تقرقيب على الأطلال


لا أريد لهذا الشيء أن يُكتب.. لا أفكار.. لا حروف.. لا كلمات.. لا جُمل.. لا حوارات.. لا بوح.. لا اقتباسات.. ولا مَنْيكة ولا حسرة ولا ردود أفعال.. لا شي.. ولزمن لا بأس به حافظت على لياقة الأمر.. تمرّ الحكايات في رأسي وأتركها تسرح وتتشكل وتتبعثر وتغوص فتبتعد وتضيع.. كثيرة هي هذه الحكايات وتلك التي علقت في الرأس.. ثمّة حاجة ملحّةٌ للكتابة.. رغبة تناقض الرغبة في عدم الكتابة.. الأن بينما أسرد هذا الشي يتأرجح من مكان في رأسي السؤال الأزلي عن الجدوى.. لكن الجدوى تكمن في اشباع الفراغ.. ثمّة خمود وتآكل.. وعدم القدرة على القيام بأي شي ربما يكمن في امتلاء الحكايات. الحكايات في الرأس تقتل ان لم تكتب.. مضحك أنني من يقول ذلك! مضحك شكلي الأن وأنا أكتب.. أحسّني كمن أقتيد بالسلاسل الى حيث يجب أن يقعد للكتابة. أحسّ بتلك العيون تقرأ كل كلمة أكتبها.. أحسّ بكل هذه العقول تفسّر الأشياء حسب فهمها لها.. ولمّا يحدث ذلك.. لمّا أفكّر بهذا الكمّ من العيون والعقول، تثقل أصابعي.. وأقنع نفسي أن هذا النص ليس للنشر، وأقنع نفسي أنني أكتب فقط بسبب حالة خمود أعيشها لا أكثر.. لا أعرف ما أريد كتابته حقيقة.. لا أقصد هذا الشي الذي أكتبه الأن.. ولكن الكتابة بشكل عام.. هذا الشي وغيره من الكتابات التي كتبتها من قبل وتلك التي ستكتب في وقت لاحق.. لا أدري.. الأن حاصل في عدم قدرتي على القيام بأي شي ما عدا العمل في ساعات النهار وما تبقى من الوقت أقضيه في القراءة والخربشة على الكراريس.. كهذا الكرّاس. وكلما خلدت للنوم تأرجح رأسي بين فكرتين: الأولى مفادها أن الحياة أقصر من أن تضيع في الكتابة.. والثانية أنّ الأولى مفادها يثير فيّ الغثيان.. المضحك في الموضوع أو ما أجده شخصيا مضحكا هو أنه لمّا أقتادُ عنوة للكتابة فإنني لا أجد مشكلة في افرازها ووضعها.. الكلمات تتبعثر كحبّات أرز والحروف تلتصق على رؤوس أصابعي كلما تكتكت على الكيبورد.. تنمو الفطريات فوق رأسي.. وثمّة شيء لم أعرف له اصلا ولا فصل يجعلني أنتفض بعيدا عن الورق لحظة الذروة أو ما أخالها كذلك.. ممكن أن يكون للأمر علاقة بالفن الزائل أو الثقب المحفور في السماء أو على الأغلب شيء ما له علاقة بعادة صاحبتني منذ القدم.. لمّا أقتاد للكتابة وأصيد الجملة الأولى أقشرها حتى أصل بها الى الكلمة الأولى ومن ثم أظل أرددها حتى تتجرد بالكامل من معناها وتسبح حروفها كل منها على حدة في فضاء عارم.. الكلمة بتكرارها حتى تفقد معناها وتحولها الى صوت مجرد في الأصل يُفقِدُ الاتّزان ومن يعرفني يعرف شغفي بفقدان الاتّزان.. يدي تنجرف وتتفاقم الكلمات وتنحشر فوق بعضها حتى أنسى أن أقلب الصفحة وأن ثمة صفحة أخرى فارغة تلي هذه.. وعندما أستدرك وجود تلك الصفحة الأخرى لا أعود الى سابقتها.. هكذا هي الكتابة.. العديد من الأوراق التي كتبت عليها صارت أكواما مجعّدة بين حاجياتي.. بامكاني حتى اليوم العثور عليها في أي مكان حللت فيه.. حتى في بيوت الأصدقاء.. لاحظت في مرة أجزاء منها صارت فتات عالق على ملابسي بعد غسلها ونشرها على الحبل.. جزء أخر صار مراكب لفرك الحشيش وخلطه بالتبغ.. الجزء الأكبر صار رمادا. ألم أقل أنني لا أريد لهذا الشيء أن يكتب! اظن بأنّي بتّ افهم الأن كل هذا الكم من المشاعر.. فهم الكاتب لنفسه من خلال الكتابة امر حقيقي.. لكن لمّا يتعلق بالقارئ يظل نسبيا.. أنا افهم ما اقوله الان رغم شكّي في ذلك.. لا وجود لفهم واحد.. ربما لهذا لمّا يُنشر نص يتخلّص بالكامل من عتاق كاتبه.. هل الفكرة واضحة بما فيه الكفاية؟ لا يهم.. وعلى اي حال.. تفهم البشر الأشياء بأبعاد متفاوتة.. اظن بأنني وصلت الى فهم شبيه بذلك سابقا حين كنت تحت تأثير مهلوس ما.. لا يوجد اختلاف بين الكتابة والمهلوسات.. كلا الامرين في الأخر رؤية في معنى الخيال.. علاقتي بالخَرمة مرتبطة بفلاشباكات حياة اخرى اعيشها.. امشي مرتحلا وأعيش اللحظة كأنني خارجها.. كقارئ ممكن او كسارد.. تذوب المدينة امامي وتأخذ ابعادا مادية اخرى لا يراها احد غيري، وتأخذني بعيدا داخل ميتافيزيقا التفاصيل الصغيرة.. بدت لي الحياة رواية عظيمة لأنني غير قادر على الجزم بحركة خيوطها.. وقد تعرفت على المهلوسات قادما اليها من تجربة اخذت  افكاري الى مستوى اخر.. ونيّتي ان اعيش كل هذه الافكار عوض الكتابة عنها.. انغمست لسنوات أصنع فيها شخصية سردية يتغير اسمها في معظم مراحل تطورها وقد بدت لي الشخصية في مرحلة ما غامضة جدا ولا اعرف عنها شيئا سوى صورا مدغدشة وحكايات مختلفة في مدن عائمة لها ابعاد مستديرة.. وحين ايقنت في اخر الامر بأنني لم اكن لأستطع ان اخلق هذه الشخصية الا اذا عشتها بت وبوعي كامل اركز على تصرفاتي.. طريقة تعامل الناس مع بعضها ومعي.. اعيش احداثا لم ارى نفسي فيها يوما.. الكثير من الصمت.. شهور طويلة في الغابة.. التأمل في كل جملة يتفوه بها احدهم وكل حركة جسد مصاحبة لها.. هل تنادي العصافير بعضها ام انها عركة؟ سرب طويل من الاشجار.. غرف الاستجمام في الحفلات الصاخبة.. الخيم الملونة المعلقة.. الاحذية الغارقة في الوحل.. الجري على السكّة.. التوهان في غابة من كابلات الكهرباء.. الغوص في المستنقعات.. تحوّلات السحب وامتداد السماء.. ثمّ نسيت الشخصية المتخيلة واحسست في الوقت نفسه بأن هنالك خطأ ما في هذا الكون ينعكس علي. ثغرة، او ثقب.. وكان علي اما ان اتخلص منه او اتكيف معه.. الاشياء التي لم تكن منطقية بدأت بالتدريج تصير منطقية.. الامور المنطقية صارت غير منطقية، ثم اللامنطقية والمنطقية صارت لا منطقية ومن بعدها تحول اللا منطق بمجمله الى منطق.. وتيقنت ان بشاعة اليوم ليس سوى تسلسل ماعتبرته يوما الزمن الجميل وان هذا الزمن لم يوجود في الواقع كي احن اليه.. لكن هذا ليس المغزى من الموضوع.. ما هو المغزى من الموضوع؟ أريد قول شيء ما.. أريد أن أحكي.. أن أسرد.. وأن أعيش.. عالقٌ في الكتابة.. وهذا النص مثال حيّ عن كل ما قلته أعلاه.. أكتب مدركا أنها خربشة.. أنّ مصيرها النسيان.. ولن تفوت هذه الصفحات القليلة المتبقية.. لهذا أمضي وأرفس وأعجن بلا هوادة ولا حسين الشرنقة ولا عبدالعظيم العودة.. أو علّني أعود.. لسنوات أكتب وأكتب دون أن أعود.. نصوص لا مقدمة لها ولا مؤخرة.. تسجيل لحظة.. واقعة.. أو هلوسة.. خربشات لتزجية الوقت وتفصيل لحظة مربكة.. أوراق لو كانت معي الأن.. هنا.. هكذا.. أراقبها بطرف عيني.. وأتساءل الى متى؟ السؤال الذي حيّر الملايين من خلايا رأسي.. والسؤال الذي قد يُنهي كل شي.. تأتي الخاتمة الكلاسيكية شاطبةً خطّا تحت كل هذا.. وغدا.. أو بعد ساعة.. سأعود لتدوين شيء جديد: موضوع بحث أو مشهد أو سؤال.. سأتفادى، بالطبع، قراءة ما كتبته أعلاه.


2015


تعليقات

‏قال Roya
قراءة التدوينة فيه شيء من الحزن، حتى لو خمنت من التاريخ في نهاية التدوينة انها كتبت من 2015 في مذكرة ما، ولا ادري أن كنت قد تجاوزت تلك المرحلة بس اتمنى أن تواصل الكِتابة حتى وان كان شعور اللا جدوى مازال مسيطر لأنه بتأكيد كل ما تكتبه له قيمة حتى وأن كانت محصورة على الورق في الوقت الحالي. واصل الكِتابة ولا تجعل الافكار تمر بدون أن تمسك بها.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

موت محمد

معمّر مات