هيئة علماء المسلمين وبوعبعاب وليالي الخميس الملاح


بالطبع، كانَ على هيئة علماء المسلمين أن تنتفض من أجل حقوق الشريعة الاسلامية في ليبيا، وأن يسخّروا أوهامهم الدينية دفاعًا عن حقوق الإله الصامد على عرشهِ كأنّهُ طفلٌ مدلل يحتاج هؤلاء الأباء كي يدافعوا عنه، فأصدروا بيانًا محتجين فيه عن بعض المواد في الدستور المقترح، أهمّها أن يستشير المجلس الانتقالي حضراتهم قبيل الاعلان الرسمي عن أي دستور (لكي لا تُخالف المواد الدستورية قاعدة من قواعد الدين الاسلامي، أو تُصادم شيئًا من ثوابته) حسبَ ما جاء في البيان. وبالطبع هؤلاء العلماء عارضوا وبشدّة أنّ الاسلام هو المصدر الرئيسي للقانون، قائلين أن الليبيين يفتخرون بالدين الاسلامي وأنّ المادة يجب أن تكون الشريعة الاسلامية هي المصدر الوحيد لكل القوانين والتشريعات، وما زادَ في حنق هؤلاء وزعلهم أنّ الدستور المؤقت يذكر في المادة رقم 1 أنّ الشعب هو مصدر السلطات، وبذلكَ فإنّ هذهِ المادة تختلف مع العالي في السموات لأنّها (تتعارض مع أحكام الشريعة المطهّرة)، وقد اقترحت الهيئة أن تعدّل المادة واحد إلى (تستمدُّ السلطات مشروعيتها من الشعب فيما لا يعارض شرع الله)، وكذلكَ زعلَ أعضاء الهيئة من أنّ الدستور يقول في مادته الأولى أنّ الدولة تكفّل لغير المسلمين حرّية القيام بشعائرهم الدينية، وهذا بالطبع ما سيتعارض مع حدود الواحد القهّار الجبّار، ومن الأصح أن تقول تلكَ المادة (وتكفّل الدولة لغير المسلمين حرية القيام بشعائرهم الدينية في حدود ما تكفّله لهم شريعة الاسلام) وذلكَ لمراعاة مشاعر الرزّاق الفتاح العليم. وابتلت الدباجة أيضًا بالرجوع إلى الشريعة الاسلامية في حقوق الانسان (آحــه)، وكذلك في المساواة في الحقوق والواجبات بينَ الذكر والأنثى (فالمرأة أنثى والرجل ذكر)، ومنع أي حزب يتّخذ من غير شريعة الاسلام توجّها وهدفًا (هوووبا).

قرأتُ ما جاء أعلاهُ وأنا أدخّن سيجارة الصباح وارتشف القهوة وأستمعُ بشكل مثير للشفقة إلى الصديق بوعبعاب وهو يطرب أذاني "داس علي المرش ودورها...عاد تدوي كيف الطيارة / في الشارع كيف استعدلها...صاروخ وعادل منظاره / كيف هلب مطروح مغرب...ظلم وسط عجاج توارى / في السلوم صقر هداها... ولع بين ايديه سجارة". وفكّرتُ وقتها في الصدمة التي سيتلقاها بوعبعاب (لو كانَ على قيد الحياة) ان تمّ وضع هذه الاقتراحات في الدستور الجديد! هذا ويُذكر أنّ بوعبعاب كانَ قد عادَ إلى مسقط راسهِ الاسكندرية اكراهًا بعدَ أن سببت أغانيه (الاباحية وقتذاك) مشاكل نفسية واجتماعية كادت أن تغتصب منهُ روح الفنّ والموسيقى، فإن كانَ بوعبعاب على قيد الحياة في يومنا هذا وطبّق الدستور الاسلامي المقترح، لولّع سيجارته وسيارته صاروخ وعادل منظاره.

سألتُ القطّ توتو (الذي كانَ متكئًا بالقرب منّي يهزّ ذيلهُ راقصًا على أنغام ألة السمسمية) عن رأيهِ في هذهِ المواد المقترحة، فقالَ لي بعدَ أن تثاءب "شكلهم يبّوا ينيكوا زك أم البلاد"، فوبختهُ على هذه الألفاظ التي لا تليقُ بقطّ ناس وعيلة، فضرب بيداهُ فصّا وذهبَ للنوم، وبقيتُ وحدي أقرأ البيان مرةً تلوَ الأخرى، إلاّ أنّ بوعبعاب قد بدأ يدخل في أجواء أخرى من الفن، فكانَ يطرب أذاني قائلاً "قلبي يا ليل / الي كيف عيوني الاتنين / خايف على قلبي خايف من جرح الغوالي... الله فتحية ما تبري، الله فتحية يا خويا / أني نغنّي وهي ترد عليا".

في الواقع، وبالنظر إلى هذهِ الاقتراحات، نجدها لا تتطابق والمجتمع الليبي. فصحيح أنّ المجتمع الليبي مجتمع متديّن، إلاّ أنّهُ متدين ثقافيًا أكثر من كونه متديّن عقائديًا (لا يفوّت سهريات الخميس الملاح، ويحرص على أداء صلاة الجمعة)، إلاّ أنّ ليبيا لا تحتوي في داخلها مسلمين فقط، بل كذلكَ أقليات من اليهود والمسيحيين وكذلكَ اللادينيين، كما علينا أن نراعي أنّ ليبيا تسيرُ على أكثر من مذهب اسلامي، فهناك السلفيين بالإضافة إلى الأباضية والصوفية، وحسبَ بيان هيئة العلماء، فإنّني أرى أنّ هذهِ الاقتراحات ستكونُ دونَ شك عائقًا أمام ما يصبو الليبيين له وهم يصرخون في ساحة المعركة "مطلبنا فقط الحرية"، فأي قانون يستمدّ شريعته المطلقة من أحكام دينية بالَ عليها الزمان لن تتماشى مع عصرنا هذا، بل أنّها ستزرع ديكتاتورية أشمل من تلكَ التي فرضها علينا نظام القذافي، وبها سيتمّ القضاء على جلّ الحريات، الثقافية والعقائدية، وبهذهِ الفروض الشرعية في القانون سيتمّ القضاء على حرية الصحافة وحرية التعبير تحت ألة التطرّف الاسلامي التكفيري والذي بهِ سنزرع بؤرة للفساد وانتشاره في مؤسسات الدولة، كما أنّ هذه القوانين ستعزّز في تدمير هوية المرأة الليبية ودورها في المجتمع ومؤسساته تحتَ سلطة الذكر الذي يستمدّ قوته من الشريعة الدينية وسلطتها، وبذلكَ سنشهد انهيار لمجتمع مدني قبلَ حتى انشائه، واضف على ذلك القوّة التي ستخرجُ بها التنظيمات الاسلامية المتطرفة (والتي لا ننكر انّها متوفّرة في ليبيا) والتي لن تتوانى عن استخدام توجهاتها الصلبة في حماية دين الله برجم المرأة وقطع يد السارق وجلد الزاني.

لقد كانَ القطّ توتو على حقّ في جملته تلكَ تعليقًا على البيان الصادر عن هيئة علماء المسلمين، وأشعرُ بالاسف لأنّني وبختهُ، كما أنّني سألحق بـ بوعبعاب لأطلبَ منهُ الرجوع لمحاربة هذهِ المطالب الفاشية، وان ابى فإنّني سأنطلق رفقته، وسأتذكرُ دائمًا ذاكَ الرجل الذي مسكَ سلاحًا وهو يخاطب القذافي "مطلبنا الحرية بس".

---------------

الصورة: (إعلان تجاري) بيرا أويا الطرابلسية.. تقدّم باردة ويفضّل شربها في بار أورورا بميدان الكاتدرائية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات