خواطر صايع عادي




قصة قصيرة

1
لحظة ولادة، وصرصور يجري على الحائط
وعينا أمي على الحائط تراقبان صرصورًا بنيَ اللون شاحب الحركة، وُلدتُ.
هل كانَ عليّ أن أذكرَ ذلكَ لأبدأ السرد؟ ربما هذا الشيء الوحيد الذي ظلّ في حلقي ولم أقله في معظم حكاياتي. أو ربما لم أقل شيئًا من حكايتي لأن ذاك الإعتراف كان كجدار يجب كسره لتدخل باقي الحكايات في سياق نص هو اعتراف لا أكثرَ ولا أقل.
وُلدتُ كأنني لا أريدُ أن أولد. ربما هذا ما حدث، وهذا ما قالتهُ لي أمي فيما بعد. لم أكلّف نفسي عناء السؤال، كيف، ربما لأنّ جملتها كانت شبه خاتمة للموضوع، بزفرتها، وهي ترتب لي ملابسي بعدَ أن نشفت. لممتُ نفسي وخرجتُ من البيت، وصوتُ طفلٌ ما في داخلي يبكي مبشّرًا الأخرين حوله أنه وُلِدَ وأنّ وقت الزغاريد قد حان. عدتُ إلى البيت وسألتُ أمي إن كانَ هناكَ من زغردَ حولها بعدَ أن وُلدت، فضحكت، وقالت أنه لا وجودَ لزغاريد، ومن ثمّ أضافت أن والدي لم يتصل بجدتي وأقاربنا عن اقتراب وقت ولادتها، لأنه كانَ نصف سكران وقتها.
نصف سكران؟ لم أرى أبي يومًا نصفَ سكران. امّا أن يكونَ سكراناً أو نائمًا، أو على الأقل، صاحيًا، يسألني أن أخذَ نقودًا من أمي لأشتري له كيس بوخة من فتحي الأسود، جارنا. والأن، يمكنني أن اراهُ واضحًا وأنا أنزلُ اعترافاتي. أراهُ بوضوح جالسًا في الصالون الذي نستخدمه غرفة للضيوف وغرفة نومي، وهو جالس أمامَ قنينة ماء ممتلئة حتى منتصفها بالبوخة يتفرج على التلفاز تارةً، ويشخر تارةً أخرى. وفي بعض الأحيان، كانَ يفرغ سيجارته ومن ثمّ يملأها من جديد، وعرفت لاحقًا أنه كانَ يصنع لفافة حشيش (جوانة).
أخواتي الستة، مكمّلة لولادة مشئومة
إذن، أمي ولدتني وهي تراقب الصرصور على الجدار المقابل لها، ووالدي نصف سكران، أو ربما حينَ تنفستُ لأول مرة وأنا خارج رحمَ أمّي، كان يضع فوهة القنينة في فمه ليتجرّعَ أخر قطرة.
هذان والدي ووالدتي، أمّا أخواتي الستة، فكنّ على أقل احتمال، في وضعيات ليست أقلّ سخرية من وضعيات والديّ لحظة ولادتي. مثلاً:
أنعام: أختي الكبرى، في الخامسة والثلاثين من عمرها، وقبلَ خمسة عشرَ عامًا بالضبط، كانت عشرونَ عامًا.
" شن كنتي اتدريري لما ولدتني أمك يا أنعام؟" سألتها، بينما كانت تغسلُ الصحون.
"مش عارفة". أجابت بعدَ أن شهقت كمن أوقعَ مصيبةً على كاهلها.
جميلة: أختي الأصغرَ من أنعام بتسعة أشهر. تبلغ من العمر الأن، أربعة وثلاثون عامًا. كررتُ على مسمعيها ذاتَ السؤال، وقد كانت منشغلة في إرضاع ابنها الثالث، الذي نسيتُ اسمهّ!!!
"كنت نقابل في معاد (زوجها الحالي) فوق العمارة" أجابت وهي تضحك، كمن انتصر.
انتصار: عمرها ثلاثون عامًا، وعام ولادتي كانت في الخامسة عشرَ من عمرها، كعمري الأن. تشتغل مع والدتي في مزيّن تجميل نساء في شارع هايتي. مخطوبة من الشاب الذي أحبت، وتقسّم وقتها بين ملاقاته في شقتنا، والمزيّن. وحينَ سألتها ذاتَ السؤال، قالت:
"كنت نتكلم في التليفون مع صاحبتي".
نجاح: أختي شبه الوسطى وهي في الرابعة والعشرون من عمرها. تدرس الطب في جامعة الفاتح، ومتديّنة حدّ النخاع. كانت تقرأ القرآن في الصالون، حينَ سألتها ذاتَ السؤال، فأجابت:
"الله أعلم".
ابتهال: تبلغ من العمر اثنان وعشرونَ عامًا، أي كانت في السابعة حينَ ولدت. ونسمّيها في البيت "سنفور غضبان"، على الرغم من أنها ليست جميلة في نظري، على الأقل، ليست جميلة في نظري ككل أخواتي لأنني أخاهن، ويجب أن أراهن قبيحات، وهي بالذات، للجرائم الجسدية التي ترتكبها في حقي، وقد سألتها ذات السؤال وهي تجري ورائي ماسكةً طنجرةً فارغة لتضربني بها:
"كنت نستنى هذا اليوم يا عن شكلك!!!".
إيمان: البنت الصغرى، والأقرب إلى قلبي، وتبلغ من العمر سبعة عشرَ عامًا، أي عامين حينَ ولدتني أمي. أجابت على سؤالي:
"وكيف حنعرف؟؟ كنت صغيرة وقتها".
أخطاء مطبعية
شيت، لقد ذكرتُ أسماء أخواتي، وفي العرف الليبي، أو بالأحرى، قانون الشارع الطرابسي على الأقل، يمنع منعًا باتًا ذكرَ اسم الأم، أو الأخت أو أي قريبة من العائلة، وهذا القانون يطبّق على الذكر الشهم والأصيل، ووحده الخالي من الشرف أو "ديوث" كما يقول البلهاء منّا، لا يجدُ مانعًا من ذكر أسماء إناث في عائلته، وهذا يفسّر نطحي لمدير مدرسة حيدر الساعاتي أثناء ملئنا لإستمارات الإمتحان، حينَ سألني بشكلٍ وقح وهو يشرحُ لي المكتوبَ على الورقة: "شن اسم أمك؟"، فقفزتُ عليه بنطحة صارخًا: "أمك".
أخطاء مدرسية
  • قالت لنا معلمة مادة التربية الإسلامية أن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، لم يرى في حياته عورته. ولهذا كلما نذكر اسمه، نضيف عليه "كرّمَ الله وجهه"!!!
  • معلمة مادة اللغة العربية تلقي على مسامعنا نحن التلاميذ الصغار، أصحاب الوجوه المطرودة من الجنة قصيدة عن فضل المعلم، وهي ماسكة في يدها عصا غليظة، وتقول بينَ كل بيت وأخر "قول معاي يا بهيم انت وهو!".
  • معلمة الرياضيات أصبحت مسخرة، لأنها ترتدي (فرّاشية).
  • معلم الرياضة يشرحُ لنا وظيفة مضغ العلكة. العلكة رياضة الفكين، ولكنه كلما رآنا نمضغ علكة في طابور الصباح كان يصرخُ فينا أن نحترم نداء الراية.
  • معلمة مادة الأحياء في الصف العاشر كانت عشيقة العسكري "عمر الأحول"، والمدرسة بأسرها تعرف هذا السر، وقد أدانوا بذلك، حينَ ظهرت مقاطع بلوتوث تكشفهما في صف (عاشر – أ) وهما في وضعية تسمّى بالإنكليزية:
Doggystyle.
أخطاء تحتريبية
دخنتُ الحشيشَ أول مرة، حينَ كنتُ والأصدقاء القدامى نتسكعُ بينَ سوق الحوت وسوق المشير.
تجربتي مع الحشيش لم تكن أكثر غرابة مع تجربتي والبوخة. أبي ينامُ الليل، وأنام بعده بنصف ساعة.. (أبي كان يترك بضعةَ كؤوس ممتلئة بالسائل الحارق.
أمّا الحشيش، فكانَ صديق الكساد والعكسة تحتَ البالوات في شارع عمر المختار. في الظهيرة الميّتة أو في الليالي الصيفية الطوال.
وفي سن مبكرة جدًا، أدركتُ أن أسوأ ما يقوم به الإنسان الهالك، مثلي ومثل أولاد الشارع، هو خلط الكحول والحشيش، لأنها ستكوّن طبقات من الجحيم الليلي.
ملاحظة: (لا أنصحُ بتدخين الحشيش وشرب البوخة بعدَ زرط حبّوب – الروج -، وفي وضح النهار)!
بينك فلويد
يقودُ عمّي سيارته دائمًا، والمسجل يدوّر شريط للـ بينك فلويد، وغالبًا ما يسمع أغنية:
Another Brick in the wall
عمّي يدخن سجائر مالبورو. لا أدري لماذ كلما وضعتُ أنفي على ملابسي الأن، وأشتممتُ رائحة تبغ مالبورو، أتذكرُ في لمح البصر عمّي. كانَ دائمًا ما يقودُ السيارة بسرعة في طريق قرقارش، وكنتُ أعرفُ أنه سيركن السيارة عند رصيف مقابل لمحل مشويات نسيتُ اسمه (هل نسيتُ اسمه؟). يعطيني مبلغًأ كبيراً من المال (80 دينارًا) ويطلبُ منّي أن أسأل الرجل بأن يعطيني دجاجة (كاملة)، ويصرّ وأنا أفتحُ الباب أن أطلب دجاجة كاملة.
الدجاجة الكاملة بـ 75 دينارًا. مرفقة بقنينة زجاجية كبيرة ملفوفة بالجرائد.
ألتهمُ جناح الدجاجة، وأتركُ الباقي لعمي الذي يأكل الفخذ يتبعها العصير ذو الرائحة النفاذة.
لاحقًا سأصيرُ صايعًا. سأجلسُ ورفاقي وأشمّ كأسي فتكونُ ذات الرائحة التي في قنينة عمّي... سأرى عمّي ذاتَ يومَ جمعة في المسجد لصلاة الجمعة. سأجلسُ بجانبه بعد ركعتا تحية المسجد وألتفتُ هامسًا في أذنهِ بكامل حماقتي وأقولُ له: "لم تقل لي أنّكَ تشرب الويسكي يا عمّاه"!
المزيّـن
هل شاهدتم فيلمًا بعنوان "سكر بنات"؟ أمّي ورفيقاتها كنّ مثلهن في المزيّن. كنتُ أذهب لأمّي هناك، وأجلسُ على الكرسي الأحمر مع المنتظرات لدورهن. كنتُ أستمعُ للنساء يتحدثن ويتهامسنَ حولَ عشّاقهن. سأرىَ أيضًا فرج امرأة لأول مرةٍ هناك. وسأرى حلمتين زهريتين لأول مرّةٍ هناك. سأسمعُ امرأةً تسبّ أيضًا هناك. وكلهن في النهاية يضعنَ فوطة على رأسهن يسمينّها "محرم رأس"، ويخرجن إلى الواقع بكامل حشمتهن.
احدى معلماتي، وقبل أن تصير معلمتي، كانت زبونة في المزيّن الذي كانت تشتغلُ فيه أمّي. تتحدّث معلمتي المستقبلية عن عشّاقها الأشاوس. عن غرامياتها وهروبها من البيت في ساعات الظهيرة. باختصار شديد، سأعرفُ تاريخ معلمتي. وفي المستقبل، حينَ ستصير معلمتي، سأقولُ لها حينَ تعطيني درجة صفر: "لماذا يا أبلة؟ لماذا تعطيني صفر وأنتِ كنتِ على علاقة بـ علي الأحول... لقد أعطاكِ صفرًا من تالي وأنا وحدي أعرف حتى هذا السر".
(و!!)
معلمتي تلك هي معلمة الرياضيات... وقد استمنيتُ في حضورها مرة. هذهِ قصة طويلة ولا أريدُ أن أكسّر رأسكَ بها وعلّي سأسردها لاحقا. الجدير بالذكر هنا معلّمة التاريخ المتزمّتة دينيًا والفائقة الجمال... حينَ أفتحُ كتاب التاريخ وأقرأ عن أمجاد صلاح الدين في معركة حطين أتذكرها وهي تشرح الدرس. أستغفرُ الله وأستأذن صلاح الدين للاستمناء.
قيلَ الوطن
قيلَ وطنٌ فقلتُ لستُ مواطنًا / إنما الوطن يخلقُ الهزائم.
(يتبــــع)

تعليقات

‏قال سمار
عزيزي مصراتي:
أولاً:القصة حازت على إعجابي بجدارة، وجدتها متَّحررة من النفاق الاجتماعي،والتقديس الذي نضفيه كلنا عادة على شخصية الأم والأب
والأخوة،باعتبارهم يمتون لنا بصلة،ولايمكننا الفكاك من التصاق جلدتهم
بجلدتنا مهما جاهدنا..وهذا يقودنا بالطبيعة إلى "التعمية "عن إنسانيتهم
التي تحتمل الصواب والخطأ.
ثانياً:لدي يقين أن من يفصح بهذه "الجرأة" عن أشياء،(أعدك بأن تتلاقى
عليها سباباً هائلاً في قادم الأيام)، ثلاث أرباعها ربما لم يمارسها سوى
مرة أومرتين على سبيل التجربة الأزمة للعدول عنها،وأنه أبعد الناس عنها،خلافاً لمن يتشدق بالنزاهة ليل نهار.
ثالثاً: عرفت أدب السيرة الذاتية في الرواية،وربما (الأيام)لطه حسين
كانت الفاتحة،وقد يسميها البعض قصة طويلة، وأن ظل خجولاً يمشي على استحياء ولم يلجه إلا قلة من الأدباء الكبار.إلا أني لم أتعرفه في
شكل قصة قصيرة،ربما لأني لم أعدأتابع الحركة الأدبية جيداً،فهل
ماتكتبه شكل جديد،ومن هم رواده.
رابعاً: إنّها لمغامرة كبرى ،أن تشكل أنت وأفراد أسرتك ومعلميك، والمجند"عمر الأحول"شخصيات القصة بالأسماء الحقيقية،وأن تجسد
سلوكياتهم،وقناعاتهم،واختلافاتهم.أنه لتعبير صريح عن الذات والتجارب.(أعد وجهك للسلخ ) فالسكاكين ستشهر عن قريب.
خامساً: اعترف أني كتبت شيئاً مشابهاً مذ سنين، وأن كان سقف الصراحة فيه ينقص عن هذا 180 درجة فقط،هو فصول من رواية
لم أكملها لأني أرتخيت بعد أن تأكدت أستحالة نشرها،بصراحة أكثر
الذات عندي لايزال يحكمها شرط اجتماعي معين.
سادساً: هناك سؤال لم أجرؤ على التلفظ به هنا على الملأ..ولكن
هناك سؤال ثان أقل حرجاً:
هل تحب الصرصور الآن أيها الطفل الكبير(بعد أن كان أول شخص يشهد ولادتك)،أم أنك تكرهه لأنها يذكرك بيوم لم ترد فيه أن تولد كما قلت؟
‏قال غير معرف…
مع احترامي لك الصورة التى تضعها وضيعة ومهينة للمراة ويبدو انك لم تعرف من المرأة الا العورة , عموما هذا النوع من الكتابة اصبح مستهلك لحد الغثيان شخصيا لا ارى اي ابداع انى ارى تكرار و اقتباس.
‏قال مو مصراتي
العزيزة سمار,, اعتذر عن تأخري في الرد، ولكن كم اسعدني تعليقك رغم انك ارهقتِ نفسكِ في كتابته.
معظم الكتب التي قرأتيها جميلة وقمتُ بالإطلاع عليها أيضًا، ولكنّي لم اقل انّ هذا النص الذي كتبتهُ سيرة ذاتية تمثلني أنا شخصيًا. ههناكَ بعض الاشياء المأخوذة من سيرتي الشخصية ومن بعض تجاربي، ولكن ما يخص العائلة وبعض المشاهد الأخرى لا تخصني البتّة. لكنها موجودة في مدننا المظلمة


تحياتي لكِ
محمد
‏قال عابد
شيء من الاعترافات لروسو .. شيء من الخبز الحافي لمحمد شكري .. شيء من موسم الرحلة الى الشمال للطيب صالح .. اعمال متميزة قدمت سرد لسيرة حياة .. تغترف من المحيط .. تذكرني هذه القصة بتلك الاعمال التي نالت العالمية .. ربما لانها لم تتوارى وراء التعمية واغرقت في المحلية الى ما وراء الخطوط الحمراء ..

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات