سينما الزهراء


طرابلس - يوليو 2010:

لوحة الفنان: عبدالعزيز الغرابلي
هناكَ عبث، هناكَ فوضى وهناكَ شيء يحدثُ في حياتي وفي هذهِ الأيام تحديدًا ولا أجدُ مبررًا له. مذ أن التقيتُ بأصدقائي الجدد وحياتي باتت تتغيّر وتأخذُ منعطفًا أخرًا، منعطف لا يليق بي كـ ليبي مقيم في ليبيا. خرجتُ من بيت أبي ونزلتُ السلم مرةً أخرى. لم أخبر أمّي بخروجي. لبستُ حذائي ونزلت. كانَت ليلة حارة من ليالي يوليو. المحلات في وسط البلاد مقفلة أو شبه مقفلة. وقفتُ أمامَ سينما الزهراء، نظرتُ إلى ملصقات الأفلام: فيلم لـ فاندام من انتاج منتصف التسعينات وأخر لـ جاكي شان من انتاج الثمانينات. تبًا، هذهِ الأفلام الاستهلاكية ترهقني. على كلٍ هذه لا تعتبر دار سينما. هي في الواقع قاعة واحدة تقدمُ أفلامًا مقرصنة منقولة على قرصين صلبين وفي منتصف الفيلم، تزرقّ الشاشة وتكتب في منتصفها "بليز انسرت ديسك 2"، فننتظرُ عشرَ دقائق أو أكثر، حتى يقف أحد الجمهور ويذهب للعامل في شباك التذاكر، فيصعد الثاني إلى غرفة الأفلام ويقومُ بتغيير السي دي. كنتُ من الرواد المقيمين في السينما أيام المدرسة الثانوية. نهربُ من المدرسة ونشتري البذر والسامينسا الكحلة والسجائر والعصائر ونجلسُ في دار العرض حتى منتصف النهار ثمّ نعود إلى بيوتنا. سلّم عليّ عامل الشبّاك وسألني عن أحوالي. أعرفهُ جيّدًا ولا أطيقهُ. كانَ يحلّ مكان صديقي "وائل" في المناوبة الليلية. وائل هو الأخر لا يطيقه ولكنه قريب صاحب السينما. في الواقع، هو لا يطيق السينما عمومًا. ربما وائل هو الصديق الأخير المتبقي لي من فترات الطفولة. كانَ مهووسٌ بالسينما، وعندما تعرفتُ على جيمس، كنّا سويةً، إلاّ أنّهُ لم يحضر كلّ الليالي معنا بسبب والده المتشدد والمتعصّب، والذي يشكّ في كلّ شي يراهُ في ابنه. قبلَ أربع سنوات، حينَ كنتُ أهربُ من المدرسة رفقة وائل، كنّا نراهنُ على مستقبل دور السينما في ليبيا. كانَ مؤمنًا أنّ سينما الزهراء يجب أن تعودَ إلى سابق عهدها. دار عرض مشهورة في فترة الانكليز، روادها من أناس الطبقة الوسطى. نساء بفساتين وردية فضفاضة ورجال بسراويل قماش وجاكيتات كحلية، وأن يعودَ اسمها إلى سابقه.. سينما "أوديون". كنتُ أسخرُ منهُ، فقد كنتُ في ذاكَ الوقت ليبيًا صلبًا لا يفهم معنى كلماته الغريبة، بينما كانَ هو مختلف عنّي وعن الجميع. كانَ مغموسًا بأكملهِ كخبز داخل صحن السينما. يقضي معظمَ أوقاتِ يومه في مشاهدة الأفلام. يحفظُ أسماء الممثلين والمخرجين ويفضّل مشاهدة الأفلام المستقلة أو أفلام السبعينات أو أفلام الأبيض والأسود. حينَ تعرفنا على عالم الانترنت في العام 2003، كنّا نذهبُ سويةً إلى كافي انترنت ونكتري جهازًا واحدًا لمدة نصف ساعة، ونبدأ في الشجار حولَ المواقع التي نودّ الدخول لها. كنتُ أريدُ مشاهدة صور البورنو بينما كانَ هو يودّ قراءة عروض الأفلام الجديدة في السينما الأمريكية. كنتُ أميلُ بدوري إلى عالمه، ولكنني كنتُ حائرًا في كيفية الدخول له، فهو منذ صغره يعشق السينما الغربية والأفلام، ورغمَ أنّني قرأت العديد من القصص والروايات، إلاّ أنّني لم أراها سوى مصدر للتسلية، خاصة وأنّني في سنوات من طفولتي ومراهقتي أدمنتُ قراءة القصص التصويرية، وأتذكرُ بأنّني في سنّ السابعة عشر بدأت بتقليب صفحات المواقع لقراءة الكوميكس باللغة الانكليزية. وائل متفوق دائمًا في اللغة الانكليزية، كانَ يدرّسني هذه اللغة وكنتُ أشاهدُ رفقته الأفلام الأمريكية دونَ ترجمة، وحينَ اكتشفت مواقع الكوميكس والكتب على صفحات الانترنت، اضطررت للبدء في الاجتهاد في تعلم اللغة الانكليزية، وبسرعة أحببتها وصرتُ ووائل نحدّث بعضنا البعض بالإنكليزية، فأعجبتنا هذهِ اللغة وصرنا نناقش مواضيع فنّية بهذهِ اللغة التي سحرتنا، وكلما شاهدنا فيلما أو قرأنا كتابًا، كانت تطلعاتنا تكبر ومداركنا تتسع فصرنا نجلسُ في صالون بيته بعدَ مشاهدة فيلم ما ونبدأ بالتحدّث عن المشاكل السياسية في العالم. الأفلام الأمريكية السبعينية فتحت أعيننا على تاريخ أمريكا، والأفلام الانكليزية فتحت أعيننا أمامَ التاريخ البريطاني القديم والحديث، والأدب الفرنسي فتح مداركنا أمامَ الثقافة الفرنسية، وبدأنا نشبّه أوضاع أوروبا بالتاريخ والسياسة الليبية. يا إلهي، كانَ نتاجُ ذلك أنّنا ادركنا أخيرًا أنّنا نقبع تحت نظام سلطوي قمعي وديكتاتوري. فوجئنا بهذا الاستنتاج، وسهرنا ليالٍ طوال في التحدّث عن السياسة الليبية وزيارة مواقع المعارضة الالكترونية. كنّا كمن كانَ نائمًا فترة طويلة من عمره، ليتلقى في الأخر صفعةً على الوجه فيستيقظ ليرى أنّهُ في عالم أخر غير ذلكَ الذي كانَ من المفترض أن يتواجدَ فيه.

***

سينما الزهراء أو الأوديون كما كانت تسمّى، تقعُ في قلب المدينة. في شارع "أول سبتمبر"، "الرابع والعشرين من ديسمبر" في فترة المملكة الليبية. تقعُ السينما مقابلةً لمدرسة التحرير الاعدادية، وقد بنيت في عهد الطليان، وكل ما فيها من صالة عرض وشباك تذاكر وحيطان يشير بأنّها بنيت لتكونَ سينما، رغمَ أنّ الحكومة جعلتها بالإضافة إلى ذلك قاعة لما أسمته "المؤتمر الشعبي الأساسي". ذاتَ يوم، بعدَ منتصف الليل، أقفلَ وائل السينما ودخلنا إلى صالة العرض. وضع سي دي فيلم بورنو وجلسنا على مقعدين بعيدين. كانت تلكَ أولَ مرة أشاهدُ فيها فيلم بورنو على الشاشة الضخمة. بعدَ أن فرغنا من الاستمناء، اقترحَ وائل افتتاح سينما أفلام خلاعية بعدَ منتصف الليل تقتصر على الأصدقاء الأجانب الذينَ تعرفنا عليهم عن طريق جيمس وصديقتاه. "في أوروبا وأمريكا، تنتشر سينما الأفلام الخلاعية، وقد باتت جزء من تقاليد الهيبيز وجيل الستينات والسبعينات. لم لا نقومُ نحنُ بذلك هنا؟" أعجبتني الفكرة، وعلى الفور اتصلنا بـ جيمس وأخبرناه بالفكرة. "غاااايز، كام آن، دي اس از آ باد آيديا"، "بل على العكس يا جيمس، هذهِ فكرة رائعة جدًا، أنتم تحبون ذلكَ في أمريكا... سيكونُ الأمر ممتعًا، اتصل بجماعتك الأمريكان، أنت شاب فاكد اب، أصدقائك الصايعين سيحبون الفكرة".

"اسمعا يا رفيقَي"، قال لنا جيمس في اليوم التالي عندما التقينا في كافي ماركوس بالمدينة القديمة "أمريكا ليست كما تتصورون، العشيقان مثلي ودايانا مثلاً لا نذهب إلى السينما الخلاعية لمشاهدة افلام البورنو، هذهِ تظلّ عادة غبية ومحرمة عندَ فئة كبيرة من المجتمع. المهلوسين جنسيًا والمدمنين فقط هم الذينَ يذهبون للسينما الخلاعية. أظنّ حسبَ عملي في السفارة أنّ لا وجودَ لهذا الصنف من الأمريكان في ليبيا".

في المساء، كنتُ أقفُ ووائل على الكورنيش، "نحنُ أغبياء يا وائل، لقد كنّا مضحكة أمامَ جيمس، بالفعل، نحنُ لا نفقهُ شيئًا في الثقافة الأجنبية، لأنّنا لم نعبر هذا البحر اللعين إلى أوروبا. لو كنّا هناك، لفهمنا ما قالهُ لنا جيمس ظهيرة اليوم". "دونت سي ذات دوود" قالَ وائل وهو يمسكُ بحجرة ويرميها بشكل مائل على سطح الماء، فكونت سربًا من الدوائر الصغيرة. "نحنُ سنذهبُ يومًا إلى أمريكا بمساعدة جيمس، لا تقلق أبدًا... كلّ شيءٍ سيكونُ على ما يرام... ولا تنسى أنّنا نتحدّث الانكليزية جيدًا".

***

ينزلني سائق التاكسي عندَ منطقة الظهرة، مقابلاً لمدرسة الشعلة الاعدادية أتمشى قليلاً في الشارع الرئيسي ومن ثمّ أنحني يسارًا داخلاً شارع السفارات ماشيًا فيه على مهل. رجال الأمن ينظرون لي بخوف وخلع، وعوضًا عن الاقتراب منهم، أقومُ بالتقدم لهم وأبرز ابتسامة عريضة على وجهي وأقولُ: "غود ايفينينغ سير... آي ويش يو هافينغ ساتش آ لافلي ايفنينغ"، أتركُ الحراس غارقين في محاولة فكّ لغز الكلمات المتقاطعة وأكملُ طريقي. أصلُ إلى ميدان الكاتدرائية "ميدان الجزائر". أتوقفُ هناكَ كعادتي وأرفعُ رأسي إلى الجامع العالي، ثمّ أغمضُ عينايَ للحظة وأتذكرُ أنّهُ كان في الماضي "كاتدرائية طرابلس"، ثمّ تحولَ إلى مسجد بعدَ طرد المواطنين الليبيين من أصولٍ أجنبية خارج البلاد، وكسر في علّية الكاتدرائية طرف الصليب الذي يمثّل الابن والروح القدس، لتسمّى في دائرة الأوقاف باسم "جامع جمال عبد الناصر"، وظلّ الاسم المتنقل بينَ ألسنة الناس "جامع الكنيسة". تبًا، هذهِ الكاتدرائية كانت جزءًا في قلب هذهِ المدينة. أنظرُ إلى يميني حيثُ ساحة كبيرة كمقهى وسطَ عمارة يجلسُ فيها شباب ورجال وأدباء يسمونها "مقهى الفجر"، وقد كانت قبيل القذافي "بار أورورا"، والتي تعني الفجر بالايطالية، ولكن لأنّ حكومة العساكر قامت تحتَ خانة العروبة واللغة العربية، فبالتالي ترجم الاسم إلى الفجر. بنيت هذهِ الحانة كي تصير حانة، حتى أنّ أعظمَ كتّاب ليبيا في الستينات كـ علي مصطفى المصراتي وعبدالله القويري وكامل المقهور كانوا من روادها، وكانَ الصادق النيهوم يأتيها ليسكر في زياراته المتقطعة إلى العاصمة. يحكى أنّ ذاتَ يوم خرجَ رجل سكران من بار أورارا يسبّ ويشتم القذافي وثورته. وقفَ في ساحة ميدان الجزائر وظلّ يبصق ويلعن ويسبّ القذافي، بعدَ ذلكَ بأيام أقفلت كل بارات ليبيا وحرمَ شرب الخمر. على الجانب الأيسر من الميدان يوجد مبنى البريد، هو منذُ أن صمم وبنيَ كانَ بهدف أن يكونَ مبنًا لخدمات البريد والهاتف، وظلّ كذلكَ إلى اليوم.

أسيرُ ببطء، أدخل شارع هايتي، أتأملُ العمارات الطويلة المبنية على الطراز الايطالي في عهد "أيطالو بالبو" حاكم ليبيا بعدَ فترة حكم غراتسياني الفاشي، انعطفُ يمينًا في تقاطع الشارع مع شارع "أول سبتمبر" وأصلُ إلى سينما الزهراء حيثُ أجدُ وائل واقفًا أمام الباب يراقبُ ما حوله. أرفعُ يدي لأحيّه، يبتسم فورَ رؤيتهِ لي. دائمًا أشعرُ بنوع من السعادة ينتابني لدى رؤيتي لـ وائل، حتى وان كنتُ قد فارقته لساعات قليلة فحسب. "هاي وائل... انتظرناكَ البارحة، لماذا لم تأتي؟ سكرتُ طويلاً رفقة جيمس ودخنّا حشيشًا صافيًا وأعتقدنا أنّكَ ستعود إلينا".

"لم أستطع، كانَ عليّ الاستيقاظ مبكرًا للذهاب إلى الكلية، ثمّ مظهر جيمس وهو يدخل بالماروكية والأفريقية في شارع كيندي لينكهما كانَ مقززًا، مالذي يجعل جيمس ينيكُ قحاب وسخات وهو يمتلكُ فتاةً جميلة مثل دايانا؟ عندما أدركتُ بأنّهُ جاد في دخولهِ بالقحاب، قررتُ الذهاب إلى البيت والنوم، لم أكن قادرًا على العودة رفقتكما واكمال السهرة.. يا إلهي... إنّهُ امريكي مقزز... هل كلّ الأمريكان هكذا يا محمد؟".

***

أحكمَ وائل اغلاق باب السينما، كانت الساعة التاسعة مساءًا. لا زلتُ وقتها أشعرُ بكفخة افراطي في الشرب ليلة البارحة. كانَ الطقسُ جميل. أسيرُ رفقة وائل وأيدنا في جيوبنا. نقررُ فجأة الجلوس في مقهى السنبلة لشرب القهوة، قبلَ ذلك توقفنا عندَ مطعم في شارع هايتي يقدّم سندويتشات كبدة. أكلنا السندويتشات بسرعة وشربنا بيبسي ومن ثمّ خرجنا إلى الشارع وسرنا ببطءٍ إلى مقهى السنبلة. هناك جلسنا على كرسيين بلاستكيين وأخرجنا علبة سجائر مالبورو وبدأنا نشرب القهوة على مهل ونستمتعُ بحرق سجائرنا. عن ماذا كنّا نتحدّث وقتها؟ لم أعد أدري، لكن ما أستطيع استيعابهُ الأن، أنّنا لم نكن نتحدّث في السياسة ولا السينما ولا الفلسفة ولا جيمس وصديقاته. ربما كانَ شيئًا عن ذكريات قديمة أو أصدقاء قدامى. مقهى السنبلة هو المكان الأفضل للتحدّث حولَ ذكريات الماضي. كنّا نجلسُ هنا أيام الصياعة ومصاحبة العاطلين والليبيين المكسدين. مقهى السنبلة هو البالوعة التي تجذب معظم شباب مدينة طرابلس، من الصيّع وأولاد المنطقة الشرقية وحتى شباب المدرسة الأمريكية، لهذا نسمّيها بالوعة. معظم من تواجدوا ذلكَ المساء كانوا من الأصدقاء القدامى، وبما أنّنا كنّا جالسان في الداخل، فلم نلتقي بعد بأصدقائنا الحقيقيين الذينَ يهوون تدخين الأركيلة، ربما لهذا السبب فضلنا الجلوس في الداخل يومها.

"أهلا أهلا أهلا" جاء صوتٌ من ورائي لم أستغرق وقتًا في التفكير من يكون "من زمان معش شبحانكم يا اولاد! وينكم، ولا الي شاف العسل انسي صنت البصل؟"

"شن الجو يا ماوكلي؟" وقفنا وسلمنا عليه. كنّا نسميه ماوكلي منذُ أن كانَ طفلاً. شعرهُ طويل وبشرتهِ سمراء ويبدو من حركاته وتفكيره وطريقة معاملته انّهُ انسان بدوي كالذي نقرأ عليه في كتب التاريخ، والمسمّى بـ الانسان القديم "أحني دائما موجودين في المدينة، وكل ما نسألوا عليك يقولوا في الجديدة" الجديدة اسم سجن طرابلس. هناكَ يجتمعُ الصيّع والسياسيين والسفاحين. الجديدة هو السجن الأكثر خطرًا على الاطلاق في ليبيا كلها.

"شن قصة الجماعة الأمريكان التي تتكّوا عليهم اليومين هادوماي؟" قالَ وهو يسحب كرسيًا من طاولة مجاورة دون استئذان وأخذَ مكانًا بيننا "قصدي انتم ناويين تنصبوا عليهم ولا شن؟ لو ناويين، معناتها خوكم ماوكلي لازم يخش في دين أم الصفقة".

"لا يا ماوكلي، مانفكرش ننصب على الجماعة، هادوماي صحابي وبيني وبينهم خبز وملح". قلتُ وأنا أدعو الله أن ينهض الماوكلي ويتركنا في حال سبيلنا. أضافَ وائل "هادوماي جماعتنا يا راص، وقصدي الجماعة محترمين ومافيش بيناتنا مشاكل ومش ناويين انديروا مشاكل، وجو النصب سيبناه من زمان، من أيامات مايكل الأفريقي".

"هاهاها" أطلقَ ماوكلي ضحكة كالتي يطلقها شريخان في المسلسل الكرتوني. لماذا أسميناهُ ماوكلي، كانَ ينبغي أن نسميه باغيرا.. أوه لا، لا يمكننا ذلك، الصادق الأسود نسميه باغيرا لأنّهُ أسودَ البشرة "اسمعوا يا أولاد" قالَ ماوكلي وهو يسحب سيجارة من علبة المالبورو الخاصة بي "انتم تغيرتم، انتم الاتنين تغيرتم ومعش ولّينا نعرفوكم، وهذي مش مشكلتي، لكن أني نبّي نعرف من هو الولد البعيّص الّي اتبعوا فيه.. الولد الأمريكاني" انه يقصد جيمس دونَ أدنى شك. نسيتُ اخباركم أنّ ماوكلي أحد الخبراء في نيك الأطفال. أقولُ لـ وائل والأصدقاء أنّنا محظوظون لعدم الوقوع على حجر ماوكلي ونحنُ صغارًا. ماوكلي يحبّ الأطفال. يشتري لهم الحلوة ويدخلهم احدى الريفودجوات المخصصة للسيارات في عمارة ما في ليلة ما، يخلعُ لهم سراويلهم ويضعُ زبهُ داخلهم. لعلّ معظم الشباب في أعمارنا والمتواجدون حولَ الطاولة يومها كانوا من روادهِ وهم صغار.

"ماوكلي! صديقنا الأمريكاني يخدم في السفارة الامريكية، يعني دبلوماسي، وأي غلطة منك حتحطك في الجديدة عمرك كله" قالَ لهُ وائل، إلاّ أنّ ماوكلي وقف من على كرسيه ووضعَ علبة المالبورو الخاصة بي في جيبه وقال "غدوة، غدوة نتلاقوا في نفس المكان أهني الساعة الستة ونمشوا مع بعض لصاحبنا الأمريكاني" ثمّ غادر باتجاهِ الباب المؤدي إلى حديقة المقهى ليلتقي جماعته. شعرتُ بنوعٍ من الغضب والسخط، ولو كانَ بيدي لمسحت الأرض بجسد ماوكلي، ولكنّي اعرف أنّهُ ليس باستطاعتي فعل ذلك. أعرفُ أيضًا، كما يدرك وائل أنّنا ان لم نأتي مساء الغد لأخذ ماوكلي معنا فإنّهُ بذلك سيحرمنا من البقاء في وسط البلاد أو حتى الاقتراب منها. لقد استطاعَ ماوكلي أن يترأس الشارع وأن يزرع أعوانهُ في أرجائها وأي خطوة نقومُ بها فإنّهُ على علم بها. إنّهُ فورتية، والفورتية تعني رئيس، ماوكلي فورتية وسط البلاد رغمَ أنّهُ على صراع مع باقي الفورتيات، كـ أشرف الجبنة وأولاد الوحشي وغيرهما من أصحاب السوابق.

***

خرجنا من المقهى وقطعنا الطريق إلى كراج الخطوط الليبية، ومن هناك اشترينا كيس بوخة وسكبناهُ في علبة مياه بلاستيكية فارغة "كُفرة" لتر ونص، وأضفنا عليها نصف علبة سيفن آب وعدنا أدراجنا تلقائيًا إلى السينما. أعدّ وائل صالة العرض، قالَ لي ونحنُ نسيرُ إلى السينما أنّ هناكَ فيلمًا للأخوان كوين يدعى "بارتون فينك". قالَ أنّهُ فيلم يستحق المشاهدة وأنّ جيمس نصحهُ بذلك. صببنا كأسين من البوخة وأعددنا لفافات الحشيش وأطفأنا الإضاءة شوط من البوخة، اثنان، ثلاثة.. اشعال لفافة، اثنين، شوط بوخة، لفافة.. تشغيل الفيلم... كأس، لفافة، حبسنا دخان الحشيش في كوب فارغ، دخنّاهُ، شربنا كأسين أخرين، الفيلم يدخل مرحلةً شيّقة. ضحكنا كثيرًا على بعض المشاهد، الكاتب العجوز كانَ نموذجًا للكاتب الفاشل، اتفقنا أنّ شخصيته تعبّر عن الأدباء الليبيين. لفافة أخرى. نفذَ الحشيش، فرغَت القنينة. انتهى الفيلم. الشعور بالجوع. الخروج لأكل سندويتشات الكبده... أدركتُ عندما طلعَ الصباح على المدينة، أنّ هذا الفيلم كانَ رائعًا، اتفقتُ ووائل أنّ الفيلم كان ممتازًا، أمّا البوخة والحشيش، فلم يكونا كذلك.

***

لم أكن قادرًا على العودة للبيت في الصباح، وأعرفُ أنّ جيمس نائم. نمتُ في غرفة الكونترول في السينما. هناكَ فراش على الأرض ومروحة وغطاء قماشي ووسادة. ينامُ وائل هنا أحيانًا. هناكَ العديد من كتب تعلّم اللغة الانكليزية بجانب الفراش، هناك قواميس وكتب حولَ سينما هوليوود وسينما الكاوبوي. على الحائط ملصقات لأفلام أبيض وأسود. هناكَ بوستاران كبيران لـ فيلمي "بولب فيكشن" و"سينما باراديسو". وائل يحب هذان الفيلمان، ولطالما جلسنا في قاعة العرض وبكينا في نهاية فيلم سينما باراديسو، لطالما شعرَ وائل أنّهُ يشبه سالفاتوري، عامل السينما الذي يريدُ أن يصيرَ مخرجًا سينمائيًا. وائل يقولُ لي أنّهُ يملكُ الحلم، ويمتلكُ ادارة السينما، ولكنهُ لا يملك ايلينا، الفتاة التي يحبها سالفاتوري، وأضافَ أنّ الحب هو دافع الانسان الأساسي للهرب من البلد من أجل تحقيق أحلامه. وائل تراجيدي بعض الشي، يريدُ أن يكونَ عاشقًا محطمًا لأن الحطام سيدفعهُ لتحقيق أحلامه. "دراما كوين"، سيقول لي جيمس عنه ذات يوم فأعجبتني الصفة. ابتسمتُ وأغمضتُ عيني.


فصل من نص سردي قيد الكتابة. شمعة لذكرى الأصدقاء القدامى: فارس خليل، ابعيشو،محمد التكالي منير عصيدة، ابراهيم بوعزّة، محمد سويسي... وجاد الصاري.. عام مضى يا رفاق، وكما قال الشاعر عبدالرحمن الشرع في تأبين الفنان التشكيلي عبدالعزيز الغرابلي (الذي توفيَ في سجن القذافي السياسي): جبل على قلب رحيلك.. يا صديقي.

تعليقات

‏قال مادموزيل
صديقي ..إفتقدتك في الفضاء الأزرف
سألت عنك ومن خلال نبضات التويتر لصديقك قبلاوي عرفت أنك بخير ...دمت بخير يا صديقي
‏قال bayan
وينك يا محمد ؟هلبا هكي الفيس وتويتر
موفق عزيزي ونتمنى رجوعك في اقرب وقت
‏قال مو مصراتي
الفيسبوك كله طحالب وفيروسات

:-P
‏قال عابد
نزيف قلم يسعي نحوإحداث شقوق في حائط الحقائق المكرسة في الواقع.. رائع محمد .. لك مودتي
‏قال مو مصراتي
أشكرك أيها الرائع عبدو.. اشتقت لك :-)

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات