صورة معلّقة على جدارية طرابلس



الرجل على المصطبة الحجرية
كلّما بحثتُ عن صور تاريخية لطرابلس لأضعها في أرشيف الصور التي أجمّعها منذ فترة ما يقارب العامين لهذهِ المدينة، أجدني أتعثّر مصادفةً بالصورة أعلاه، وعلى حين غرّة، يغزوني ذاكَ السؤال الذي لطالما هربتُ من الإجابة عنه: "من هو ذاكَ الرجل الحزين الجالس على المصطبة الحجرية؟".
في فترةٍ ما، كانت تلكَ الزاوية من المدينة هي الأكثر قربًا لقلبي. أجلسُ وأراقب القلعة وقتَ الغروب، عادةً أكونُ مع الأصدقاء.. عادةً ما نحتسي المكياطة ونتبادل السجائر، وعادةً أيضًا ما كنّا لا نهتم بالغروب، بقدر انتظارنا لحلول الظلام كَي يتسنّى لنا ممارسة هواية الدخول إلى المدينة عن طريق شارع الرشيد والخروج من باب البحر.
الأن، أنظرُ للمكان، أحدّق بهِ في هذهِ الصورة الغريبة، أفكّر في ملتقطها، وان كانَ قد التقطها وهذا الرجل الغريب فيها محظ مصادفة أم أنّهُ كانَ يقصدُ ذلك. عليّ أن أخمّن ان كانَ ملتقط الصورة ليبيًا كانَ أم أجنبي؟ هل كانَ يشعرُ بمعاناة هذا الرجل؟ هل كانَ الرجل حقًا يعاني... تراهُ كانَ يحدّق في نملة تسيرُ الأرض تبحثُ عن بقايا طعام، وتراهُ هو يمارس هواية الكساد: يطلق بصقة من فمه محاولاً اصابة النملة ويتلذذ برؤيتها غارقة في حامضه!
بينما أنا أراقبُ الصورة ككلّ ليلة قبيلَ الخلود إلى النوم، تقولُ لي وهي تتقلّب فوقَ سريرها: "يعني أعلاش تسأل؟ صورة بالصدفة والمصوّر ما كانش يبّي الاّ انه ياخد صورة للمكان وبس.. ممكن كان مستعجل وما ركزش في هالحصلة الّي مقعمز!".
نعم نعم يا عزيزتي... نامي على السرير وتقلّبي وأطلقي فلسفاتك... أنتِ تتحدّثين باللهجة الليبية؟ حقًا، اعتقدتُ أنّكِ لا تتحدّثين سوى الانكليزية وبعضًا من الاسبانية... أظنّني بتّ أهلوس... أظنّ أنّني شربتُ كثيرًا. ربما رؤية الصور في الليل قبيل النوم، هي بحدّ ذاتها لعنةٌ عليّ التخلّص منها... هناكَ ألبوم كبير فوق طاولتي، هناكَ مئات الصور لـ طرابلس، وهناكَ خرائط قديمة وصور ملوك حكموها وعساكر مشوا فوقها... هناكَ العديد من الصور لـ موسيليني في زيارته لليبيا.. هناكَ صورة أخرى لشيخ يرفعُ يده تحية الفاشية (لن يتوانى هؤلاء الشيوخ عن مدّ مؤخراتهم للحاكم مثل أي قوّاد وعسكري). هناكَ صور للحرب العالمية الثانية... هناكَ الكثير، ولكن وحدها هذهِ الصورة تضربُ في عقلي وتجعلني أفكّر في احتمالات غريبة حولَ طرابلس التسعينات والألفية الأولى.
"وأعلاش يا حبي مصدوم... عادي، تيك ات ايزي".
"ها؟".
وأعيدُ نظري إلى الصورة مرةً أخرى مركّزًا هذهِ المرّة على تفاصيلها، وأتذكّرُ بيني وبينَ نفسي بعضًا من المشاهد الغريبة التي حدثت لي في طرابلس يومًا ما في القرن العشرين! أو ربما الأشهر الأولى من القرن الواحد العشرين... إنّني حقًا محظوظ، ربما يومًا ما، سأقولُ لأحفادي أنّني أتذكّرُ أوّلَ يومٍ في القرن الواحد العشرين... وحدهم المحظوظون هم الذينَ عاشوا أولى دقائق قرن جديد... قرن جديد في عالم أخر... طرابلس تستقبل العام تلوَ العام، وتبقى في النهاية مثلما هي... لا الأبراج ولا العمارات ولا الفنادق ستغيّر فيها شيئًا... بما أنّ الكابّو لا يزال يجلس على مرحاضه، وبما أنّ الليبييون لم يتخلّصوا بعد من خبثهم ونفاقهم، فإنّ ليبيا لن تتغيّر، ولن تتغيّر حتى بتغيير تيسها الكبير، ستظلّ مثلما هي لو أنّ الليبيين لم يموتوا، ويأتوا ليبيون أخرون ليعيدوا احيائها... أفكّر مطوّلاً وأنا أنظر إلى الصورة: ان ماتَ كلّ الليبيين، وكانَ أول الموتى فيهم هذا الرجل في الصورة، وتحوّلت ليبيا إلى أرض لا ليبيَ فيها، وأستولى عليها الجيران وأخذوها... تناولوها تحتَ أسماء وشعارات مدلولها (قومية عربية / اسلامية / اخوانجية / سلفية / جهادية / صهيونية / نازية)... لا لا لا، إلاّ النازية... ان ماتَ الليبييون، فأول الموتى فيهم هم النازيون، المطالبون بتصفية العرق والدم، المناهضون لأي دخول أجنبي، العنصريين لكل من ليس لهُ عرق ليبي ويحمل في يده جواز سفر ليبي... سيموتُ هؤلاء النازيون المعجبون بهتلر أولاً، نعم سيكونوا الأولون، ثم المناصرين لبن لادن ثمّ المناصرين للأفرو وأصحاب الدم الأخضر، أمّا الليبراليين والعلمانيين وحتى الملحدين، فإنّهم ماتوا قبل أن يأتي طاعون موتَ الليبيين، لأنّهم بينَ النازيين الجدد والسلفيين الجدد والثوريين الجدد، سيكونون فريسة سهلة الأكل طرية الجسد.
هل يكونُ هذا الرجل الجالس على المصطبة، الواضع رأسهُ على حجره كأنّهُ يبكي، هل يكونُ يا ترى رامي أم أشرف أم العكشة أم الجيلاطي أم الذبانة أم المنشوفي أو ربما يكونُ ذاكَ الرجل الذي جاءني يومًا وضيّفني سيجارة فقط لأنني ذكرتهُ بطفولته عندما كانَ يهربُ من المدرسة ويأتي للجلوس هناك؟
بماذا يفكّر هذا الرجل يا ترى؟ هل عندهُ أطفال؟ هل ماتت والدتهُ؟ هل فقد حبيبته أم رأها تمصّ زبّ جاره؟ أنظرُ إليها وهي تتبعثر على الفراش وتغنّي! هل حقًا كانت تغنّي؟ لا أظنّ ذلك... علّها كانت تتحدث إليّ... أنا في الحقيقة مشوّش الافكار هذهِ الليلة.. أنا فقط ككل مرةٍ جالس أراقبُ هذهِ الصورة وأفكّر في احتمالات غريبة! ربّما عليّ الاقلاع عن هذهِ العادة.. ربما عليها هي أن تصمت وأن تنام فهذا ليسَ وقتَ الغناء... حسنًا يا عزيزتي.. ضعي هذهِ الصورة في جيب بنطلوني الذي سأرتديهِ صباح الغد، وأطفيئي الأضواء... سأنامُ الأن.
أتأمل ذاكَ الولد الجالس على بعد خطوات قليلة منه... أراهُ ينظرُ للأعلى، أظنّهُ سينظرُ للأعلى بضعَ سنوات... قبلَ أن يباشر هو الأخر بممارسة هواية الكسل.

تعليقات

أسلوبك الرائع في تفكيك الصورة و تحليلها يشير بوضوح إلى عبقرية أدبية واسعة لا أفك أكتشف فيها زوايا لم أكن أعرفها كلما اعتقدت أنني قد ألممت بها بشكل جيد

سلم قلمك عزيزي

تحياتي
‏قال عابد
الحنين للوطن ولطرابلس .. هواءها ارضها سماءها ازقتها شوارعها ابوابها نوافدها شخوصهاواصنامها طغت وشغلت حيزا على تدوينات الكاتب وفجرت ينابع ادب المهجر .. البعد عن المكان يستعير مناجاة الصورة لتعويض بون المسافة .. اجدت هذا ما يمكن ان يقال ايها المبدع الرائع

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

موت محمد