السيدة من تلّ أبيب

اليسار الاسرائيلي، أزمة الهويات، وثلاث شخصيات لوجع واحد
رواية "السيّدة من تلّ أبيب"، واحدةً من الروايات العربية التي ستكونُ ملخّصَ الوجع الفلسطيني والغربة والمنفى. إنّها رواية تتحدّث عن الحبّ والوطن والموت، متميّزةً بعرضها لإشكاليات لم يتطرّق لها الكثير من الأدباء والروائيين العرب، الذينَ عاشوا محنةَ كاتبها الفلسطيني الأصل، البريطاني الجنسية "ربعي المدهون".
لقد بُنيت رواية "السيّدة من تلّ أبيب" على أسسٍ السيرة الذاتية، منها إلى غوص تجريدي في ماهية البحث عن الذكريات، وفيها، يتناولُ الكاتب الفلسطيني مشاهدًا في صميم الذاكرة، لتتحوّل إلى أساسِ اللعبة الروائية والحكائية.
تبدأ الرواية بجملة: "غدًا صباحًا، يصل وليد دهمان إلى قطاعِ غزّة. لا تصدّق أمّهُ الخبر. تعتبرهُ إشاعة. خرافة، مثلَ عودةِ الفلسطينيين إلى ديارهم". ثمّ ينطلق السرد بمشهد رجل فلسطيني يدعى "عادل البشيتي" خرجَ من غزّة مع آلاف الطلاّب المهاجرينَ إلى مصر لغرض الدراسة، وقبيلَ خروجهُ، يعد حبيبتهُ، ابنةَ الجيران، بالزواجِ منها عندما يعودُ إلى القطاع. وفي أثناء دراسة البطل خارج قطاع غزّة، تبدأ حرب الأيام الستّة في العام 1967، ممّا يمنعُ الطالب وزملائهُ الكثر للعودةِ إلى ذويهم، فتتلاشى الأحلام والوعود، وتتزوّج الحبيبة من ابنةِ عمّها، بينما يتزوّج البطل "عادل البشيتي" من زميلتهِ الألمانية. إلاّ أنّ العلاقة بينَ البطل وزوجتهِ تظلّ في تقاضب واضطراب، ممّا يسارعُ في انتهائها بطلاق الطرفين، وبعدَ ثمانية وثلاثينَ عامًا يقضيها في ذكرياتِ الوطن والسعي وراء لقمةِ العيش، يصلُ إليهِ في غفلةٍ من أمرهِ نبأ مقتل زوج معشوقتهِ القديمة على يديّ قنّاص اسرائيلي فيستعيدُ أحلامَ فترة المراهقة، ويأخذُ زادهُ متّجهًا إلى غزّة. في ذاتِ الفترة، يقرّر الراوي، البطل، والكاتب العودةَ إلى قطاع غزّة، بعدَ سنواتٍ طويلة قضاها في لندن، وهو يحملُ جوازَ سفرهِ الإنكليزي، كَي يرى أمّهُ التي فارقها منذ عقودٌ أولاً، ولكي يعطي لروايتهِ الرابعة، (التي يكتبها حولَ صديقهِ "عادل البشيتي" وقصّتهِ مع ابنةِ جيرانهِ)، مسحةً واقعية، فكانَ عليهِ النزول إلى غزّة كي يعايشَ الأحداث الأخيرة، وفي الطائرة، يتعرّف على ممثّلة اسرائيلية تدعى "دانا آهوفا"، يقضي الراوي برفقتها وقتًا طيّبًا في الحديث والمداعبة، ومن ثمّ تحكي لهُ عن علاقاتها، والتي من بينها علاقة جمعتها بإبن زعيم عربي مشهور. فتبدأ من تلكَ النقطة رحلة عادل والراوي ودانا إلى تفاصيلِ النصّ.
تنقسمُ الرواية إلى ثلاثة شخصيات، كلّ منها تعبّر عن حالةٍ وقلق، وتتحكّم بإطار تسلسل النص، هناكَ كما أشرنا البطل الرئيسي / الكاتب، وليد دهمان، عادل البشيتي، المهاجر إلى ألمانيا والمار بعلاقة زواج فاشلة مع زوجتهِ الألمانية بسبب اختلاف العادات والتقاليد والثقافة، ودانا الممثلة والتي تحمل من أحد عشّاقها، دونَ أن تعرفَ من هو أب هذا الذي في أحشائها.
شخصية دانا آهوفا في النصّ، تعبّر عن اليسار الإسرائيلي ومناهضتهِ للعدوان على الفلسطينيين، وكما يعبّر الراوي وليد دهمان في القسم الخاص بالممثّلة الاسرائيلية والذي وضعَ لهُ عنوان "ظلاّن لبيت واحد"، فإنّهُ عن طريقِ هذهِ الشخصية، استطاع بشكلٍ أو بأخر التوغّل في الشخصية الاسرائيلية من جهة، وقضية الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي من جهة أخرى، وبعينٍ شبهُ محايدة في الكثير من التفاصيل.
بينما في شخصية البطل الراوي، فهناكَ أزمة الهويّة، وأزمة الوطن وماهية المنفى. إذ أنّ الراوي عندَ مقابلتهِ لأمّهِ، وعودتهِ إلى مسقط رأسهِ، تنفجر في أسرّتهِ سؤال الذاكرة والحنينُ لها، حيثُ يصبحُ المنفى أو الوطن البديل واقعًا، ويصير الوطن افتراضًا، وهذهِ نظرةً وحدهُ المهاجر أو المنفي يدركها ويمرّ بها، وقد استطاعَ الروائي أن يجسّدها ويعبّر عنها بامتيازٍ في روايتهِ.
لقد كسّرَ "ربعي المدهون" في روايتهِ، السرد الذي يتناول الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. لقد استطاعَ أن يخلقَ روايةً جديدةً في مضمونها وطرق التعامل معها وشخصياتها. استطاعَ أن يعبّر عن الطرف الأخر – الاسرائيلي بعينٍ أخرى لا يكتبها الروائيين الفلسطينيين – العرب في رواياتهم. ورغمَ أنّ الكثير من النقّاد عبّروا عن هذهِ الرواية، على أنّها تركبُ على أكتاف الروايات التي تتناول نفسَ القضية، كرواية "باب الشمس" لإلياس خوري و"عائدٌ إلى حيفا" لغسّان كنفاني ، و "أرض اليمبوس" لإلياس فركوح، وغيرها من تلكَ الروايات المبنية على طرف واحد، إلاّ أنّ الكثيرَ من النقّادِ أيضًا عبّروا عن رفضهم للرواية على أنّها بعنوانها وجوهرها فكرةً مرفوضةَ النقاش في ظلّ المذابح الاسرائيلية التي يشاهدها الفلسطينيون في قطاع غزّة. فا في الرواية، يقولُ ربعي المدهون، للفلسطينيين والإسرائيليين أنّهم يتشاركونَ أرضًا واحدة، سواءً أأحبوا ذلك أم رفضوا، وعليهِ فإنّ السلامَ وحدهُ هو القابل لإنهاء هذهِ الحرب، والتعايش في ظلّ الدولة الواحدة.
تتشعّب الرواية بتفاصيلها وشخصياتها الثلاثة، حتى صارت ثلاثة روايات في رواية واحدة إنّها رواية الحب، والفراق، والمنفى، والوطن والموت والسياسة والفن والفضائح، وفي نهايتها، يقسمُ كاتبها ظهرها بحيثُ يذبحُ السرد، ويضع أشلائهِ على نقطةٍ عشوائية تزرعُ ذاكَ الخوف والتوتر في داخل القارئ، فـ دانا آهوفا، تتصّل بالراوي وتقولُ لهُ بأنّها جاءت إلى لندن وتريدُ مقابلتهُ في اقرب وقت كَي تخبرهُ بعض الأسرار، فينتفض الراوي من كرسيه في مقرّ عملهِ، ويحمل نفسهُ إلى حيث اتفقا أن يلتقيا، وهذا ما يشدّ القارئ، خاصةً في حكاية ابن الزعيم العربي المشهور، إلاّ أنّ الراوي يختفي في ظروف غامضة، حينَ جاءت أخر جملةٍ في الرواية، حيثُ قالَ ختمت بـ "وليد دهمان، ودانا آهوفا، لم يلتقيا ذلكَ المساء".
في النهاية، يجدر بنا التحدّث عن أسلوب الروائي في روايتهِ. فالأسلوب جاءَ بأسلوب عربي / أعجمي. استطاعَ الكاتب من كثرة اطلاعاتهِ باللغة العربية واللغات الأوروبية والكتب المترجمة إلى العربية، أن يخلقَ ذاكَ الأسلوب الذي يكتبُ بهِ الكتّاب الأوروبيين الفرنسيين في الستّينات والسبعينات، ولكن بطريقة أخرى تعبّر عن قدرة رفيعة وخصوصية في معرفتهِ لأسلوبهِ، وكذلكَ رشّحت الجائزة إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2010، وقد رشحها الكثيرين للفوز، كما أنّ الروائي ربعي المدهون، كانَ قد كتبَ بعض الروايات من قبل هذهِ الرواية، ولكنّها جاءت مبتذلة وليست بالقوّة والعمق، ممّا جعلها لم تأخذ حقّها كفايةً في النقد أو الاهتمام، ويعلّل الروائي سبب ذلكَ أنّ العمل الصحفي والبحثي والأكاديمي يسرق منهُ جلّ وقتهِ، وهذا ما جعلَ كُتبهُ السردية السابقة، ليست محلّ اهتمام.
رواية "السيّدة من تلّ أبيب" والصادرة في مايو 2009 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وعمّان، هي الرواية الأجدر، للتعارف والسلام، والتي تحملُ نبؤةٌ، قد تتحقّق يومًا.
---
هذه القراءة كُتبت لصالح بودكاست امتداد.. للإستماع إلى الحلقة، اضغط هنا
تعليقات