بحبوحة

 

توقّفتُ عن تعاطي الكوكايين قبل تسعة وعشرين يوماً، لكن حسابي المصرفي ما يزال صفراً. امتنع المصرف عن إعطائي أي قروض أكثر من المتراكمة، ومعارفي وأصحابي رأوا أنّه لا فائدة من الاستمرار في فعل ذلك. ظاهرياً قد أبدو لك أنني لا أهتمّ بالأمر، واثقاً بأنّ حياة الإفلاس تناسبني، وأعتبر أجمل أيامي هي تلك التي لم أمتلك فيها مليماً. إنّني مدين للإفلاس، ولولاه متُّ زمان. رغم ذلك، لم أجد مفرّاً من لحظات كهذه يحضر فيها الإفلاس كمعضلة وواقع أليم. موعد دفع الإيجار غداً، وأنا أصلاً متأخر شهرين. رسائل الفواتير ملأت مدخل البيت، وكل يوم يتّصل بي رقم غريب فلا أردّ عليه، أو يتّصل سمسار البيت، وحتى هو لا أردّ عليه.

خلال هذه الأيام التسعة والعشرين بقيت معظم الوقت جالساً أو مستلقياً على الكنبة، غير قادر على المبادرة بأي أمر يُخرجني من واقعي أو يُعيدني إليه. كنت واعياً لمسألة الاعتكاف كضرورة للخروج من حلقات الشم. التوقف عن التعاطي يحتاج إلى وقت وصبر وكساد وقلة مال وطلعات. كنتُ مزاجياً معظم الوقت في الأسبوع الأول وحائساً في نفسي، أتنقّل دون سبب بين الغرف ونادراً ما أدخل المطبخ أو الحمام. قضيتُ وقتاً لا بأس به أنظر إلى سقف الصالون أحدّق في لصقة شفافة صغيرة في الزاوية بعثت شعاعاً لطيفاً أثناء انعكاس أشعة الشمس عليها، وانتبهتُ بعد كم يوم أنّ هذه العملية التأملية هي أكثر ما عدّل مزاجي وصفّى ذهني.
 
في الأسبوع الثاني لم يعد عندي أي علب تُن كما نفذ كيس التبغ، ومع نفاذه جاء القرار الصارم بترك الدُخان. نزلتُ إلى السوق الكبيرة، وقضيت فيها وقتاً لا بأس به، ولما وصلتُ إلى طاولة الدفع لم يكن في سلتي سوى اثني عشر علبة تُن بالماء. سألتني العاملة ان أردتُ شيئاً آخر اليوم. نظرتُ الى يدي حيث ترقد آخر عشرين جنيها وقلت: "لا، هذا كل شي، شكراً." وما إن وصلت إلى باب السوق حتى عُدت وسألتُ العاملة عن أرخص كيس تبغ متوفر عندها.

في نفس الليلة كتبتُ على ورقة كبيرة مهاماً عمليةً ورؤوس أقلام لمشاريع صغيرة، وكتبتُ ببنط عريض أعلى الصفحة عنواناً لها: التحدي، علها تكون محاولة لتبديل عاداتي وإنجاز مهام لا تتطلّب مغادرة البيت. هي مهام بسيطة قد تكون للبعض تافهة وعادية، بل وبالإمكان إنجازها في يوم واحد أو حتى في ساعات قليلة، كتحديث سيرتي العملية مثلاً، والبحث عن أشغال مؤقتة في الترجمة والتَملِية، والتريّض كل صباح، وتنظيف البيت كل يوم، والتقديم على منح للتفرّغ الأدبي، وكتابة شهادة ذاتية عن علاقتي السائلة بالمال كان عليّ تسليمها منذ أواخر الشهر الماضي. هذه المهام، وعلى قدر بساطتها، تعني بالنسبة لي الخطوة الثانية نحو بداية جديدة لحياة هنيئة. تعني المشي على الصراط المستقيم. تعني التركيز والنجاح والخروج من العدم. بعد إعداد المهام ومراجعتها مزّقتُ الورقة وعدتُ إلى الأريكة ونمت، ومن يومها، كل ما قمتُ به يمكن اختصاره في شيئين أو ثلاثة: مشاهدة المسلسلات الكوميدية والرسوم المتحركة وقراءة القصص القصيرة في الكتب وعلى الانترنت. قصص، بتنوع كُتّابها وزمن كتابتها واختلاف شخصياتها، بدت كلها – أو معظمها، كي لا أبالغ – متشابهة، وتدور حول رجال غريبي الأطوار وصلوا إلى حافة حياتهم، رجال سلبيين في علاقاتهم الاجتماعية. كلهم منهارون، منهزمون، منعزلون، وكل واحد منهم بطريقته الخاصة واختلاف الأسباب التي أدت إلى ذلك، وكلهم تنتهي بهم القصص وهم على حافة البكاء أو حقاً يبكون، بكاءً حاراً وطويلاً. وكنتُ في كل قصة أجمعُ شيئاً في ذاتي أو أحطّمه، وكنتُ في نهاية كل واحدة أودّ البكاء، بكاءً طويلاً وحاراً، لكنني لم أستطع البكاء، وبدلاً منه أفكّر في الماضي، حياتي في الشهور الماضية وحياتي قبل عامين وحياتي قبل عشرة أعوام وحياتي قبل عشرين وخمسة وعشرين عاماً. عدتُ كثيراً إلى صباي وذكرياتي المعتمة، حاولتُ أن أستعيد الصورة المتخيَّلة في طفولتي عن نفسي عندما أكبر. وفي لحظات كهذه الآن، وأنا مستلقٍ على الكنبة وأنظر إلى اللصقة الشفافة على السقف، أتخيل لنفسي حيوات أخرى بديلة، حيوات لا يحضر فيها المال ولا يوجد فيها كوكايين وتكون الكتابة فيها إما هواية مارستها في الماضي او شيئاً لم يوجد من قبل؛ حياتي وأنا مخرج سينمائي مثلا، وحياتي وأنا أشتغل موظفاً من الصبح الى العصر وأتقاضى راتباً شهرياً، وحياتي وأنا مازلتُ أعيش في ليبيا، وحياتي وأنا سياسي، وفي واقع أحكم فيه ليبيا. 

لطالما شعرت بالجوع بعد وصلة الحياة المتخيَّلة هذه.

القصة الكاملة منشورة ضمن عدد المال بمجلة فم (2022)، وفي موقع المجلة على هذا الرابط: بحبوحة مو. مصراتي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

موت محمد

معمّر مات