، فكم كنت أتمنى أن تكونَ لي حينَ كنت أزور والدتك من حينٍ إلى أخر، أذكر كلمات والدتك حين قالت لي وهي تشير إلى الصورة أنكَ تحبها و تخاف عليها إذا لمستها يد غير يدك .

وسط
كنٌا معاً، أنا وأنت نسير على طريق الشاطئ بعد مشاهدة الفيلم الأمريكي في سينما "الودان"، و قنينة بلاستيكية مملوءة بالبوخا (خمر محلي) في كيس يهتز بين أصابع يدك اليمنى. جلسنا على مصطبة نستنشق رائحة البحر، سحبت قنينة البوخا من الكيس وسكبت منه في كأسكَ ومن ثم رفعته لأعلى شارباً نخب الشعراء والفنانين والمناضلين والشهداء والأبطال، كنت أضحك على جنونكَ وكنت تضحك على ضحكتي، ومن ثم تحدثني عن الأدب والشعراء والمقاومة والقضية العربية والفلسطينية، وحينَ تنهض وتتجه نحو البحر مستنشقاً رائحته المختلطة برائحة القطط الميتة تحت القوارب العاطلة، تسب نفسكَ وتسب السياسة والقضية، فأسرع خطواتي نحوكَ وأمسك ذراعكَ محاولةً اسكاتك من هلوسات الكأس.

نهاية
أنام، و تحت وسادتي أوراقك البيضاء، و مسوداتك الشعرية التي كنتَ تكتبها في المقهى، أمام فحم مشتعل في صحن حجري شتاءاً، وفي الشارع أمام المقهى حيث تصطف الطاولات صيفاً، مع السيجارة التي لا تفارق فمك وعيناك الشاردتان داخل الورق .

هناك رأيتكَ جالساً ماسكاً قلمكَ وتكتب. كنت شاردا تماماًً في الورق وفنجان قهوتك فارغ، ولفافات التبغ تنتظر دورها لتحترق بين شفتيك، حاولت إثارتك وأنا أحرك جسدي بغرور، إلاٌ أنك كنت تعيش مع إمرأة وهمية داخل كل قصيدة تكتبها . هكذا أحببتك، بعنفوانك وإندفاعك وحنانك وحبك المكابر. كنت أتخيل نفسي وقتها بطلة قصائدك التي ترسمها على الورق بابتسامتك الشعرية، والتي كن الفتيات ينقلنها في ما بينهن في المدرسة فكنت أشعر بالغيرة والسعادة في ذاتِ الوقت، كنت سعيدةً أنني كم كنت تقول "بطلة قصائدك"، وأغار خوفاً من أن تسرقني إحداهن إياك فقط بقبلة عابرة. كم كنتَ حزيناً وقتها وأنتَ في المقهى رغمَ ابتسامتك.

الأن وأنا ممددة في الفراش ألعب بخصلات شعري أفكر في فيك، أتذكر أخر مرة رأيتكَ فيها، وشاهدت ابتسامتك على ثغركَ حادة. حينما ارسلت لك ولدا ليخبرك انني اريد مقابلتك في الزقاق الذي اعتدنا ان نتقابل فيه، كنت يومها عائدة من المدرسة، سبقتك ولحقتني، وبعد أن تحدثنا قليلاً، وبعد أن همستَ في أذني بكلمات عذبة أدركت لا حقاً أنكَ دونتها في دفتر يومياتك، أعطيتني بعض الورق وسألتني إن كان بإمكاني أن أخبئها عندي ريثما تهدأ أمور البلاد، سألتك ماذا يحدث، وهل لا تزال عند وعدك بأن تتقدم لخطبتي يوم الخميس، لكنكَ لحظتها لم تجبني، التفتّ يميناً ويساراً ومن ثم مسحتَ رأسي، وداعبت شفتاي بأصابعك قائلاً لي أنكَ مشتاق لتقبيلهما، ومن ثم سرت مهرولاً، رافعاً يدكَ ملوحاً لي.

الحاج عبد الرزاق صاحب المقهى لم ينساكَ على الرغم من أن عشرون سنة مرت على اختفاءك. ذاتَ مرة مررت بجانب المقهى، وحينَ لمحته جالساً على كرسي مقابل الباب، سرت نحوه وسلمت عليه، ثم ذكرته بكَ بعد أن أعطيته صورتكَ التي أنقذتها من تحت الأنقاض، تأملكَ بحزن ومن ثم سألني عن أخبارك ولماذا اختفيتَ كل هذه المدة، همست له أنكَ ستأتي قريباً، ابتسم ونهض داخلاً حجرة في أخر المقهى، وعاد لي برواية "رجال في الشمس" وهو يقول: "طلب منّي أن أتركَ هذا الكتاب عندي، والبارحة وجدته في خزانة قديمة، ولا أحب أن يتوفاني الله وعلى رقبتي أمانة. ارجوك يا ابنتي، اتركيه عندك، وحين يعود، ارجعيه له، وابلغيه تحياتي".

لم أجرؤ لحظتها على البوح بالإشاعات التي قيلت عنكَ بعد اختفاءك، لم يقدر لساني على لفظ الجملة التي أدخلتني في غيبوبة مظلمة، حينَ قيل ذاتَ صيف صاخب بالدماء أن رصاصة اخترقت قلبكَ، وأنهم عثروا عليكَ جثة هامدة في مصيف "السندباد" ثمن قصيدة. كنت أشعر أنه من الصعب أن أنطق بهذه الجملة للحاج عبد الرزاق، فابتسمت له وأنصرفت حاملة الكتاب في حقيبتي، دمعة مكابرة تنزل من عيني وأنا أرى ابتسامتك في الصورة قبل أن أعيدها هي الأخرى داخل الحقيبة.

الشمس اختفت وراء العمارات العتيقة، أمي دخلت الغرفة وجلست بجانبي تتحدث معي وأنا غير مكترثة بها، شاردة في عالمك، كل ما سمعته لحظتها أنها تفكر في الخروج إلى السوق، ابتسمت لها وحركت سبابتي نحو صدري ثم أشرت بنفس الإصبع على الأرض: "أنا باقية هنا". أغمضت عيناي، حينَ اصطدمت نسمات دخلت من النافذة بجسدي، قشعريرة برائحة عطر رجالي، وكأنه أنت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات