كريسمس 94

فصل من رواية ثلاثية هافانا القذرة
في صباح يوم الأحد، الخامس والعشرين من ديسمبر، صعدَ أنجيلو إلى سطح العمارة. كان رجلاً في الستين من عمره، وكانَ يسكن في الطابق الرابع، وقد طلبَ منّي بأدب واحترام السماحَ له بالتسلّق إلى السطح للتأكد من سلامة خزّانات المياه بعدَ أن اكتشفَ أنّ هناكَ مياه تقطّر في بيته منذ أيام. لاحقًا، سأكتشفُ بأنني أجدتُ الخلطَ بين الإحترام والحزن، فقد سمحتُ له بالصعود إلى السطح، وما هي إلاّ ثوانٍ معدودة، حتى رمى بنفسه على طول مائة وخمسون قدمٍ إلى الشارع. أول من تقدما باتجاه الجسد المتكوّم على الاسمنت كانا كلبان شاردان. أكلا جزءًا من الدماغ الساخن الغارق في دمه، وقد كانَ دونَ شكٍ إفطارًا لذيذًا!
الكهلة والعجائز أخذوا الأمر بمحمل الجدّ، مظهرين اهتمامًا حقيقيًا بما حدث. كانت هذه حالة الوفاة الخامسة في المنطقة في فترة قصيرة. ليلي البقّالة قالت لي مرّة: "الناس المحترمين لا يسافرون أو يقومون بمشاريع مادية أو الذهاب إلى الحفلات أو حتى الانتحار في شهر ديسمبر. المؤمنون يعلمون أن ما تحصّله السنين، يمكن أن تكون ذو منفعةٍ أيضًا".
إلاّ أن أيً من الشباب لم يهتم بالحادث، فالموتَ لا معنى له عندما تكونُ شابًا. إنه بعيدٌ جدًا!
لسنوات، كان أنجيلو ثملاَ طيلة الوقتِ. عائلته مبعثرة. إبنته التي اشتغلت كمومس قررت أن تتزوج وانتقلت وعائلتها للعيش في قرية في سيغوفيا، وعاشت هناكَ حياةً جميلة كربّة بيت. ابنهُ هاجرَ إلى ميامي، وعندما رأت زوجته أنها وحيدةٌ مع ابنها المراهق دون سند، اقتنصت الفرصة وبدأت ترقص وتغنّي في فرقة صالصا، حتى وجدت نفسها بضربة حظ في المكسيك، تقدّم برنامجًا إذاعيًا حولَ فن الصالصا. انتقلَ أنجيلو برفقة زوجته – كانا يتشاجران على الدوام – وحفيده، ابن مقدّمة البرامج والرجل المهاجر إلى هافانا، وبعدها توفيت زوجته بسكتة قلبية، وعاشَ الرجل العجوز وحيدًا مع حفيده إدواردو، صديقي.
لا أحدَ يتذكرُ بأنه الكريسمس. لا يعرف الشباب شيئًا عنه. كل ما يعرفونه عن يوم الكريسمس ومساء الكريسمس، كانَ ممّا سمعوه من العجائز والكهلة.
كانَ يومَ أحد بارد وجميل. الشمس ساطعة والبحر هادئ. رغوته بيضاء على الشاطئ، وخلفه سماء عميقة، ممتدّة وكثيفة، عليها قصاصات غيوم تهبّ من الشمال وتبدو كدوائر. مشهد كهذا لا يمكن أن يثير رجلاً عجوز رمى نفسه إلى العدم.
ذهبَ ادواردو، حفيد آنجيلو مع الشرطة. صاغوا هناك شهادة الوفاة، وعادَ عندَ الظهيرة. صعدَ إلى السطح مرحًا، باحثًا عنّي. كنتُ يومها أخبئ قناني خمر في غرفتي.
"اسمع يا صديقي، الليلة سنجني الكثير من المال".
"كيف؟ ألستَ مشغولاً للإهتمام بمراسم دفن جدّك؟"
"لا لا، هذا الأمر انتهى. قالوا لي أن الطبيب الشرعي سيكون على اتصال بي لاحقًا. هل لا زلتَ تملك قناني خمر؟"
"نعم . لقد بعت القليل اليوم".
"اسمع. عندي مائة حبّة مخدر. الليلة، هناكَ جماعة من القوطيين سيلتقون في مقبرة كولون، وان أخذتَ معكَ عشر قناني خمر، سيكون بامكانك بيعها كلها".
"ممتاز، كم سيكون ثمن القنينة؟"
"دولارًا واحدًا على زجاجة الخمر، ودولارًا واحدًا ثمن عشرون حبّة تخدير".
"يبدو الأمر شيّقًا".
"اسمع يا بيدرو خوان. أرجوك لا تخذلني الليلة. سأكون عندك على تمام الحادية عشر لنذهب سويةً".
"هل ذهبتَ هناكَ من قبل؟"
"لا تقلق بشأن هذا الأمر. أملك كلمة السر، ولن تكون هناك عثرات".
في تلك الليلة كسبت الكثير من المال. ذهبنا في شارع ضيّق وراء المقبرة. كانت الكهرباء منقطعة ونحن في الطريق إلى "فمّ الذئب". القوطيون، عبدة الشياطين كانوا مجتمعين في قبو بيت كبير مبني من الحجارة والزجاج. كان القبو مهملاً وقذر. زجاج النافذة كان محطّمًا، ولافتة رخامية سوداء كُتب عليها: " عائلة غوميز ميسا". في وسط القبو كان هناك قبر وردي اللون محفورٌ بدقّة.
البعضُ هناك كانوا يجلسون بالقرب من تمثال عليه شمع مضاء، يقبّلون جمجمةً، يدخنون الحشيش، يتعاطون الحبوب، وأحدهم كانَ يغنّي موسيقى "روك" هادئة بصحبة غيتاره. كانَ من حسن حظّي أنهم اشتروا كل ما أملك من قناني الخمر بسرعة مدهشة. في الزاوية حفّار القبور الأسود اللون، والذي ساعدهم للدخول هنا ويقوم بحراستهم، كان يضاجع أحد القوطيين في مؤخرته. لو اقتحمَ الشرطة المكان سأقع دون شك في ورطة. لقد دفعتً لحفّار القبور دولارًا وأحتفظت بتسعة دولارات. كانت الطقوس في القبو تشتد بينَ القوطيين، وادواردو يرفض مغادرةَ المكان، فلقد كانَ مسطولاً ومندهشًا لرؤية حفّار القبور وهو ينكح القوطيَ بعصا غليظة في مؤخرته. ابتعدتُ لوحدي من ذاك الجحيم. في الحقيقة، كنتُ خائفًا.
---
رواية: بيدرو خوان غويترييز
ترجمة: محمد مصراتي
اقرأ أيضًا: ملك الواقعية القذرة يعرّي الأماكن برائحتهـــا
تعليقات