أدب اليأس وأدب الهدوء



مقطع من رواية "المخبرون المتوحشون" لـ روبيرتو بولانيو

ترجمة: محمد مصراتي


خواكين فونت، مصحة إلريبوسو للأمراض العقلية، حديقة ديسيرتو دي لوس ليون الوطنية، خارج مكسيكو، يناير 1977.

هناكَ كتب لأوقات الملل، الكثير منها. هناكَ كتبٌ لأوقات الهدوء. هي الأفضل على الاطلاق من وجهة نظري. هناكَ أيضًا كتبٌ للأوقات التي تكونُ فيها حزينًا. وهناكَ كتبٌ أخرى لأوقاتٍ تكونُ فيها سعيدًا. هناكَ كتبٌ للأوقات التي تبحث فيها عن المعرفة. وهناك كتبٌ لأوقاتِ اليأس. هذهِ الأخيرة هي النوع الذي أرادَ أوليسيس ليما وآرثورو بيلانو كتابته. هذا خطأ حقيقي، سنكتشفه عاجلاً أم آجلاً. لنأخذ على سبيل المثال قارئًا عاديًا، بارد الأعصاب، ناضج، شخص متعلم يعيش حياةً طبيعية. شخصٌ يشتري الكتب والمجلات الأدبية. بإمكانِ هذا الشخص أن يقرأ الكتب التي يقرأها الشخص في أوقات الهدوء، وبمقدورهِ أيضًا قراءة أي من أنواع الكتب الأخرى، ولكن بعينٍ نقدية وتجريد، بدون أي سخف أو تعاطف. هكذا أرى الأدب. أتمنى أن لا يهين كلامي هذا أي شخص. والأن لنأخذ القارئ اليائس، والذي من المفترض أن يكون من جهور أدب اليأس. ماذا نرى؟ أولاً: مراهق أو شخص غير ناضج، غير مستقر، عصبي المزاج، أحمق متناك (عفوًا) من تلك النوعية التي تنتحر بعدَ قراءة "يرتر". ثانيًا: قراءاته محدودة. لماذا؟ لأنّه يستمتعُ فقط بقراءة كتب اليأس. وهنا نكتشف نوعية هذا الشخص المقزز الذي لا يقدر على قراءة "البحث عن الزمن الضائع" كاملة أو جبل السحر (النموذج الأعلى للهدوء والاكتمال الأدبي من وجهة نظري المتواضعة) أو حتى البؤساء والحرب والسلم. هل استطعت بذلك توضيح وجهة نظري؟ جيد. اذن تحدثتُ إليهما (ليما وبيلانو)، نبهتهما، وحذرتهما من الخطر الذي كانا يواجهانه. كانَ ذلكَ بمثابة التحدّث إلى حائط. آه، أريد أن أضيف أنّ قرّاء أدب اليأس مثل مناجم الذهب في كاليفورنيا، مستنفذين عاجلاً أم آجلاً. لماذا؟ هذا أمر مفروغ منه، لأنّ لا أحد يقدر على البقاء يائسًا طيلة حياته. في أخر الأمر سيتفجر الجسد. القارئ اليائس (خاصةً قارئ الشعر، الذي لا يطاق بالمرة – صدقني) ينتهي بإقلاعه عن قراءة الكتب. سينتهي بعدَ ذلك حتمًا إلى كومة من اليأس المفجع، أو ربما يشفى! وبعد ذلك أثناء عملية التجديد، سيبدأ تدريجيًا – كما لو أنّ قماش التقميط بدأت تتراخى من على جسده، كما لو كانَ حبّةً فوّار تحتَ المطر – سيبدأ تدريجيًا كما قلت في قراءة الأدب المكتوب للشخص الهادئ. أدب الهدوء. برؤوس تسترخي على أكتافهم، وهذا ما يسمّى (أو كما أسمّيه): الانتقال من مرحلة المراهقة إلى سن النضوج. ولا أعني بذلكَ أن أي شخص يبدأ في قراءة أدب الهدوء يقلع نهائيًا عن قراءة أدب اليأس، سيستمرون بالطبع في قراءتها، خاصةً ان كانت كتبًا جميلة أو لائقة أو نصحوا بقراءتها من قبل الأصدقاء، لكن في النهاية، هذا النوع من الأدب لن يؤثر فيهم. في النهاية، ذاك النوع من الأدب الحاد بيأسه وكثرة الرهبان فيه لن يخترق قلبهُ. بحذر سيقلب صفحاتها، وبعناية سيقرأها. قلتُ لـ ليما وبيلانو ذلك، نبهتهما، أريتهما الأدب الحقيقي، حذرتهما من الخطر الذي سيواجهانه. لا تستنفذا ورديكما! تواضعا! اسعيا إلى ذاتيكما! ضيّعا نفسيكما في أراضٍ غريبة! لكن بخطواتٍ مرسومة، معكما فتات خبز، او حصى أبيض! ومنذ ذلكَ الوقت صرتُ مجنونًا، دفعاني للجنون، ابنتي أيضًا دفعتني للجنون، وأخرين غيرهم، ولا يزالوا لا يسمعون.

----

لقراءة عرض عن الرواية: كليك هنا!

بيلانو وليما هما بطلا الرواية: شاعران شابان بوهيميان يحاولان خلق مدرسة شعرية

الصورة لـ أبطال الرواية مأخوذة عن صفحة الفيس بوك الخاصة بكاتب الرواية.

تعليقات

‏قال عابد
تسلم خوي محمد .. وقفة ممتعة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات