عن الزئبق والمطّاط
مرة أخرى، وجدت نفسي خارج الغابة، على الطريق، أفكر في الرحلة القادمة للوصول للبيت. أقول مرة أخرى، لأنها ليست المرة الأولى، وليست الثانية ولا الثالثة ولا حتى الخمسين. ثمة شك في داخلي. حالة من الريبة والدوخان، وفي الوقت ذاته لا أود أن أسرح بعيدا في أفكاري أو تذكر أي شيء حدث ويحدث وما سيحدث أيضا. كل الأصوات قرع طبل في مقطوعة الكترونية، كل الأصوات قهقهة مطاطية متزأبقة.
وتساءلت لو أن للزئبق لون، الاّ أن نيكولا لم يقل شيئا. التفت فرأيته ينظر الى الأمام. كررت السؤال مجددا مناديا اسمه قبلها. التفت نيكولا، على عينيه نظارة حمراء، وبدا كما لو أنه لم يفهم السؤال، ولم أفهم أنا السؤال، بل تلاشى لما حاولت شرحه، وحين فشلت في استرداده نظرت أمامي، فحسب.. لم أقم بأي أمر أخر، لم أفكر، اذ فكرت في أن التفكير وأنا في هذه الحالة ليس فكرة جيدة، وفي عز انهماكي في التفكير، سمعت ضحكة خفيفة أو ربما كحة، فضحكت، ليس هذا فحسب، بل التفت اليه وربتُ على كتفه ثم ضحكت، ضحكة مطاطية، هكذا، أو زئبقية، دون الحاجة لمعرفة إن كان للزئبق لون أو رائحة، ثم تنفست، وحينها خطر على بالي ان هذا النفس هو ما يسمى في القصص والروايات تنفس الصعداء، وتأكدت أن لا حاجة لمعرفة الكلمات لو عرف المرء موقعها من الاعراب، وبعدها بقليل، حين بدأت الافكار تتسابق في ذهني حول ما هية الاعراب، قررت مجددا التوقف عن التفكير لأنه في هذه الحالة ليس فكرة جيدة. نيكولا الذي كان يمشي بالقرب مني تلاشى، والطريق أمامي تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، وحين أحسست بأنه لم يتلاشى، بل يقف ورائي، التفت، ولم يكن قد توقف، بل مستمر في المشي بمحاذاتي. التقت عيوننا، التقت للحظة وإلى الأبد، ورأيت فمه يتسع مبتسما، ومن ثم يقول: لماذا نفعل هذا بأنفسنا يا مو؟
لمحت سحابة في السماء، وكان هذا حين ولّت الشمس.
تعليقات