حلم وردي

أحلام القبلاوي الوردية

القصة القصيرة الحديثة تعتمد بشكل أو بأخر على طريقة أدبية جديدة في التعامل معها، وبناء سردي عميق وأدوات فنّية لم نعتد عليها في معظم القصص القصيرة التي أنتجتها الأجيال السابقة، ومن أهم مميزاتها: الإختصار، تقصير الجمل، التقطيع وتشتت الأحداث حتى تكون في إطار قصة قصيرة. أما بعض القصص الكلاسيكية فيمكن أن نطلق عليها بـ 'الرواية القصيرة جداً'. فالرواية هيَ خلق عالم موازي لهذا العالم، وأن يعتمد على بناء أكثر من مشهد وأكثر من حوار وبه 4 شخصيات أو أكثر، وهذا ما نراه غالباً في القصص القصيرة الكلاسيكية. وبذلكَ يمكننا على سبيل المثال أن نضع أغلب قصص بورخيس تحت خانة 'روايات قصيرة جداً'، وهذا ينطبق أيضاً على قصص 'إحسان عبد القدوس' وغيرهما.

أمّا في المشهد القصصي الليبي، فإن الأسماء القصصية البارزة لا تكاد تنحصر على أصابع اليدا العشرة، أما الأسماء الحديثة فإنها بالكاد تنحصر بين خمسة أو سبعة أسماء ليس أكثر، وقد ظهرت هذه الأسماء في نهاية التسعينات، مع بداية ثورة الإنترنت، فقد ظهر في ليبيا جيل قصصي جديد يعتمد في كتابته للقصة القصيرة على معايير معينة وشديدة الخصوصية، خاصةً تلك التي تحمل في طياتها سرداً متزن وعمقاً فلسفياً، وثقافةٌ هي حاصل القراءات الأدبية والثقافية التي لم تكن موجودة في الثمانينات والسبعينات، مما سببت بعقم ثقافي إن لم تكن كارثة ثقافية.

ولا أخفي أنني مقصر جداً من ناحية متابعتي للأدب المكتوب بأيدٍ ليبية، وخاصةً في المشهد القصصي، ولكن في ذات الوقت، أحاول أن أتابع وأقرأ بشكل أو بأخر أي عنوان أو إسم جديد في القصة أو الرواية الليبية من خلال المواقع الإلكترونية الليبية المختصة في نشر النتاجات الأدبية، ولعل تعرفي على الدكتور غازي القبلاوي، الكاتب والطبيب الليبي المقيم في لندن كانت فرصة للبدء بمتابعة القصة الليبية الحديثة، وكانت البداية حقاً حينَ أهداني القبلاوي مجموعته القصصية الصادرة عن 'المؤسسة العربية للدراسات والنشر' والتي اختار لها عنواناً مقتبساً من جملة في النص الأخير من الكتاب: 'وجه لا يعرف الحزن'.

المجموعة التي تنقسم قصصها بين الدرامي والتاريخي والفلسفي والإجتماعي، يأخذنا فيها القبلاوي عبر رحلة كتابة لهذه النصوص دامت سبع سنوات، وهي حصيلة ساعات قليلة من عمر الكاتب انزوى فيها بنفسه ليحكي قصصاً لطالما كان الطب حائلا بينه وبينها. وقد شدتني في المجموعة بعض القصص التي يكفّن عالمها الغموض، والقصص التي لم أعتد على قرائتها كقصة 'ثامنهم'، والتي تعتبر مكملّة قصة 'أصحاب الكهف' التي نشرها الكاتب ضمنَ مجموعته القصصية الأولى 'إلى متى؟'، وكذلكَ قصة 'الإمبراطور' التاريخية، والتي أراها، كما يراها الكثيرين، مشروع رواية أكثر من مشروع قصة. وكذلكَ قصة 'حلم وردي' والتي لي رغبةً في الكتابة عنها أكثر من سواها.

يمكن وضع هذه القصة تحت خانة أدب الرحلات، يوميات أو فنتازيا. نرى الكاتب يعتمد فيها اعتماداً قوياً على اختزال اللحظة واللعب بعقارب الوقت، إذ أنه يبدأ القصة بالمشهد الأخير وينتقل بطريقة الفلاش باك لما قبل المشهد الأخير، ثم المشهد الذي كان يجب أن يكون المشهد الأول، وينهي قصته بمشهد أخير يجمّع فيه كل المشاهد التي سبقته، وكأنه مرآة انعكست فيها كل الذي يجب أن يقال.

أعتبر هذه الطريقة حديثة وتجريبية، ويجب أن نعترف بأن القبلاوي قد نجح في بناءها. فهذه القصة تحمل معانٍ ورموزا وحكايات تشدّ القارئ، وفي نفس الوقت كانت طريقة صياغتها أقرب إلى الحكاية منها إلى اليوميات كما ذكرنا. وفيها أيضاً، يكتب القبلاوي بأسلوب أخر غير الذي اعتدناه في معظم قصصه سواءاً التي بين غلاف مجموعته الأولى 'إلى متى؟' أو في هذه المجموعة 'وجه لا يعرف الحزن'. نراه يعتمد على بناء اللحظة وينسج من تلك الدقائق الصغيرة واقعاً مريراً باسلوب شاعري ورغبةً حميمة للبوح، ومن هذا الأسلوب نرى فيه الإنعطاف الكبير عن باقي قصص المجموعة، وكأنه يحاول إقناع القارئ بأن القصص في كتاب واحد يجب أن تكون بشكل أو بأخر مختلفة في السرد والأسلوب، خاصةً في الفكرة وطريقة تناولها.

أجواء القصة شاحبة، يبدأ القبلاوي القصة بمشهداً انعزالي، حيث بطل القصة وصديقه 'عزيز' الذي يرتدي نظاره مهشمة جالسين في مطار 'شارل ديجول' بباريس وهما منذ ثلاثة أيام في انتظار الطائرة التي ستعود بهما إلى طرابلس. يفسّر لنا القاص ذلك الأمر أنهما حين لحقا بالطائرة ووقفا أمام الضابط المسؤول عن الجوازات، منعهم من العودة بعد أن شاهد جوازات سفرهما الخضراء (جواز السفر الليبي)، فيبدأ بوصف الملل ونفاذ الفرنكات الفرنسية وهما لا يزالان في حجرة الإنتظار في انتظار الطائرة التي دون شك، ستكون كملاكِ رحمة. وفي هذا المشهد، يأخذنا الوصف الدقيق لساعات الإنتظار، فإحدى مميزات القصة أن الكاتب استطاع في كل قسم منها أن يوظّف أسلوباً ما يكون المسيطر على الأجواء السردية، فا في وصفه الدقيق في القسم الأول عن غرفة الجلوس وعن الناس الذين انتظروا لدقائق معدودة ثم تلاشوا، وهما (البطل وصديقه) وحدهما اللذين اعتادا على وجوه عمّال المطار والعمّال اعتادوا على وجودهما وغيرها من السرد السريع الذي يمكننا أن نلاحظ فيه عمق الوصف الممتزجة مع الشاعرية السردية المستوحاة من لحظاتٍ كئيبة وأجواءِ غائمة على النفس لنرى ذاك الحسد المنبعث من نفس البطل لهؤلاء الذين تشبثوا باللحظة ولم يتوقف بهم الزمن في غرفة الإنتظار، فينهي القسم الأول بشيءٍ من زفرةَ ملل قائلاً: 'الرحلة الأخيرة القادمة من أسبانيا انفض ركّابها ليذوبوا في ليل باريس الخريفي'.

أما في المشهد الثاني يعود بنا السارد إلى أيام باريس قبل الرحيل، المشهد في حجرة معتمة في الفندق، و (عزيز) يقلب محطات التلفاز دون أن يستخدم نظاراته. البطل يحكي لنا عن شياطين غريبة في هذه الغرفة، والقارئ بدوره يفكر أين هذه الشياطين وماهي في الأصل هذه الشياطين. فيكمل السارد وصفه للغرفة التي تشبه زنزانة معتمة، وفي هذا السطر تظهر لنا الشياطين حين تتقلص الغرفة لتلك الزنزانة التي يتوهمها البطل، فتدخل القصة بهذا إلى نوع من الفانتازيا والكوابيس المزعجة، التي يحاول فيها الكاتب أن يكتب عن عالمه المتخيل، وأن يجعلَ كما في أغلب قصص المجموعة، الخيال والفانتازيا جزء مهم في واقع عالمه السردي. وفكرة الشياطين في المشهد أضافت شخصيات أخرى ليست موجودة في المشهد واقعاً، ولكنها تتكون في العقل الباطن للقارئ، وربما هذه الطريقة في العرض هي التي أعطت ميزةً سردية لهذا المشهد. كذلكَ بعد حوار صغير بين البطل وصديقه (عزيز) نجد أن الشياطين تعود في أخر المشهد وبقوة، فيقول الراوي مغلقاً أبواب المشهد: 'لدي موعد إجباري مع شياطيني هذه الليلة'. وأي شياطين لا يعرفها غيركَ يا القبلاوي?

بعدَ وصف دقيق لملامح الـ 'سان ميشيل' في قلب باريس، ونعومة بداية الخريف، والأزقة التي على جوانبها محلات لبيع المشاوي، وحيث سيجلس الراوي وصديقه 'ماجد' الذي يودّ أن يكون غريبَ الأطوار، أشعر كقارئ أن هذا المشهد هو الأكثر واقعية، وجذاباً أكثر من المشهدان اللذان قبله والمشهد الذي سيكون بعده، من حيث تنسيق الحوار وادخال بعض اللقطات التي تجذب القارئ كالباريسية الحسناء التي: 'تتهادى من الطرف الأخر'. وكذلكَ نظريات 'ماجد' الغريبة حولَ الحياة، ومن هذه النظريات على سبيل المثال: 'الإخصاء الإجتماعي'، و'النظرية الوردية' التي مفادها أن: 'تستيقظ صباحاً، وبدلاً من أن ترى الأشياء والعالم من حولكَ بألوانها الحقيقة، تراها باللون الوردي وأن العالم أصبحَ وردياً وأن الناس أصبحوا ورديين، وأصبحوا يتصفون بنعومة وسكينة هذا اللون الجميل، وأن علاقتنا أصبحت وردية...'. هذه النظرية تسحب حواس الراوي ولكن لا نعرف إلى أين بالضبط. لعلّ 'النظرية الوردية' هي المثال الأنسبَ للعالم الذي لن يتحقق، أو الخلاص المقيّد. وإن تخيلنا العالم اليوم وردياً، فكيفَ هو مشهد الحرب مع هذا اللون؟ كيفَ سيكون مشهدَ ورديٌ لقنبلة تنفجر في سوق ما أو في مسجد أو كنيسة؟ كيف ستكون مشهد الدماء في العالم الوردي؟ لن تكون هناكَ دماء، أو على الأقل، لن نشعُرَ بأن هناك دماء. هذه النظرية التي انفجرت في جملتين من المشهد الثالث من القصة، تعود وبقوة في المشهد الأخير، والراوي في ميناء طرابلس حينَ يلتقي بأخيه. شعرَ الراوي باللون الوردي يحتل العالمَ ساعةَ كان مفتش الميناء يمسك رواية إنكليزية كانت في جيب الراوي بالمقلوب، و'راح يتصفح بلا مبالاة'. حتى المرارة التي كانت في حلق الراوي، شعرَ بأنها وردية. يقول الراوي في أخر أسطر القصة: ' أنظر إلى السماء، إلى البحر، إلى الطريق، إلى وجوه الناس، فأراها بلون وردي باهث، رائحة البحر وردية والشمس تلقي بحممها الوردية، حتى وجه أخي الذي اتى لاستقبالي بدا وردياً'.


----

سبقَ لي وأن نشرتُ هذا العرض في جريدة القدس العربي اللندنية في التاسع من سبتمبر 2008.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات