ما رواهُ النوم


السرد المتغيّر والمحاولة الأولى لنصٍ تجريبي

قبلَ البدء بقراءة رواية لكاتبٍ شاب عشريني من الجيل الجديد، ينتابني ذلكَ النوع من الرهبة والخوف والسعادة والقلق. إنّها حالة خوفٍ من ما سأقرأه، فإمّا أن يكونَ عملاً روائيًا شيّقًا ومثير فأشعرُ أثناء انتهائي منهُ بحزن وحسرةٍ شديدتين لأنني لم أكتب عملاً يضاهي جمال هذا الذي قرأتهُ، أم أن يكونَ عمل سطحي وخالي التجربة وكل أبجديات القوّة الإبداعية، وبذلكَ أشعرُ بأنّ كرامة الرواية قد أُهينت من جهة وأنّني قد أضعتُ وقتي من جهة أخرى.

كلّ هذهِ المشاعر المتناقضة والمثيرة بين الخوف والرهبة والقلق والسعادة، كانت بداخلي وأنا أفتحُ أولى صفحات رواية "ما رواهُ النوم" للكاتب اللبناني الشاب "هلال شومان" الصادرة في العام 2008. و"ما رواهُ النوم" هي الرواية الأولى لكاتبها الذي يملكُ مدوّنة معنية بنشر النصوص الأدبية من قصص قصيرة والنصوص السردية وما إليه، وقد كانَ نشر هلال شومان لرواية بعدَ الكمّ الهائل من القصص القصيرة التي قامَ بنشرها على مدى سنواتٍ في مدونتهِ أمرًا غريبًا وجريئًا في كلا الحالتين: فقد كنتُ أقولُ بداخلي أنّ على هلال أن ينشرَ القصص القصيرة التي كانَ يكتبها وينشرها بينَ مدونته وجريدة السفير قبلَ نشرهِ للرواية. ذلكَ أنّ القصة القصيرة التي كتبها ولا يزال يكتبها لهيَ بحدّ ذاتها نصوص تستحق أن توزّع ورقيًا لما تحملهُ من حكاياتٍ وأسلوب وطريقة واعية في الكتابة السردية. ولهذا بتّ أجزمُ بأنّ نشرَ هلال شومان لرواية متجنّبًا نشرَ قصصهِ القصيرة في كتاب لهوَ أمرٌ يعني بأنّ هذهِ الرواية ستحطّم كلّ قصصه بأسلوب أكثرَ حنكة وحبكة عبقرية وتركيب عميق للشخصيات، إلاّ أنّني حينَ قرأتُ الرواية في جلسة واحدة ذاتَ مساء، وجدتُ أنّ "ما رواهُ النوم" كانَ يمكن أن تكونَ نص سردي مفتوح ضمنَ مجموعة قصصية بإضافة ما نشرهُ في المدونة، أو أنّه كان بإمكان شومان أن يقومَ بفكّ الفصول وبذلك تتحوّل معظمها إلى قصص قصيرة.

الأن، وبعدَ قراءة الرواية، يمكنُ أن نتحدّث عنها بأنّها نصٌ مليئ بالفصول القصيرة ذاتَ الحكايات المأخوذة من خلفية حياة الراوي الذي يحلمُ بكتابة رواية. الراوي يعيشُ حياةً مضطربة بينَ ماضيه وعائلتهِ من جهة، وبين الحاضر وعشيقته من جهة أخرى. تنتقل الفصول متسارعة بسبب انتقال الحالة الزمنية دونَ أيّ تمهيدٍ بذلك. يحاولُ الكاتب أن ينتجَ شيئًا أقربَ للتجريب منهُ إلى خلقِ أسلوب مغاير عن الأسلوب الكلاسيكي الذي يتحكّم فيهِ التصاعد الزمني.

الشخصيات في الرواية تظهر وتختفي حسبَ تسلسل النصّ. يعتمدُ الكاتب على استخدام طريقة التحدّث عن الشخصيات دونَ أي وجهة نظر حولَ تصرفاتهم الغريبة الأطوار في بعض الأحيان، كما أنّ شخصية عشيقة الراوي رغمَ حضورها القوي، إلاّ أنّهُ لا يمكن للقارئ أن يأخذ عليها أي انطباع. الكاتب هنا يعرض تفاصيل نصّهُ بشيء من الفلسفة. الراوي يعطي الأمثلة والقارئ يجيبُ عنها ويحتفظ بها لنفسه!! (هل وصلَ المعنى؟).

لا وجودَ لحبكة في هذهِ الرواية ممّا جعلها أقربَ للمذكرات منها إلى القصص القصيرة. فيمكن القولُ هنا أنّ الكاتب لم يشتغل بتاتًا على الحبكة الرئيسية في العمل، ممّا يجعل القارئ في حالة ضياع حولَ ما يريدُ أن يعثرَ عليهِ في جوّات النص. بعضُ الكتّاب لا يعتمدونَ على صناعة حبكة في رواياتهم فيضطرونَ للإكثار من القصص والمواقف والحوارات والشخصيات كَي يغطّوا فجوة الحبكة ممّا يجعل القارئ مستمرٌ في قراءة النصّ دونَ أي اشارة استفهام فوقَ رأسهِ، ولكن لأنّ هذهِ الرواية (أي: مارواهُ النوم) لم تكثر من الحوارات والشخصيات فيها محدودة والهدف من كتابتها بسيط، لهذا سيتساءل القارئ على عتبات الصفحة الأخيرة عن ما هية الحبكة هنا، ولن يعثرَ على جوابٍ حتى أخر الصفحة. (هل يكونُ هذا يا تُرى تكنيك من الكاتب لتشويق القارئ؟)

أقوى المشاهد في الرواية حسبَ وجهة نظري هي مشاكل الراوي الذي (يخرأ) دمًا كلّما دخلَ الحمّام. في ذلكَ رمزية واضحة من جهة، ومن جهة أخرى تعطي تصوير (كفكاوي) الطابع عندَ القارئ. وكذلكَ في لحظة من اللحظات يتخيّل القارئ أنّ هذا النص هو سيرة ذاتية لكاتبها، إلى أن يصلَ السرد حتى لقاء الراوي بزميلٍ قديم لهُ يدعى (هلال شومان)، وعلى الرغم من أنّ هذهِ اللقطة قد كتبت كثيرًا في العديد من الروايات، إذ يلتقي الراوي ببطل الرواية أو القصّة، ولكن الطريقة التي عرضَ فيها هلال شومان نفسهُ داخل النصّ جاءت ممتازة.

كذلكَ الحوارات اعتمدَ فيها الكاتب على ما يريدُ ايجازهُ دونَ الثرثرة الزائدة. وأيضًا حواريات الراوي مع الله، واشارات الاستفهام التي تتبعُ اسمَ الله كذلكَ تحملُ دلالات ومعاني فكرية بحثة.

قالَ هلال شومان أنّهُ حاليًا يعملُ على روايتهِ الثانية والتي ستصدرُ قريبًا عن دار نشر عربية كبيرة، وحينَ قالَ لي ذلكَ، شعرتُ بما كتبتُ عنهُ في أول العرض: شعرتُ بالخوف، القلق، الرهبة والسعادة. الرهبة من ما سيكتبهُ هلال في روايته الثانية ومن طريقة كتابته لها ومن حبكته فيها. فربما تكونُ رواية "ما رواهُ النوم" متواضعة في أسلوبها وقصّتها، ولكن ما يخفيهِ قلم "هلال شومان" أعظمَ بكثير، وهو كاتب ننتظرُ منهُ الكثير، دونَ أدنى شك، وتوالي رواياتهِ سيثبت ذلك.

تعليقات

‏قال هلال شومان
معظم ملاحظاتك في محلها يا صديقي.
النص كان مفتوحاً، كتبته في فترة خففت فيها نشاطي في المدونة كثيراً وأردت الانتقال لنوع أدبي مختلف. الانتقال صعب، بين الأنواع خاصة أذا كنت أجرب للمرة الأولى. قررت أني أود أن أكتب رواية ، وكان التجريب صعباً. قررت أن أفرط السبحة وأجمع الحبات حبة حبة. الفصول القصيرة فيها شيء من التدوين صحيح. كتبت فصولاً قصيرة عديدة، ثم ابتعدت عما كتبته ونظرت. وجدت ثيمة أساسية واعدت الاقتراب، جمعت الحبات، غيرت الترتيب، وأضفت، ثم تابعت الكتابة وابتعدت حتى وصلت لهذا الناتج.
أكاد أكون متفقاً معك في معظم ما كتبته لكني أود التركيز على أن للرواية تفاصيل محلية قد لا تكون انتبهتَ اليها. الرواية تدور أحداثها (أو لنقل يومياتها) في بيروت ما بعد 2005. تحديداً في تلك الفترة التي كان الناس فيها يلتصقون بشاشات التلفزيونات ولا يخرجون من بيوتهم. المتفجرة تضرب في أي لحظة. أحد الصحافيين كتب مرة في ذلك الوقت أن الناس كانت تمشي قطرياً في الشارع بشك زيج-زاج وتحاول الابتعاد عن مستوعبات القمامة. مستوعب القمامة مكان مثالي لمتفجرة. لا يمكن وصف ذاك الوضع بأقل من خراء ممزوج مع الدم. هناك شخص في مكان ما يحدد لك متى وأين سيكون الانفجار. والانفجارات لم تكون ضاغطة أو بشكل جماعي (أتكلم عن الانفجارات التي تلت انفجار الحريري). كانت متفرقة ومحدودة. يعني الشخص اللي كان يروح ضحية بمتفجرة، كان فعلاً حظه خرى.
نحن إذاً في حالة انتظار، لشيء لا نعرف اهيته وأين وكيف.
حالة الانتظار هذه هي كل الرواية. الراوي ينتظر، والقارئ ينتظر، وكان التحدي هو كيفية سحب القارئ للنهاية وهو ينتظر كل الوقت. الشخصيات لمحات، فيما عدا ديالا، الكثيرون يظهرون ومضات. هناك شيء هلامي، أتفق معك. كل شيء يخرج من داخل الراوي. كل شيء يصب في مصلحة يومياته.
التجربة ما كانت لتنفّذ إلا في ها الشكل. بعد هذه التجربة، حاولت الانتقال من النمط التدويني إلى المحكيات أكثر. في الرواية الجديدة طلاق لأسلوب ما رواه النوم. ما أود قوله، أن التجريب لا يتعاض على الاطلاق مع الكلاسيكية. التجريب يصير كلاسيك في المستقبل، وهو مرتبط بعوامل اجتماعية وثقافية طارئة. في الرواية الجديدة، أظن، انتصار للحبكة على الأفكار أو الفلسفة المضمّنة. أصبحت الآن أكثر وعياً لما يمكن أن تقوله الشخصية أو ما لا تقوله. بناء الشخصيات أمر صعب. أقوم به شيئاً فشيئاً من تجربة لأخرى. أحياناً عندما أنتبه لشيء غير منطقي مرتبط بشخصية ما، ألجأ إلى لعبة فنبة داخل النص. .
هو التجريب الذي يصيب أحياناً ويخفق أحياناً أخرى، يخفق تماماً ككل شي ارتبط بذلك المربع الأبيض في الطرف الاعلى من غلاف الكتاب. :)
شكراً مصراتي. أما القصص القصيرة، فموضوع آخر.
‏قال عابد
شكرا استاد محمد المصراتي على هذه اللوحة الرائعة المفعمة بباقات عذب الكلام بما تحمل من ملاحظات لناقد ثاقب الرؤية ، وقد استنفر الروائي ليجيب عن دواعي نظم حبات سبحة منفرطة يبدو انها لا تلتئم في رواية واحدة ولا يكفي لنظمها صفحات وصفحات .. شكرا استاذ محمد اعتز بك كليبي واتشرف بمتابعة قلمك الدليق وان كنت ابعد ما يكون عن الولوج في تضاريس حقل الرواية..
‏قال Bunn
بقالي فترة ناوي اكتب كلمتين بخصوص هذه الرواية الفريدة، وبما أن أحلى الكلام هو الذي يأتي ردّاً على كلام آخر، أيْ عن طريق المخاطبة الجدلية وبلاش اقول مادية ،فإني أغتنم هذه الفرصة كي أردّ على بعض ما جاء في كلام الأخ مصراتي ، وبذلك أدلي بدلوي في النقاش الدائر حول هذه الرواية بإذن الله (الله؟) :)

أولا أتفقّ مع المصراتي في اهتمامه بالخرا الممزوج بالدم، لا مؤاخذة، إلا أني ما يهمني في هذا ليس ما يسمّى بالرمزية - أصل الرمزية دي تبقى حاجة محدودة نوعاً ما - بل مجمل الروابط واللينكات الجديدة التي تفتحها لنا هذه الصورة - من بين صور أخرى - المشحونة بالانفعالات الحسية والتحرّكات الجسدية - سواء تحركات الكاتب أم القارئ. بمعنى أنني لا أحب أن أتقيّد بمعادلات بسيطة من النوع " هذا يساوي ذاك، هذا يرمز الى ذاك " إنما أرى في هذه الرواية والعمل الأدبي بشكل عام ما يفتح الإمكانيات، والتجارب الجديدة، والاتجاهات المغرية والانحرافات المختلفة.

مثلا الأخ المصراتي يكتفي بأن يقول ان " الرمزية واضحة "، لكني لا أراها واضحة أبداً، بل مشحونة كما قلت - أو حتى مسكونة -، ودليل على ذلك ما قاله هلال بأنه كان يعيش تجربة معينة خلال عملية الكتابة، أي أحداث ما بعد الرابع عشر من آذار، وهذا جزء مما يشحن الصورة المذكورة أعلاه. وقد نزيد على ذلك لينكات جديدة، فنقول أن هذه الأعراض الجسدية المرافقة لعملية التغوط مرتبطة أيضاً بعملية الكتابة، بل والرغبة والإنتاج والخصوصية وكل ما تولّده من هواجس ، وقد أذكر هنا صنع الله ابراهيم في تلك الرائحة، أو كتاب ماهي بنيبين، أو بعض أعمال ابراهيم الكوني.

ما يبرز هنا أيضا فقدان السيطرة على الجسد، وعملية الجهاز الهضمي، وهذا يرافق تماماً العلاقة المتوتّرة بين الراوي والروايات المختلفة في غرفته، فيقول انه يريد أن يرغب في التخلّص منها قبل البدء في كتابة رواية جديدة.. أو قد نقول ان هذا هو " قلق التأثر " كما صاغه هارولد بلوم، الخ الخ

أخيرا أحب أقول إني أجد في الروايات بصورة عامة فرصة نادرة (بل نادرة جدا) لطرح أسئلة عديدة، وقد نطوّر هذا النقاش فيما بعد ونحن نطرح أسئلة أخرى منها: تلاقح الأفيشات الهوليودية مع الفعل الروائي مع الجرافيتي ، الخوف من الكيتش ، احمرار الخدين الخ الخ

واعتذر ان كنت طولت عليكو شوية وشكرا على حسن متابعتكم والى اللقاء

ب
‏قال هلال شومان
اكتفي بقول يثبت الريادة اللبنانية (اللي مش عايزة اثبات): يخرب بيتك يا بن.

شكراً
‏قال Bunn
يا لهوي

بيدو انني يجب أن اكفّ عن الكتابة باللغة العربية، اذ ليس ثمة من يفهمني، أو ربما هو أنا الذي لا أفهم وهو الأحرى

والله أعلم

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

موت محمد

معمّر مات