جيمس جويس 2

جيمس ونورا
بعدَ عودته من باريس إلى دبلن وتركهِ لبيت أباه والاقامة وحيدًا في غرفة صغيرة بقلب المدينة، اختار جيمس جويس أن يعيشَ بوهيميتهُ بينَ القراءة والغناء. كانَ يغنّي في عطلات الأسبوع على خشبة مسرح محلّي يجتمعُ فيهِ السكارى والبائسون. قضى جيمس عامًا كاملاً وهو على هذهِ الحالة. لم يكتب أي نص أدبي على الاطلاق في ذاكَ العام، بل كانَ همّهُ أن يجمعَ بعض النقود التي يمكن أن تساعدهُ على قضاء حاجياتهِ البسيطة. كانَ وقتها يدخّن ويشرب بشراهة، كانَ يشعرُ بالقرف من حياتهِ الإجبارية في ظلام المدينة التي أنكرته، ولم يكن قد فكّرَ في اقامة أي علاقة مع فتاة ما، كانَ محتفظًا بعذريتهِ ويخاف التحدّثَ إلى النساء، وعدم ثقتهِ في ذاتهِ كانت واضحة وقتها... كانت شخصيتهِ مهتزّة ومتوترة وقلقة.
أحيانًا، كانَ يلتقي بأخته وسط دبلن، وكانت تترجاهُ العودة إلى بيتِ العائلة، لكنّهُ كانَ مصرًّا على رفض هذا الطلب، وظلّ طيلة الوقت يتحجّج بأنّ حياتهُ وحيدًا أسعد وأسهل من الإقامة برفقة اخوته العشرة في بيتٍ واحد. كانَ يكذبُ على نفسهِ وقتها، كانَ يحاول الابتسام والضحك أمامَ عائلتهِ كلّما التقى بهم ليظهر أنّ حياتهُ وحيدًا معربدًا بين الحانات والقاعات الموسيقية وغرفتهِ الصغيرة قد أعطتهُ حياةً أجمل وأسعد من البقاء برفقتهم.
هناكَ موقف واحد جدير بالذكر حدثَ في ذاكَ العام البوهيمي من حياة جيمس جويس:
كانَ ليلتها ساهرًا في حانة ما يشرب الويسكي والبيرة. كانَ وحيدًا وسكران وتعب... أنهكهُ الوقوف على خشبة المسرح والغناء دونَ أي مبلغ مادي محترم يساعده على عيش حياة كريمة، حينَ فجأة رأى عشيقان يجلسان على طاولة قريبة، كانت الفتاة جميلة وترتدي ملابسَ مهندمة وراقية، وتشرب النبيذ الأحمر وتضحك لعشيقها. ربما لم يعجب جيمس بذاكَ الموقف، وشعرَ أمامَ هذا المشهد بالدونية كونهُ لا يزالُ محتفظًا بعذريته ولا يجيدُ التحدّثَ إلى النساء، فبدأ بمشاكسة الفتاة أمامَ عشيقها. راحَ يتغزّل بها بألفاظ جنسية (أظنهُ ذكرها لاحقًا في ملحمتهِ "يوليسيس")، فما كانَ من العاشق إلاّ أن وقفَ وأتجهَ نحوَ جيمس ولكمهُ على وجهه، فوقعَ الثاني على الأرض صحبة كرسيه، وبدأ العاشق بضربهِ وركله، وأجتمعَ الساهرون بالحانة لرؤية جيمس بينَ يدا هذا العاشق الغيّور على عشيقته. لم يشفق الناس وقتها على جيمس، وأعتبروا أنّ هذهِ الركلات والطريحة جزاء من يتجرأ على التحرش بامرأة رفقة عشيقها، إلاّ أنّ رجلاً ذو معطفٍ أسود وقبعة كبيرة جاء للدفاع عن جويس، وخلصهُ من تحت أقدام العاشق، وظلّ هذا العاشق يصرخ في وجه الرجل ويسبّ كليهما. إلاّ أنّهُ في أخر الأمر انسحبَ برفقة عشيقتهِ خارج الحانة، وساعدَ ذاكَ الرجل جويس على الجلوس على كرسيه ومعالجة كدمات وجهه.
كانَ ذاكَ الرجل هو ليوبولد بلوم (اسم مستعار)، الذي سيكونُ الشخصية الرئيسية في ملحمة جويس "يوليسيس"، سيصيرُ ذاكَ الرجل المتضارب في شخصيتهِ صديق جيمس لفترة قصيرة، ولكنّهُ سيعرفُ الكثيرَ عن تفاصيلَ حياته. الشيء الوحيد الذي وجدهُ جويس مثيرًا في شخص هذا الرجل هو ملابسه وحبّهِ لأكلِ الأمعاء والمصارين في الصباح الباكر كوجبة فطور، كذلكَ رأى فيهِ كرجل يهودي وعر شخصية تصلحُ للكتابة، كذلكَ الأمر بالنسبة لحكايات هذا الرجل، وتأكدهُ الشديد من أنّ زوجتهُ تخونه في غيابه... كانَ ذاكَ الرجل متأكدًا أنّ زوجتهُ تقومُ بخيانتهِ كلّ يوم وهو خارج البيت، وحينَ التقيا (أي جيمس وليوبولد) في احدى حانات دبلن ذاتَ مساء، قال ليوبولد لـ جويس أنّهُ متأكدٌ من أنّ زوجتهِ تخونهُ في هذهِ اللحظة، وأنّ باستطاعتهِ أن يشمّ خيانتها له.
***
ظلّت علاقة جيمس وطيدة بـ ليوبولد، لكنّهُ لم يفكّر بالبدء بكتابة شيء عن هذا الرجل بعد، بل ظلّ يلتقي بهِ من وقتٍ إلى أخر في الحانات اللاتي عادةً ما يجلسان فيها، كانَ هذا حتى ذاكَ اليوم الذي صادفَ (السادس عشر من يونيو 1904) حينَ كانَ كانَ جويس على يسيرُ في احدى الحدائق القريبة من النهر، ورأى فتاةً تقترب من ناحيته. أثارت هذهِ الفتاة شيئًا في داخله فلحقها وحاول التحدّث إليها بخجل، كانت نظرتها لهُ وقتها تحمل جرأة كبيرة لم يستطع جويس تحمّل اغرائها، وحينَ سألها عن بلدها، ظلّت تحاول السخرية من سؤاله... شعرَ جيمس وقتها بالراحة تجاهَ هذهِ الفتاة، وظلّ يسيرُ معها بمحاذاة النهر وبدأ في التحدث إليها... عرفَ أنّ اسمها نورا بارنكل وأنّها تشتغل في إحدى الفنادق الشهيرة، وأنّها تقضي يومَ اجازتها في التجوّل حولَ دبلن التي لا تعرفها جيدًا. عرضَ جيمس عليها أن يعرفها على دبلن وشوارعها فوافقت. هكذا قضى الإثنان يومًا ممتعًا حولَ المدينة، وفي أخر الليل، وحينَ كانا عائدين، قبّلت نورا جيمس على شفتيه، وحينَ لامست شفتا نورا شفتي جويس، سكب الثاني سائلهُ المنوي، فأدركت نورا أنّها أمامَ فتًا لم يفقد عذريتهِ بعد.
لقد جاءت نورا من بيئة متطرفة تقليديًا ودينيًا، واثرَ فقدها لحبيبها الذي ماتَ متحسّرًا على عدم قدرتهِ من الزواجِ بها، هربت بدورها من بيتِ خالها الذي كانت تعيشُ عنده مع أمّها. كانت قد لاقت حياةً صعبة، وقد أخذتها هذهِ الحياة الصعبة للهروب من بيتِ خالها والبحث عن عمل في دبلن، حيثُ التقت بـ جيمس وهناكَ بدأت علاقتهما التي ستمتدُ طيلة ما يقارب الثلاثين عامًا.
تلكَ الليلة، وحينَ عادَ جيمس إلى غرفته، كتبَ أولى صفحات روايتهِ "يوليسيس".. مخلّدًا بذلكَ يومَ لقاءهِ بحبيبتهِ أولَ مرّةٍ. ويحتفلُ اليومَ الإيرلنديون بيوم السادس عشر من يونيو كيومٍ للحبّ تخليدًا لذكرى جيمس ونورا، نورا التي بفضلها صارَ جيمس جويس كاتبًا، ولولاها لما كتبَ مجموعتهِ "دبلنيون"، ولا أستطاعَ أن يكتب ملحمة القرن العشرين "يوليسيس".
غرقَ جيمس في حبّ نورا. كانا يخرجان سويةً في نزهاتٍ حولَ دبلن، يتبادلان القبل ويمارسان الحب على الشاطئ وفي الأزقة... وجدَ جيمس نفسهُ في محنةٍ، فقد كانَ خائفًا أن يفقدَ هذهِ الفتاة التي لن يستطيع العيش دونها، وهكذا بدأ كلّما يراها تجلس مع شخص ما أو تتحدّث إلى أيٍ من الرجال، كانَ يبدأ بممارسة قسوته وسطوته عليها. كانَ يشعرُ أنّها ستكون مثل زوجة ليوبولد، خائنة، خاصةً أنّها لم تكن عذراء عندما تعرّفَ عليها... في بادئ الأمر، كانَ يعيّرها بذلكَ، وكانَ كلما احتدمَ النقاش بينهما يصيحُ فيها: "كيف لي أن أثق في امرأة فقدت عذريتها قبلَ أن تتزوج؟"، وحينَ يجرحُ كلام جيمس نورا، كانَ الأول يشعرُ بالأسى على نفسهِ وبالاشمئزاز ممّا كانَ يقوله، لقد بدأ يشعرُ بنفسه شخصًا عاديًا يشبهُ عامةَ الناس المخدورون بكلام القساوسة، لقد كانت النقاشات والشجارات تكثر بينَ جيمس ونورا، وكانَ في كلّ مرة يعلّل لها سبب ذلكَ مشاكلهُ مع الحياة والناس والمجتمع الإيرلندي الغارق في الجهل.
أرسلت نورا رسالةً إلى جيمس تحاول فيها التحدّثَ عن حبها له، ورغمَ أنّ جيمس كانَ قد قرأ الرسالة بحبّ ونشوة، إلاّ أنّهُ كانَ يشكّ بأنها من كتبتها. حينَ التقيا قالَ لها ذلك، فقد قالَ لها أنّ ما كتبته لا يمكن لشخصٍ عادي أن يكتبه، انّهُ كلام فنّان أو شاعر أو كاتب... هذا الكلام جرحَ نورا، فقالت لهُ جملةٌ ستعلقُ في ذهن جيمس وستكونُ حاسمةً في مستوى كتابته، اذ أنّها قالت له: "على الكتّاب والشعراء أن يكتبوا كما يكتب ويتحدّثُ الناس والعامة، الأهم أن يكتبوا بعاطفة، وهذا ما قمتُ بهِ أثناء كتابتي لرسالتي تلك".. فعلاً، هذهِ الكلمات أثرت في جيمس وجعلتهُ يفكّرُ فيما تقولهُ نورا، وهذا ما جعلهُ لاحقًا يكتب أعمالهُ بذاتِ الطريقة المحكية في اللهجة الإيرلندية.
كذلكَ جملةٍ أخرى قالتها نورا لـ جيمس وهي ترى الكمّ الهائل من الأوراق التي كتبَ عليها ويقومُ لاحقًا بحرقها ورميها، قالت له: "هل تعتقد أننا نملك الكثير من المال لشراء الورق وحرقه؟" هذهِ الجملة كذلكَ أثرت في جيمس ومنذ ذاكَ الحين لم يقم جيمس برمي أي ورقة يكتب عليها ولم يقم بحرق أيًا من أعمالهِ الإبداعية.
وحينَ شعرَ جيمس أنّ نورا بدأت تذوب من بينِ يداه بسبب سخافتهِ في الكلام وغيرته، قالَ لها أنّهُ قرّرَ السفر والهجرة من البلاد وأنّهُ يريدها أن تذهبَ معه... لعلّ جويس قامَ بذلكَ ليسَ هربًا من المجتمع الإيرلندي وحسب، بل ربما تكون هذهِ خدعة ليحافظ على نورا، فـ بالسفر إلى مكانٍ بعيد أناسهُ لا يتحدّثون الإنكليزية، سيمكنهُما من تقبّل بعضهما البعض، فوقتها لن يكونَ لهما سوى بعضهما البعض، مهما تشاجرا ومهما دامت الخلافات بينهما. وافقت نورا على السفر برفقة جيمس. كانت نورا بدورها تطمعُ في حياةٍ بعيدة عن حياة الكبت التي كانت ترهبها بدبلن، كانت تطمعُ بغرفة تجمعها وجيمس وحياةٍ أفضل من هذهِ التي تعيشها في الفندق، كما أظنّ أنّها كانت متأكدة بأنّ جيمس سيتغيّر، وسيظلّ قريبًا منها بعيدًا عن أي خلاف وشجار. كانت نورا واثقةً من قدراتهِ الإبداعية، من الكتابة والغناء والعزف على الغيتار، رغمَ أنّها لم تكن تفهم أيًا من كتاباتهِ الشعرية... كانت كتاباتهُ بالنسبة لها لغةً صعبة، تحتاجُ إلى تفكير وتعمّق لفهمها، رغمَ أنّها كانت أوّل من اطّلعَ على معظم أعمالهِ، كما أنّها كانت أولى من اطّلع على الصفحتين الأولتين من "يوليسيس".
وهكذا وجدَا العاشقين نفسيهما يحملان أغراضهما ويتوجّهان إلى تيريستا، عل الحدود الإيطالية.
تعليقات