ليلة قدر



طرابلس الغرب 26 رمضان 1984
 
ذلك المساء جلسنا بصمتٍ على مائدة صغيرة عليها بقايا عشاء الأمس... كانت عينا أمي تحملان خوفاً ولمحة هاجس طغى على مسمات وجهها، وخالي الذي بجانبي يلعب صمتاً بأصابع يده اليمنى، أسمع نبضات قلبه التي تخفق بقوة، وكأن قلبه مصدر سلوى لطبّال شغوف بحفلات الرقص والعزف... كانا أمامي، والتلفاز ذو الهيكل الخشبي مقفل على الرغم من توسلاتي لخالي بأن يفتحه، إلاّ أنه كان يصرخ في وجهي بأنّ التلفاز لا يعرض شيئاً هذه الساعة، ولكنني كنت أريد أن أرى ما في التلفاز... فالشاشة المرئية بشكلٍ عام كانت تلهمني للتأمل والخيال، وكنت أهوى الجلوس أمام هذه الشاشة لساعات عدّة حتى دون أن تعرض شيئاً ذو قيمة... هكذا كانت عيناي تسيران رغماً عنّي لتأمل هيكل التلفاز وأنا أضع ملعقة من الشربة في فمي، بينما أمي وخالي صامتان ينتظرا ضرب مدفع الإفطار، وكأن حفلة الحزن مرّت بيننا، وكأن النفس تأكل والمعدة صامتة أمام الروح الشرهة.
 
"لا تأكل كثيراً... مازال دقائق على المغرب" قالت أمي وهي تشهق بقوة. ثم تلتفت لخالي ويبداؤن حديثهما عن أشياء لم أفهمها وقتها، كنت أسمع خالي يقول: " ما دخل زوجك في المعارضة، مليون مرّة قتله ابعد عن الشر وغنيله، لكن هو مايفهمش "، وكانت أمّي تقول بعصبية " تبّيه يسكت عن الحق، إنتَ تعرف إن رأسه يابس، وأبداً ما يقدر يسمع كلام حد " ثم تقول بزفرة " ربّي يستر وخلاص ".
 
توقفت عن الأكل، ورحت أراقب عينا خالي اللتان تراقبان عينا أمي، وعينا أمّي تراقبا التلفاز بصمت... كان ينظر إليها برعب، وبين مرات قليلة، كان ينظر بغضب إلى نظراتي الحائرة، فأخفض رأسي للأسفل، ثم أعود للنظر إليه حين ينشغل بعينا أمي أو بمراقبة الصحون القليلة على الأرض، والتي تركت على كل منها بصمة الجوعان.

*
أطلق مدفع الإفطار من السرايا الحمراء القريبة من بيتنا، وسمعنا صوت الأذان من جامع الناقة القريب من بيتنا في " الفنيدقة " فبدأت بالأكل بينما كنت أفتقد لأبي الذي كان بيننا، هو الذي خرج منذ يومين ولم يعد، وحين سألت أمي قالت لي بأنه ذهب إلى العمل في مدينة " سرت ". أشارت أمي برأسها إلى خالي، نظر خالي إلى التلفاز بدهشة، ثم وقف وفتحه... ثوانٍ حتى تغيّرت الشاشة الرمادية الأقرب إلى السواد إلى بعضاً من كلمات مكتوبة في إعلان تلفزيوني... كانا أمي وخالي ينظران إلى التلفاز وكأن القيامة ستقوم فيه... بينما شردت أنا في أكل التمر وشرب اللبن ولعق شفتي العلوية من آثار اللبن.
 
سمعت صرخة أمي التي أوقعت كوب اللبن من يدي، رفعت رأسي إلى التلفاز لأجد شخصاً يشبه أبي علّقت رقبته داخل حبل وساقاه تسحبها إلى الأسفل ذراع رجل يرتدي قميصاً أخضراً... وقتها صمتّ وأنا أرى ذاك الذي يشبه أبي معلقاً وعيناه تكادا تنفصلان عن جسده... شعرت بأن التلفاز أمامي غول بفمٍ كبير يكاد يهجم عليّ فيلتهمني... وقفت وأمي وهي تخبط رأسها على الحائط بينما خالي يحاول اسكاتها وابعاد رأسها عن الحائط الصلب... ذهبت مسرعاً إلى الصالون ورحت أبكي لأن التلفاز يتمنى موتَ أبي... وقتها تمنيت أن يأتيَ أبي لأخبره بذلك، ولأقول له بأن التلفاز لا يحبه وأن يرمي به في سلّة النفايات ويشتري لنا أخراً... ولكنني كنت أخاف من مكتبته الصغيرة في عتبة الصالون حيث هناك كتب كثيرة مبعثرة، جاءوا البارحة بينما وأنا أكتب واجباتي المدرسية رجال يرتدون العصمات الخضراء على الروؤس وقلبوها، وصادروا منها عدّة كتب وضعوها في كيس كبير وبعثروا الصناديق التي بجانب حائط الصالون على رغم صراخي بأن هذه صناديق أبي وأن لا أحدَ يحب لمسها... ولكنهم خرجوا وركبوا سياراتهم الضخمة وذهبوا.
 
طرق باب البيت بعد لحظات... ذهبت متثاقلاً لفتحه وأنا أتجاوز كتب والدي المرمية على الأرض، كانت جدتي دخلت وهي تولول... وحين سألتها لم تجبني، بل حضنت أمي... فسألت خالي نفس السؤال، ولكنه نظر إليّ بعصبية معتادة وأمرني بأن ألمّ طعام العشاء من الأرض... لم أعره وقتها اهتماماً، وجلست أتناول العشاء وأنا أتلذذ بلطخة سائل اللبن على البساط.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات