الثورة التي كانت مجرد فكرة نكتة

قبلَ ساعات قليلة من بدء الثورة في ليبيا، كانت الفكرة مجرد نكتة نتناقلها عبر الهواتف وصفحات الفيس بوك وتويتر. لم يكن أحد يصدّق أنّ الليبييون سيخرجون في مواجهة شرسة مع القذافي الذي صارَ كغول الظهيرة، يخافهُ الصغار ويخشاه الكبار.
وفي اتصال قناة الجزيرة مع المناضل الكاتب ادريس المسماري (الذي كانَ وسط متظاهرين أمام مركز الأمن)، انطلقت شرارة الثورة. المسماري قالها بالحرف الواحد: "زبانية النظام يقتلون الشباب الليبي الأن".. في الليل، داهمت مجموعة من بلطجية لجان القذافي الثورية بيت ادريس المسماري. ضربوه وخطفوه وأفزعوا وهدّدوا زوجته الكاتبة أم العز الفارسي وابنتهما "ليبيــا".
من بنغازي كانت الشرارة. كانت المفاجأة... وكانت مفاجأة العالم أيضًا لرؤية بشاعة القذافي ومستوى اجرامه. لقد نسى العالم من هو معمّر القذافي. لقد نسوا جرائمه على مدى سنينَ طويلة، وعندما رأوا طريقة القتل التي يواجهها الثوار الليبيين، شعروا بأنّهم أمامَ فيلم أمريكي فنتازي. وحدهم الليبييون كانوا يعرفون بشاعة النظام الذي يواجهونه، كما كانوا وحدهم من لا يضحكون على خطابات القذافي الغبية والتي كانَ العالم أجمع يضحك عليها ويختارونها نكاتًا يتسامرون بها. الليبييون يعرفون أنّ الخطاب الأول للقذافي من باب العزيزية ليسَ نكتة. لقد شاهدوا نسخةً أخرى من هذا الخطاب في الثمانينات من القرن المنصرم. عندما وضعوا المشانق في الساحات والجامعات، وتمّت تصفية كلّ المعارضين لنظامه على الملأ دون رحمة. الليبييون يعرفون أنّ (نكات) القذافي هذهِ نكات مميتة، سامّة، تتلوها مجموعة من الجرائم التي لا يتصوّرها عقل مخلوق. إلاّ أنّ العالم هذهِ المرّة كانَ يراقب ليبيا.. اكتشفَ العالمُ أخيرًا أنّ في ليبيا ليبييون، وأنّ الليبي لا يعني أن يكون (معمّر القذافي) كما يتخيّلون.
الليبييون في المهجر باتوا يرونَ صورَ ليبيا في كلّ الجرائد المحلية والعالمية. باتوا يرونَ ليبيون أخرون غير معمر القذافي يتصدرون الصحف. في محلّ البقّال، أشردُ لدى رؤية كلّ الصحف المصفوفة، من المحلية المجانية وحتى الصحف العالمية: في كلّ الصفحات الأولى عنوان متزيّن بـ "ليبيا" تتبعها صورة ثوّار على سيارة، فوق دبّابة، حاملين لشعارات ورسائل منددة بحكم القذافي. خرج الليبي مرةً واحدة، بينَ ليلة وضحاها من سرايا العزلة التي أحاطه بها القذافي على مدى عقود طويلة. باتت أخبارنا تتصدّر التقارير الأولى في نشرات الأخبار. باتَ أبطال الثورة يتحدّثون لكلّ وسائل الاعلام، العربية والبريطانية والأمريكية والفرنسية...لم تسحق الثورة الليبية القذافي وحده، بل سحقت الخوف والخجل والرغبة الليبية في البقاء منعزلاً. باتَ العالم يرى ليبيين أخرين دونَ معمر القذافي.
قبلَ بدء الثورة، كانَ المثقفون يناقشون مصير ليبيا في اطار الثورتين في تونس ومصر. كانَ السؤال: "هل ستقام ثورة ضدّ نظام القذافي؟"، وكانت الاجابة ملغّمة. ليسَ بمقدور أحد وقتها أن يجيب عن هكذا سؤال، وان تمّت الاجابة عنه، فستكون اجابة مضطربة، هاجسية ومن الصعب تحليلها. في فترة حكم القذافي، تمّ القضاء على كلّ الرموز الوطنية، من علم الاستقلال وحتى النشيد الوطني. كنّا نحسبُ أن علم الاستقلال لم يعد لهُ معنًا ولا أهمّية في ظلّ الأجيال التي تزاحمت في عهد القذافي دونَ أن تعرف شيئًا عن ليبيا سوى نشيدها المستورد وعلمها الأخضر الذي لا يعني شيئًا. كنّا نراقب معشر الليبيين تونس والثوار فيها يغزون مراكز الشرطة، يحرقونها ويهشمونها ويظلون في النهاية محتفظين بالعلم الذي يرفرف فوقها، ورأينا الثوار المصريين كذلكَ يخرجون إلى ميدان التحرير، وعلم واحد يجمعهم، ويوحدهم، ونشيد واحد يلمّ صفهم. كانَ السؤال الليبي: أيّ علم سيحملُ الليبييون ان استيقظت الثورة؟ هل يعرفون علم الاستقلال؟ هل يعرف الجيل الجديد والشباب أنّ هناكَ علم استقلال؟ هل يعني لهم هذا العلم شيئًا اليوم؟ وان كانوا سيخرجون حاملين الراية الخضراء، فهل ستكون ثورة على مخترع هذا العلم الذي يحملون؟
قامت الثورة أخيرًا... خلعَ الثوار العلم الأخضر من الميادين والمعسكرات ومراكز الشرطة... بعدَ أيام، رفرف علم الاستقلال كلّ مدن الشرق الليبي وكذلك الزاوية في الغرب الليبي.
الابن الضال
الساعدي القذافي المتضارب في أفكاره وبطولاته، كانَ متدّينًا في فترة التسعينات، فأنقلب وصارَ لاعب كرة، وضعَ اجرامهُ الذي اكتبسهُ من جينات أبيه ليقومَ باحدى أبشع المجازر، حينَ سبّه جماهير نادي الأهلي: "يا ساعدي يا ولد صافية، فسدت الكرة الليبية"، فأمرَ رجالهِ باطلاق النار على المتواجدين في مدرجات مشجعي نادي الأهلي، فقتلَ العشرات وجرحَ أخرين.
من عالم الدين إلى الكرة، تحوّل الساعدي مجددًا إلى عالم السينما، ليعودَ في الأيام الماضية على قناة العربية، مرتديًا جلبابًا فضفاضًا ومشمّرًا سرواله، على الطاولة أمامهُ (وعلى ناصية البار خلفه) كتب في الفقه والدين، وبدأ في الحوار متديّنًا، طالقًا لحيته، ويستعين بآيات من القرآن، ليختمَ الحوار قائلاً أنّهُ يستعين بالسلفية في هذهِ الفتنة الحاصلة في البلاد... للتذكير: في أول أيام الثورة، كانَ الساعدي في بنغازي، وفي الوقت الذي ظهرَ فيه على راديو بنغازي يتحدّثُ حول الاصلاحات التي يحلمُ القيام بها في المدينة وفي شرق ليبيا عامةً، كانَ في ذاتِ الوقت قد أمر المرتزقة الأفارقة بقتل الليبيين المتظاهرين في الشوارع. حاصرَ الليبييون مركز الاذاعة، لكن القاتل ابن القاتل استطاعَ الهرب هذهِ المرّة. ومش كل مرة تسلم الجرّة.
الظريف في الأمر أنّ الساعدي القذافي قالَ في حواره مع العربية: "من يذهب إلى المرج في ليبيا، سيحسب نفسه ليس في ليبيا، بل في سويسرا أو النرويج" اعتراف غير مسبق بالدمار والفساد الذي سببهُ والده.
معادلة ثورية
احتّل الإيطاليون ليبيا في العام 1911، وفي العام 2011، قامت الثورة ضدّ من اغتصب فرحة الليبيين باستقلالهم.
احتلّ الايطاليون ليبيا على مدى 41 عامًا، وأحتلّ القذافي ليبيا لمدّة 41 عامًا... في هذهِ المعادلة، استيقظ الليبييون ليكتشفوا أنّهم تحتَ احتلال ظلّ مائة عام، وحانت الساعة ليعيش الليبي أخيرًا كـ "انسان".
تعليقات