وحش الفاك يو
لا يعتبر ريكي نفسه عنصرياً. بالطبع، أنتم تعرفون معنى مصطلح العنصرية، وبطبيعة الحال، سنضعها في قاموسنا الدماغي تحت خانة الشر أو المصطلحات العيبية كما يحدث في الجملة التي تلي جملة وضعت فيها هذه الكلمة في وسائل الميديا. ريكي لم يكن يعتبر نفسه عنصرياً، وما يدفعنا للجزم بذلك، أنه مثلي ومثلك ومثل الكثيرين أيضاً، حين يقرأ هذا المصطلح أو يسمعه، يسارع بوضعه مباشرة تحت خانة الشر والمصطلحات العيبية.
كذلك، فإنه لم يصوّت يوماً لأي من الأحزاب اليمينية. إنه لا يؤمن بالانتخابات كأداة للدلو بصوته في بلد يتغير فيه رئيس الوزراء مرة كل بضع سنين. أما العنصرية، فبالنسبة له أمر مجهول يؤمن به قوم من التافهين والفاشيين. إنه لا يمانع شراء الحليب في الصباح وعلبة سجائره من محل مجاور يديره إخوة من ذوي البشرات الداكنة. كنت سأقول بأنه يشتري جريدته الصباحية من هنالك أيضاً، لكنني تذكرت بأن تعرفي على ريكي وقربي له في مرحلة ما كان بسبب مشاركتنا الرأي في أن متابعة الميديا، شراء الجرائد ومطالعة المواقع الإخبارية، هو مساهمة في بقاء هذا الكائن الذي يعيش جراء الحروب والمتغير دائماً حسب المال ومركز القوة ومصالح الممول وعواطف رئيس التحرير. ريكي، حين رأى مرة مسيرة مناهضة للوجود الأجنبي في وسط المدينة، أشعل سيجارة وقال لمتسول وقف بجانبه لشرب الشاي إن هؤلاء كلهم حمقى… المتسول نظر باستخفاف لهذا الكائن العبثي جنبه وقال إن لهؤلاء الحق أيضاً في التعبير عن غضبهم من أجانب جاءوا وسرقوا منهم وظائفهم. قالها المتسول وانتظر ردة فعل ريكي. ريكي هنا رمى بسيجارته ودعس عليها بحذائه ثم قال: ليفعلوا ذلك بأسلحة حقيقية ويسحلوا هؤلاء الأجانب من وظائفهم إلى المطار أو البحر، ثم مضى مبتعدا. هذا هو ريكي إذن، لكنه لم يكن ليخرج ماسكاً سلاحاً حقيقياً لطرد العمال في المحل المجاور لبيته. ربما إذا أتى له أحد الإخوة في المحل المجاور لبيته مرتعشاً بعد أن حرق الناس محله وسحلوا اخوته خارجه بسبب لونهم، فإنه سيستقبله في البيت ويعتني به. سيخاطر بحياته ويسكنه في العلية إذا حدث وانتصر “الفاشيون” حسب صحف المعارضة أو “الثوار” في الصحف المؤيدة. من المتوجب حماية هذا الإنسان المسكين المعرض للقتل أو التعذيب فقط بسبب لونه، ولكن لا يجب محاسبة الفاعل لأن نظرته لما يحدث مختلفة عن الآخر. هذه لا تسمى عنصرية، هذا واقع مفروض لأن العالم وصل مرحلة الانهيار وكل هذه السنين التي نعيشها ما هي إلا لاستعباد الفرد من أجل الوقوف طيلة حياته ماسكاً عواميد تثبّت سقف بيت منهار. هل فهمتم ما يحاول ريكي أن يرمي إليه بأفكاره تلك؟ حين جرّب مرة ورفع رأسه ليرى السقف الذي قارب على الانهيار أحس بألم في رقبته. كان ينظر أمامه مباشرة طيلة ثماني وثلاثين سنة من عمره، وتطلّب الأمر شهورا ًعديدة أو ربما سنوات حتى صار قادراً على رفع رأسه للأعلى واكتشاف أن لا وجود لسقف قابل للانهيار. إن الذين يصيحون عليهم من الأعلى للتشبث بالعمود لم يكونوا هناك.
قال ذلك لأصدقائه المتحلقين حول العمود فقالوا له أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟ قال جئتكم بالبينات ثم اتخذتم العمود من بعدي وأنتم ظالمون. ثم أدار ظهره وذهب ومن خلفه ناداه قومه ساخرين ومتحسرين.
جلس في بيته وشرب علبة من البيرة وأحس أنها أول مرة يشرب فيها البيرة براحة تامة. رمى التلفاز خارجاً وصار يسمح لرجال الإذاعة الوطنية بالدخول إلى بيته والتأكد بأنه لا يملك تلفازاً كي لا تتم محاسبته لعدم دفع رسوم رخصة التلفاز. كانت تلك أول مرة يكتشف فيها ريكي سخافة الفكرة، سخافة قنوات الاذاعة الوطنية ورخصة التلفاز وكل شيء حوله. بعض الكتب التي احتلت جزءاً من الصالون وضعها امام باب البيت في صناديق وألصق على الجدار فوقها إشارة تطلب من الناس أخذ ما يعجبهم منها، مضيفاً في السطر الثاني إنه رغم ذلك لا ينصح احداً بقراءتها حتى يأتي رجال النظافة ويأخذوها في حاويات سياراتهم مع باقي النفايات. حين كتب رجال النظافة تساءل لم لا يوجد نساء نظافة في بلد تتساوى فيه المرأة مع الرجل. اختفت الكتب في مساء اليوم نفسه، واكتشف بأن الإشارة التي كتبها كانت اعلاناً ممتازاً للكتب. تجمّع الجيران حول بيته يومها وباتوا يضحكون لدى قراءة ورقة الإشارة ويأخذون الكتب دون النظر إلى عناوينها حتى أن بعض الجيران قاموا بمنشن له في مواقع التواصل الاجتماعي مرفقة بالصورة وابتسامة خفيفة والعديد من اللوووول في التعليقات المدرجة تحتها، فخلد إلى سريره تلك الليلة وهو يفكر في أمرين اثنين: الإعلانات ومواقع التواصل الاجتماعي. من بعدها لم يعد له حساب في أي منها، وكف عن شراء أي غرض لمحه في إعلانات قطار الأنفاق او اليافطات في الطريق السريع ومدخل المحلات التجارية. العديد من المواقف المشابهة حدثت بعد ذلك في عديد من المسائل الحياتية، جعلت من ريكي يقلع عنها، أو يتخذ تجاهها موقفاً تُبنى عليه حياة جديدة. حين يخرج من فراشه كل صباح، كان يحس بجسده خفيفاً، وحين يعود إليه ليلاً يحس برأسه ثقيلاً. لكن لا أحد يعاف منه أو يخافه. لقد أحس بأنه كان في السابق كائناً مكتئباً، ووقف عند مصطلح مكتئباً لبعض الوقت قبيل أن يقول بأنه في الواقع لم يكن مكتئباً، بل درامياً وتراجيدياً كأي شخص آخر. الشخص بسبب ملله من الوقوف ماسكاً العمود سيلعب دوماً دور الضحية، أو كلما تسنى له ذلك على الأقل، لأن مسك العمود أمر ممل حقاً. لكنه مؤخراً، بات أكثر قرباً للناس. بات يراسل معظم أصدقائه بشكل دوري، يملأ الرسائل بالكثير من الابتسامات والجمل التفاؤلية، وكذلك يحرص على رفع معنوياتهم. إنه لا يفكر أثناء كتابة الرسالة، بل يكون مبتهجاً إلى أقصى حد ولو كان وقتها في أكثر المراحل التفكيرية كآبة. تلك المرحلة التي يمتد فيها عقله حتى يلامس العدم وماوراءه، الماجدوى، ومئات الأسئلة والتساؤلات. يفكر ريكي في أن ذلك يخفّف عنه الشعور الدائم بالذنب تجاه الآخرين ولو كانوا مَنْيَكين، كما أنها لعبة ذات تقنية عالية للتخفيف من الحصار العقلي. لقد اكتشف ريكي أن الشخص يحس بما يريد أن يحس به، وأنه في مقدور الإنسان أن يتحكم في عقله إن أراد ذلك، رغم أن المفعول لن يدوم أكثر من ساعات قليلة أو يومين في بعض المرات النادرة، وكلما انتهى المفعول يقوم بتمرينات أخرى تعيد له روح التفاؤل… وحين يتعب من هذه التمرينات يظل بعيداً عن الأصدقاء، لا يخاطبهم أو يحدثهم إلا عن طريق الرسائل النصية والإيميلات، المليئة طبعاً بالابتسامات ورفع المعنويات. لريكي معنويات مرتفعة حقاً، والكثير من أصدقائه أو زملائه في البار حيث يشتغل يشيدون بروحه النقية والمرحة. في كل مرة يبتسم لهم، وصوت ما في داخله يقول فاك يو اول. يسمع هذا الصوت داخله ولكن يطمسه على الفور قائلاً في نفسه أن سماع إطراء كهذا تجاهه أفضل مليون مرة من أحد يسبه، لهذا يبتسم بدوره ويعانق محدثه قائلاً إن الناس الطيبين من أمثالك هم من يجعلون لي هذه الروح النقية، ويستمر ذاك الصوت الذي يقول فاك يو فاك يو في داخله ولكن ريكي لا يسمعه. حقيقة لا يسمعه. وحين اشتد عليه الغضب مرة في العمل بسبب الازدحام وسوء الإدارة أحس بأن صوت الفاك يو المكتوم في داخله سينفجر في أي لحظة. سيتمزق جسده وتخرج منه خفافيش الفاك يو وتهاجم الزبائن وزملاء عمله وربما تنهش المدير وتلقي به من نافذة البار إلى الشارع الرئيسي المكتظ بالسيارات. إن وحش الفاك يو العظيم سيتسلق مبنى البار إلى الأعلى ويقف على حافته معلناً حالة الفزع والرعب في المدينة. سينهار كل شيء فجأة ولن يقدر رجال الشرطة العاديين في الشوارع على إمساكه. سيخرج الجيش إلى وسط المدينة. طائرات الهيلكبتور تطير على مسافة قريبة من الأرض باحثة عنه أعلى البنايات وفي الغابات ومكبات النفايات. الميديا بالطبع ستكون حاضرة، وعواطف الممول أو رئيس التحرير ستكون جياشة جداً خوفاً على مدينته المنكوبة. سيصرخ أحدهم من الأعلى على الذين يمسكون العمود قائلاً إنهم الآن في حاجة إلى مزيد من القوة حتى لا يقع العمود وينهار السقف. الذين يمسكون العمود سيسارعون للتشبث أكثر به وهم يبكون ولا يدرون. حتى الإخوة في المحل المجاور سيشترون أعداداً مضاعفة من صحف الصباح التي على صفحتها الأولى صورته وهو متحول بالكامل وتخرج من فمه خفافيش الفاك يو.
إلى أين ستذهب إذن يا ريكي؟ العالم صغير جداً، كيف استطاع المرء أن يحصر عالماً ضخماً كهذا، وما الجدوى من كل هذا؟
لا يعلم ريكي ولا يجد أجوبة للسؤال. لقد انتشلته الأرض وابتلعته ورأى نفسه قبيل رفعه لرأسه كي يرى السقف، وفكر إن لا بأس في أن يظل المرء جاهلاً، ومن ثم تدارك الأمر وتساءل إن كان هو حقاً الآن على دراية وكيف باستطاعته أن يجزم بذلك. ربما يكون أو لا يكون، وربما الشرطة والميديا وإخوة المحل المجاور كانوا على دراية. بالطبع دراية على دراية تختلف، وما يميز الشخص عن باقي الشخوص انه مختلف؟ ولكن من المختلف؟ ماذا عن الاعلانات والميديا والذين كذبوا علينا بحجة السقف القابل للانهيار؟ كانت الاسئلة تلف به، والارض تبلعه الى اسفلها، ولم يكن يهتم للوقوع، لأنه سيظل في الهواء هابطاً إلى تحت ويعرف أن لا وجود لهاوية، أن سقوطه هذا وسرعته وقربه للنهاية ما هو في الاصل بنهاية. إنه LOOP طويل كأي أمر آخر في هذه الحياة. حين فتح عينيه، كان الليل كاحلاً، وجسده غارقاً في الطين والماء. لم يعرف أين هو الآن بالضبط. الأشجار حوله كثيفة، والمطر يصب بغزارة. ملابسه ممزقة والألم في ذراعيه وساقيه. نظر حوله باحثاً عن شيء ما وقع منه. لم يعثر على موبايله في جيبه، وفكر في أنه منذ زمن أراد التخلص من الموبايل ولكن عمله بالبار كان الرادع لذلك. مشى بضع خطوات وصوت الرعد يهز رأسه. وجد خيمة ملونة تحت إحدى الأشجار الكثيفة فراح اليها وتفحصها من الخارج. صاح إن كان هنالك أحد.
كنت وقتها داخل الخيمة أحاول جاهداً النوم بعد أن قضيت اليوم كله في التفكير حول أشياء لن يبدو سردها هنا منطقياً. جاء صوت ريكي فأحسست بالرعب في أول الأمر. لم يكن هذا صوت مارسيليو او سمانثا اللذين يقطنان في خيمة لا تبعد كثيراً عن خيمتي. شلت الغطاء من على جسدي. مسكت المصباح، أشعلت ضوءه وفتحت أزرار الخيمة. بان أمامي ريكي مبلولاً، يرتجف وعيناه ذابلتان. خفت أن أدعوه للدخول أول الأمر. مضى على بقائي في هذه الغابة عشرون يوماً لم أر فيها احداً سوى صديقي، لكن لغرابة الموقف دعوته للدخول بعد أن طلبت منه خلع كل ملابسه في الخارج ووضعها في كيس مددته له. حين قام بذلك وجلس في الخيمة ذات السقف المنخفض جداً أعطيته بوكسر داخلي وضيفته بعض الباسكويت وعصير برتقال. اعتذرت منه عن عدم قدرتي على تحضير الشاي له أو أي شيء ساخن بسبب المطر الذي بلّ كل الحطب الذي جمعته ظهيرة اليوم. قابل اعتذاري باعتذار مماثل بسبب دخوله علي الخيمة في هذا الوقت المتأخر وهذا المظهر الغير لائق. ما معنى لائق؟ قلت له بشيء من السخرية. ابتسم لي وقال، صحيح، ما معنى لائق؟ لم نقل شيئاً بعد ذلك. حين توقف المطر أعد نفسه للخروج دون الاكتراث بأنه لا يرتدي شيئا سوى البوكسر. لم أكن قد ارتحت له بعد ولكن لم يكن من اللائق أن أجعله يخرج بهذا الشكل، ثم تساءلت بسخرية في داخلي عن معنى لائق، ومن ثم طلبت منه البقاء. قال بأن الخيمة صغيرة ولن تسعنا كلينا، أفسحت بعض المجال وقلت له بأنها الآن تسعنا كلينا. لم أنم ليلتها. في أول دقائق الصباح حين سمعت بضعة عصافير تزقزق، وحين صعدت الشمس السماء، خرجت من الخيمة واكتفيت بارتداء السروال، بينما ظليت عارياً من فوق تاركاً قميصي بالقرب من رأس ريكي كي يرتديه عوض الخروج من الخيمة عاريا بالكامل. لم يكن للأمر أي علاقة بلياقة ما. وضعت على كتفي حبلاً وفي جيبي سكيناً. مشيت حافياً إلى الجزء الآخر من الغابة، حيث اكتشفت البارحة وجود منخفض في أسفله العديد من الأشجار والتي جزمت بأنه من الصعب أن تصلها مياه أمطار الليل. كانت مهمة شاقة جداً بسبب الأشجار ذات الأشواك المسننة. قطعت عدداً لا بأس به من الأغصان الجافة ولفيت الحبل حولها ووضعتها على كتفي كحقيبة. مشيت على مهل لأن اليوم دور مارسيليو للذهاب إلى السوبر ماركت في القرية القريبة لشراء الطعام والحاجيات. جلست عند البركة الصغيرة ودخنت بافرا على مهل، ثم ركبتني بارانويا أن ريكي لم يكن نائما طوال الليل وينتظر خروجي من الخيمة لسرقة حاجياتي والاختفاء. جريت عائداً وأنا أسحب آخر أنفاس من البافرا، وفي منتصف الطريق تمهلت قليلاً حين فكرت بأن لا شيء في الخيمة سوى الفراش وبعض الباسكويت والشاي وجهاز موبايل النوكيا ٣٣١٠. عدت إلى البركة وأشعلت بافرا أخرى على مهل، وركبتني البارانويا مجددا أن هذا الشخص قد يكون شرطياً سرياً أو شخصاً عادياً لا يعرف جوي والأصحاب في الغابة، وقد يدل الشرطة على مكاننا ونخسر كل ما بنيناه هنا طيلة العشرين يوماً الماضية. لكنني لم أسرع خطاي هذه المرة، بل أكملت البافرا على مهل وأشعلت أخرى، وذهبت عائداً قائلاً في نفسي WHAT’S THE POINT؟ كان ريكي لا يزال نائماً، وصحا من نومه لاحقاً على وقع صوت الأغصان وهي تحترق. حكيت لمارسيليو وسمانثا بعد أن عادا من القرية عن ريكي ولم يبديا أي أهمية للموضوع. حين استيقظ ريكي وخرج من الخيمة وجلس جنبنا، سلم علينا وقال إن اسمه ريكي، قلت له بأنني علّقت ملابسه على الشجرة هناك في مواجهة الشمس، وإن في مقدوره أن يرتدي قميصي الذي تركته قرب رأسه. ابتسم وهز رأسه دون أن ينبس بكلمة. صبّت سمانثا الشاي في علب الفاصوليا الفارغة ووزعتها علينا، وقام مارسيليو بتوزيع الخبز. أكلنا وشربنا على مهل. حدثنا ريكي عن طرده البارحة من العمل وعدم رغبته في الذهاب إلى البيت وإنه ظل يمشي حزيناً طيلة الوقت حتى وصل الغابة. حكى كثيراً عن كل ما أخبرتكم إياه أعلاه رغم أنني غيرت صياغته كي يصير أكثر تسلية حسب زعمي. بدا ضعيفاً في لحظتها، ولكن كان ذلك النوع من الضعف الذي لا يحمل فيه أي نوع من التراجيديا أو لعب دور الضحية، بل كان لشخص يفكر بصوت عال أكثر من كونه يحكي لأناس التقى بهم للتو.
إنها مسألة معقدة. حين أفكر فيها، فإنني عادة لا أجدها في رأسي جسداً مكتملاً، بل قطعاً متناثرة تجعل من حكيها في الأصل ضرباً من العبث، أو عبثاً من الضرب. لقد مرت بضعة أشهر منذ أن التقيت بريكي أول مرة. سمعت من مارسيليو إنه يعيش الان في ذات الـ SQUAT الذي يعيش فيه غرب المدينة. يبيع الحشيش المغربي وحبوب الإكستاسي في حفلات الـ RAVE. وحش الفاك يو لا يزال يناوبه من وقت اإى آخر، لكنه لم يعد مكترثاً بالذين تركهم متشبثين بالعواميد.
لا يعتبر ريكي نفسه عنصرياً. بالطبع، أنتم تعرفون معنى مصطلح العنصرية، وبطبيعة الحال، سنضعها في قاموسنا الدماغي تحت خانة الشر أو المصطلحات العيبية كما يحدث في الجملة التي تلي جملة وضعت فيها هذه الكلمة في وسائل الميديا. ريكي لم يكن يعتبر نفسه عنصرياً، وما يدفعنا للجزم بذلك، أنه مثلي ومثلك ومثل الكثيرين أيضاً، حين يقرأ هذا المصطلح أو يسمعه، يسارع بوضعه مباشرة تحت خانة الشر والمصطلحات العيبية.
كذلك، فإنه لم يصوّت يوماً لأي من الأحزاب اليمينية. إنه لا يؤمن بالانتخابات كأداة للدلو بصوته في بلد يتغير فيه رئيس الوزراء مرة كل بضع سنين. أما العنصرية، فبالنسبة له أمر مجهول يؤمن به قوم من التافهين والفاشيين. إنه لا يمانع شراء الحليب في الصباح وعلبة سجائره من محل مجاور يديره إخوة من ذوي البشرات الداكنة. كنت سأقول بأنه يشتري جريدته الصباحية من هنالك أيضاً، لكنني تذكرت بأن تعرفي على ريكي وقربي له في مرحلة ما كان بسبب مشاركتنا الرأي في أن متابعة الميديا، شراء الجرائد ومطالعة المواقع الإخبارية، هو مساهمة في بقاء هذا الكائن الذي يعيش جراء الحروب والمتغير دائماً حسب المال ومركز القوة ومصالح الممول وعواطف رئيس التحرير. ريكي، حين رأى مرة مسيرة مناهضة للوجود الأجنبي في وسط المدينة، أشعل سيجارة وقال لمتسول وقف بجانبه لشرب الشاي إن هؤلاء كلهم حمقى… المتسول نظر باستخفاف لهذا الكائن العبثي جنبه وقال إن لهؤلاء الحق أيضاً في التعبير عن غضبهم من أجانب جاءوا وسرقوا منهم وظائفهم. قالها المتسول وانتظر ردة فعل ريكي. ريكي هنا رمى بسيجارته ودعس عليها بحذائه ثم قال: ليفعلوا ذلك بأسلحة حقيقية ويسحلوا هؤلاء الأجانب من وظائفهم إلى المطار أو البحر، ثم مضى مبتعدا. هذا هو ريكي إذن، لكنه لم يكن ليخرج ماسكاً سلاحاً حقيقياً لطرد العمال في المحل المجاور لبيته. ربما إذا أتى له أحد الإخوة في المحل المجاور لبيته مرتعشاً بعد أن حرق الناس محله وسحلوا اخوته خارجه بسبب لونهم، فإنه سيستقبله في البيت ويعتني به. سيخاطر بحياته ويسكنه في العلية إذا حدث وانتصر “الفاشيون” حسب صحف المعارضة أو “الثوار” في الصحف المؤيدة. من المتوجب حماية هذا الإنسان المسكين المعرض للقتل أو التعذيب فقط بسبب لونه، ولكن لا يجب محاسبة الفاعل لأن نظرته لما يحدث مختلفة عن الآخر. هذه لا تسمى عنصرية، هذا واقع مفروض لأن العالم وصل مرحلة الانهيار وكل هذه السنين التي نعيشها ما هي إلا لاستعباد الفرد من أجل الوقوف طيلة حياته ماسكاً عواميد تثبّت سقف بيت منهار. هل فهمتم ما يحاول ريكي أن يرمي إليه بأفكاره تلك؟ حين جرّب مرة ورفع رأسه ليرى السقف الذي قارب على الانهيار أحس بألم في رقبته. كان ينظر أمامه مباشرة طيلة ثماني وثلاثين سنة من عمره، وتطلّب الأمر شهورا ًعديدة أو ربما سنوات حتى صار قادراً على رفع رأسه للأعلى واكتشاف أن لا وجود لسقف قابل للانهيار. إن الذين يصيحون عليهم من الأعلى للتشبث بالعمود لم يكونوا هناك.
قال ذلك لأصدقائه المتحلقين حول العمود فقالوا له أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟ قال جئتكم بالبينات ثم اتخذتم العمود من بعدي وأنتم ظالمون. ثم أدار ظهره وذهب ومن خلفه ناداه قومه ساخرين ومتحسرين.
جلس في بيته وشرب علبة من البيرة وأحس أنها أول مرة يشرب فيها البيرة براحة تامة. رمى التلفاز خارجاً وصار يسمح لرجال الإذاعة الوطنية بالدخول إلى بيته والتأكد بأنه لا يملك تلفازاً كي لا تتم محاسبته لعدم دفع رسوم رخصة التلفاز. كانت تلك أول مرة يكتشف فيها ريكي سخافة الفكرة، سخافة قنوات الاذاعة الوطنية ورخصة التلفاز وكل شيء حوله. بعض الكتب التي احتلت جزءاً من الصالون وضعها امام باب البيت في صناديق وألصق على الجدار فوقها إشارة تطلب من الناس أخذ ما يعجبهم منها، مضيفاً في السطر الثاني إنه رغم ذلك لا ينصح احداً بقراءتها حتى يأتي رجال النظافة ويأخذوها في حاويات سياراتهم مع باقي النفايات. حين كتب رجال النظافة تساءل لم لا يوجد نساء نظافة في بلد تتساوى فيه المرأة مع الرجل. اختفت الكتب في مساء اليوم نفسه، واكتشف بأن الإشارة التي كتبها كانت اعلاناً ممتازاً للكتب. تجمّع الجيران حول بيته يومها وباتوا يضحكون لدى قراءة ورقة الإشارة ويأخذون الكتب دون النظر إلى عناوينها حتى أن بعض الجيران قاموا بمنشن له في مواقع التواصل الاجتماعي مرفقة بالصورة وابتسامة خفيفة والعديد من اللوووول في التعليقات المدرجة تحتها، فخلد إلى سريره تلك الليلة وهو يفكر في أمرين اثنين: الإعلانات ومواقع التواصل الاجتماعي. من بعدها لم يعد له حساب في أي منها، وكف عن شراء أي غرض لمحه في إعلانات قطار الأنفاق او اليافطات في الطريق السريع ومدخل المحلات التجارية. العديد من المواقف المشابهة حدثت بعد ذلك في عديد من المسائل الحياتية، جعلت من ريكي يقلع عنها، أو يتخذ تجاهها موقفاً تُبنى عليه حياة جديدة. حين يخرج من فراشه كل صباح، كان يحس بجسده خفيفاً، وحين يعود إليه ليلاً يحس برأسه ثقيلاً. لكن لا أحد يعاف منه أو يخافه. لقد أحس بأنه كان في السابق كائناً مكتئباً، ووقف عند مصطلح مكتئباً لبعض الوقت قبيل أن يقول بأنه في الواقع لم يكن مكتئباً، بل درامياً وتراجيدياً كأي شخص آخر. الشخص بسبب ملله من الوقوف ماسكاً العمود سيلعب دوماً دور الضحية، أو كلما تسنى له ذلك على الأقل، لأن مسك العمود أمر ممل حقاً. لكنه مؤخراً، بات أكثر قرباً للناس. بات يراسل معظم أصدقائه بشكل دوري، يملأ الرسائل بالكثير من الابتسامات والجمل التفاؤلية، وكذلك يحرص على رفع معنوياتهم. إنه لا يفكر أثناء كتابة الرسالة، بل يكون مبتهجاً إلى أقصى حد ولو كان وقتها في أكثر المراحل التفكيرية كآبة. تلك المرحلة التي يمتد فيها عقله حتى يلامس العدم وماوراءه، الماجدوى، ومئات الأسئلة والتساؤلات. يفكر ريكي في أن ذلك يخفّف عنه الشعور الدائم بالذنب تجاه الآخرين ولو كانوا مَنْيَكين، كما أنها لعبة ذات تقنية عالية للتخفيف من الحصار العقلي. لقد اكتشف ريكي أن الشخص يحس بما يريد أن يحس به، وأنه في مقدور الإنسان أن يتحكم في عقله إن أراد ذلك، رغم أن المفعول لن يدوم أكثر من ساعات قليلة أو يومين في بعض المرات النادرة، وكلما انتهى المفعول يقوم بتمرينات أخرى تعيد له روح التفاؤل… وحين يتعب من هذه التمرينات يظل بعيداً عن الأصدقاء، لا يخاطبهم أو يحدثهم إلا عن طريق الرسائل النصية والإيميلات، المليئة طبعاً بالابتسامات ورفع المعنويات. لريكي معنويات مرتفعة حقاً، والكثير من أصدقائه أو زملائه في البار حيث يشتغل يشيدون بروحه النقية والمرحة. في كل مرة يبتسم لهم، وصوت ما في داخله يقول فاك يو اول. يسمع هذا الصوت داخله ولكن يطمسه على الفور قائلاً في نفسه أن سماع إطراء كهذا تجاهه أفضل مليون مرة من أحد يسبه، لهذا يبتسم بدوره ويعانق محدثه قائلاً إن الناس الطيبين من أمثالك هم من يجعلون لي هذه الروح النقية، ويستمر ذاك الصوت الذي يقول فاك يو فاك يو في داخله ولكن ريكي لا يسمعه. حقيقة لا يسمعه. وحين اشتد عليه الغضب مرة في العمل بسبب الازدحام وسوء الإدارة أحس بأن صوت الفاك يو المكتوم في داخله سينفجر في أي لحظة. سيتمزق جسده وتخرج منه خفافيش الفاك يو وتهاجم الزبائن وزملاء عمله وربما تنهش المدير وتلقي به من نافذة البار إلى الشارع الرئيسي المكتظ بالسيارات. إن وحش الفاك يو العظيم سيتسلق مبنى البار إلى الأعلى ويقف على حافته معلناً حالة الفزع والرعب في المدينة. سينهار كل شيء فجأة ولن يقدر رجال الشرطة العاديين في الشوارع على إمساكه. سيخرج الجيش إلى وسط المدينة. طائرات الهيلكبتور تطير على مسافة قريبة من الأرض باحثة عنه أعلى البنايات وفي الغابات ومكبات النفايات. الميديا بالطبع ستكون حاضرة، وعواطف الممول أو رئيس التحرير ستكون جياشة جداً خوفاً على مدينته المنكوبة. سيصرخ أحدهم من الأعلى على الذين يمسكون العمود قائلاً إنهم الآن في حاجة إلى مزيد من القوة حتى لا يقع العمود وينهار السقف. الذين يمسكون العمود سيسارعون للتشبث أكثر به وهم يبكون ولا يدرون. حتى الإخوة في المحل المجاور سيشترون أعداداً مضاعفة من صحف الصباح التي على صفحتها الأولى صورته وهو متحول بالكامل وتخرج من فمه خفافيش الفاك يو.
إلى أين ستذهب إذن يا ريكي؟ العالم صغير جداً، كيف استطاع المرء أن يحصر عالماً ضخماً كهذا، وما الجدوى من كل هذا؟
لا يعلم ريكي ولا يجد أجوبة للسؤال. لقد انتشلته الأرض وابتلعته ورأى نفسه قبيل رفعه لرأسه كي يرى السقف، وفكر إن لا بأس في أن يظل المرء جاهلاً، ومن ثم تدارك الأمر وتساءل إن كان هو حقاً الآن على دراية وكيف باستطاعته أن يجزم بذلك. ربما يكون أو لا يكون، وربما الشرطة والميديا وإخوة المحل المجاور كانوا على دراية. بالطبع دراية على دراية تختلف، وما يميز الشخص عن باقي الشخوص انه مختلف؟ ولكن من المختلف؟ ماذا عن الاعلانات والميديا والذين كذبوا علينا بحجة السقف القابل للانهيار؟ كانت الاسئلة تلف به، والارض تبلعه الى اسفلها، ولم يكن يهتم للوقوع، لأنه سيظل في الهواء هابطاً إلى تحت ويعرف أن لا وجود لهاوية، أن سقوطه هذا وسرعته وقربه للنهاية ما هو في الاصل بنهاية. إنه LOOP طويل كأي أمر آخر في هذه الحياة. حين فتح عينيه، كان الليل كاحلاً، وجسده غارقاً في الطين والماء. لم يعرف أين هو الآن بالضبط. الأشجار حوله كثيفة، والمطر يصب بغزارة. ملابسه ممزقة والألم في ذراعيه وساقيه. نظر حوله باحثاً عن شيء ما وقع منه. لم يعثر على موبايله في جيبه، وفكر في أنه منذ زمن أراد التخلص من الموبايل ولكن عمله بالبار كان الرادع لذلك. مشى بضع خطوات وصوت الرعد يهز رأسه. وجد خيمة ملونة تحت إحدى الأشجار الكثيفة فراح اليها وتفحصها من الخارج. صاح إن كان هنالك أحد.
كنت وقتها داخل الخيمة أحاول جاهداً النوم بعد أن قضيت اليوم كله في التفكير حول أشياء لن يبدو سردها هنا منطقياً. جاء صوت ريكي فأحسست بالرعب في أول الأمر. لم يكن هذا صوت مارسيليو او سمانثا اللذين يقطنان في خيمة لا تبعد كثيراً عن خيمتي. شلت الغطاء من على جسدي. مسكت المصباح، أشعلت ضوءه وفتحت أزرار الخيمة. بان أمامي ريكي مبلولاً، يرتجف وعيناه ذابلتان. خفت أن أدعوه للدخول أول الأمر. مضى على بقائي في هذه الغابة عشرون يوماً لم أر فيها احداً سوى صديقي، لكن لغرابة الموقف دعوته للدخول بعد أن طلبت منه خلع كل ملابسه في الخارج ووضعها في كيس مددته له. حين قام بذلك وجلس في الخيمة ذات السقف المنخفض جداً أعطيته بوكسر داخلي وضيفته بعض الباسكويت وعصير برتقال. اعتذرت منه عن عدم قدرتي على تحضير الشاي له أو أي شيء ساخن بسبب المطر الذي بلّ كل الحطب الذي جمعته ظهيرة اليوم. قابل اعتذاري باعتذار مماثل بسبب دخوله علي الخيمة في هذا الوقت المتأخر وهذا المظهر الغير لائق. ما معنى لائق؟ قلت له بشيء من السخرية. ابتسم لي وقال، صحيح، ما معنى لائق؟ لم نقل شيئاً بعد ذلك. حين توقف المطر أعد نفسه للخروج دون الاكتراث بأنه لا يرتدي شيئا سوى البوكسر. لم أكن قد ارتحت له بعد ولكن لم يكن من اللائق أن أجعله يخرج بهذا الشكل، ثم تساءلت بسخرية في داخلي عن معنى لائق، ومن ثم طلبت منه البقاء. قال بأن الخيمة صغيرة ولن تسعنا كلينا، أفسحت بعض المجال وقلت له بأنها الآن تسعنا كلينا. لم أنم ليلتها. في أول دقائق الصباح حين سمعت بضعة عصافير تزقزق، وحين صعدت الشمس السماء، خرجت من الخيمة واكتفيت بارتداء السروال، بينما ظليت عارياً من فوق تاركاً قميصي بالقرب من رأس ريكي كي يرتديه عوض الخروج من الخيمة عاريا بالكامل. لم يكن للأمر أي علاقة بلياقة ما. وضعت على كتفي حبلاً وفي جيبي سكيناً. مشيت حافياً إلى الجزء الآخر من الغابة، حيث اكتشفت البارحة وجود منخفض في أسفله العديد من الأشجار والتي جزمت بأنه من الصعب أن تصلها مياه أمطار الليل. كانت مهمة شاقة جداً بسبب الأشجار ذات الأشواك المسننة. قطعت عدداً لا بأس به من الأغصان الجافة ولفيت الحبل حولها ووضعتها على كتفي كحقيبة. مشيت على مهل لأن اليوم دور مارسيليو للذهاب إلى السوبر ماركت في القرية القريبة لشراء الطعام والحاجيات. جلست عند البركة الصغيرة ودخنت بافرا على مهل، ثم ركبتني بارانويا أن ريكي لم يكن نائما طوال الليل وينتظر خروجي من الخيمة لسرقة حاجياتي والاختفاء. جريت عائداً وأنا أسحب آخر أنفاس من البافرا، وفي منتصف الطريق تمهلت قليلاً حين فكرت بأن لا شيء في الخيمة سوى الفراش وبعض الباسكويت والشاي وجهاز موبايل النوكيا ٣٣١٠. عدت إلى البركة وأشعلت بافرا أخرى على مهل، وركبتني البارانويا مجددا أن هذا الشخص قد يكون شرطياً سرياً أو شخصاً عادياً لا يعرف جوي والأصحاب في الغابة، وقد يدل الشرطة على مكاننا ونخسر كل ما بنيناه هنا طيلة العشرين يوماً الماضية. لكنني لم أسرع خطاي هذه المرة، بل أكملت البافرا على مهل وأشعلت أخرى، وذهبت عائداً قائلاً في نفسي WHAT’S THE POINT؟ كان ريكي لا يزال نائماً، وصحا من نومه لاحقاً على وقع صوت الأغصان وهي تحترق. حكيت لمارسيليو وسمانثا بعد أن عادا من القرية عن ريكي ولم يبديا أي أهمية للموضوع. حين استيقظ ريكي وخرج من الخيمة وجلس جنبنا، سلم علينا وقال إن اسمه ريكي، قلت له بأنني علّقت ملابسه على الشجرة هناك في مواجهة الشمس، وإن في مقدوره أن يرتدي قميصي الذي تركته قرب رأسه. ابتسم وهز رأسه دون أن ينبس بكلمة. صبّت سمانثا الشاي في علب الفاصوليا الفارغة ووزعتها علينا، وقام مارسيليو بتوزيع الخبز. أكلنا وشربنا على مهل. حدثنا ريكي عن طرده البارحة من العمل وعدم رغبته في الذهاب إلى البيت وإنه ظل يمشي حزيناً طيلة الوقت حتى وصل الغابة. حكى كثيراً عن كل ما أخبرتكم إياه أعلاه رغم أنني غيرت صياغته كي يصير أكثر تسلية حسب زعمي. بدا ضعيفاً في لحظتها، ولكن كان ذلك النوع من الضعف الذي لا يحمل فيه أي نوع من التراجيديا أو لعب دور الضحية، بل كان لشخص يفكر بصوت عال أكثر من كونه يحكي لأناس التقى بهم للتو.
إنها مسألة معقدة. حين أفكر فيها، فإنني عادة لا أجدها في رأسي جسداً مكتملاً، بل قطعاً متناثرة تجعل من حكيها في الأصل ضرباً من العبث، أو عبثاً من الضرب. لقد مرت بضعة أشهر منذ أن التقيت بريكي أول مرة. سمعت من مارسيليو إنه يعيش الان في ذات الـ SQUAT الذي يعيش فيه غرب المدينة. يبيع الحشيش المغربي وحبوب الإكستاسي في حفلات الـ RAVE. وحش الفاك يو لا يزال يناوبه من وقت اإى آخر، لكنه لم يعد مكترثاً بالذين تركهم متشبثين بالعواميد.
تعليقات