ثلاثية هافانا القذرة

ملك الواقعية القذرة يعرّي الأماكن برائحتهـــا
لا تكادُ تخلو مكتبة مثقف عربي بكتابين أو أكثر لكاتب من أمريكا اللاتينية، سواءً في الرواية أو القصة أو الشعر. فرواية "مائة عام من العزلة" لماركيز، صارت من أهم الروايات عندَ معظم الروائيين العرب، ويستشهد معظم المثقفين العرب بالأدباء اللاتينيين في معظم ما يكتبونه، وصارت قصائد "نيرودا" مفتاحَ الشعراء العرب نحوَ الحداثة وتغيير الأساليب في الكتابة الشعرية العربية، وأيضًا كانت قصص "خوان رولفو" و"بورخيس" من أهمّ القصص التي كُتبت والتي على كاتب القصّة أن يتّخذها منهجًا قبل البدء بالكتابة القصصية. فأدب أمريكا اللاتينية ثورة بحدّ ذاتها غيّرت الكثير في الأدب العالمي بشكلٍ عام، وأسّست الكثيرَ من المدارس الأدبية التي صارت عالمية.
وإن تمعنّا جيّدًا في ما هي الأسماء الجديدة في الأدب اللاتيني اليوم، فإنّنا نبقى معلّقينَ أمامَ هذا السؤال، وسيكونُ السؤال أصعب، حينَ نختارُ كوبا، كبلدٍ فيها أدباء ومثقّفين أحدثوا ثورات في كتاباتهم، إلاّ أنّنا لم نسمع عنهم في الأدب العربي بتاتاً، وذلكَ لتعلّق المترجمين بالروايات التي صارت نوعًا ما كلاسيكية، إلاّ أنّها أصبحت كذلكَ مفروضةً في ظلّ هيمنة "مائة عام من العزلة" و "بيدرو بارامو" وغيرها من تلكَ الروايات على المحيط الأدبي اللاتيني في الثقافة العربية.
والكاتب الكوبي "بيدرو خوان غويترييز" أحد الكتّاب الذينَ لم ينالوا حقّهم بعد في الثقافة العربية، رغمَ انتشارهِ في العالم عبرَ رواياتهِ التي تجاوزت العشرة، والتي من أهمّها "ثلاثية هافانا القذرة".
الروائي الكوبي من مواليد "ماتانزاس" (90 كيلو متر شرق هافانا)، وأنتقلَ لاحقًا مع عائلته إلى "بينار ديلريو". اشتغلَ وهو في الحادية عشرَ بائع مثلّجات وجرائد، وحينَ كبرَ في العمرِ انتقلَ للعمل ضمنَ فريق انقاذ على إحدى شواطئ المدينة، وبعدَ سنوات انتقلَ من عملهِ إلى عملٍ أخر كفلاح في إحدى الأراضي الخصبة، حتى تركَ العمل أخيرًا ليتفرّغ إلى حلمهِ في العمل الصحفي والإعلامي، لتكونَ فرصتهُ الأولى مذيعًا لإحدى البرامج المسموعة القصيرة في إذاعة محلّية تبثّ من هافانا. وبيدرو خوان شاعرٌ ورسّام أيضًا، نشرَ بعضًا من كتاباتهِ الشعرية في أولى مراحلهِ الأدبية، وأظنّ بأنّها الفترة التي يتحدّث عنها في روايته "ثلاثية هافانا"، أي عندما كانَ يبيعُ الكحولَ في سوق السوداء إبانَ الحصار السلطوي والقمع الإقتصادي في كوبا.
وقد نُشرَت هذه الرواية لأول مرّةٍ بالإسبانية في العام 1998، عبّر فيها عن ناس عرفهم وعاشرهم وكانوا حصيلة تجربته مع الناس في الحياة. يُمكن اختصار هذه الثلاثية، بأنّها كتاب الجوع والبحث عن المال والكشف عن التطوّرات الإجتماعية التي أنتجتها السياسة الكوبية في عهد كاسترو، وهي الرواية التي كانَ أبطالها من المهاجرين والمتلقين للحياة الروتينية، والباحثين عن المغامرة، وتجربة الكاتبِ فيها، تجربة تمرّد على الواقع والسعي للبقاء. وجاء أسلوبهُ فيها بما تسمّى في الأدب العربي بـ "السهل الممتنع"، معتمدًا فيها على تكثيف اللغة وإخضاعها للسيطرة. أمّا الوصف، فقد كانَ إمّا معدومًا، أو مقتصرًا على بعض التفاصيل المهمّة في المكان أو في الشخص الذي يتحدّثُ عنه.
قالَ بيدرو خوان غويترييز أنّه عندما رأى روايتهُ الشهيرة "ثلاثية هافانا القذرة" في مكتب ناشرهِ، وقد طبعت أخيرًا، شعرَ بحزنٍ يعتصره. فهذهِ الرواية الذاتية والتي تتحدّثُ عن تجربة الكاتب الكوبي أثناء إقامتهِ في العاصمة الكوبية هافانا، تعرّي الواقع السياسي تحتَ حكم كاسترو وتأثيرهِ الإجتماعي داخلَ المجتمع الكوبي. والأهمّ من ذلكَ، أنّها تعرّي كاتبها. فقد قال الروائي الكوبي، أنّهُ بهذهِ الرواية، وضعَ صورتهُ الحقيقية التي لا يعرفها قرائهُ عنه، وأنّهُ فضحَ نفسه فيها، وهذا كانَ خوفهُ الحقيقي من تجربة "الثلاثية"، لا سجونَ ومعتقلاتِ كاسترو.
رواية "ثلاثية هافانا القذرة، التي لاقت نجاحًا كبيرًا في الأوساط الثقافية العالمية، لم تتمّ ترجمتها إلى العربية بعد، وفي الصحافة الإنكليزية، احتفت بها الصحف والمجلاّت وكُتبَ الكثيرُ عنها، سواءً من قبل السياسيين أو الأدباء والنقّاد، لما تملكهُ هذهِ الرواية من قدرةٍ عالية على استيعاب كلّ الأحداث الإجتماعية في كوبا، وبالتحديد في هافانا، وكيفَ تفككَ المجتمع وتغيّر تدريجيًا حتى صارَ شبهَ منهار. إنّ أدب الواقعية القذرة التي يتميّز بها الروائي "بيدرو خوان غويترييز"، كانت قادرة على أن تشكّل هذه التناقضات والإسقاطات في روايته، وكذلكَ برودة النصّ وخلوّهُ من العواطف إلى درجة تراجيدية في كثيرٍ من المشاهد، خاصةً تلكَ التي تتحدّثُ عن الموت، أو عن الأعيادِ الدينية التي عادةً ما ينساها الناس، ولا يهتمونَ بها، أو حتى عن العلاقات العاطفية والجنسية. في الرواية أيضًا، إحياء لمدينة هافانا، وإعادة تنظيم لفوضى يومياتها، وتأريخ فترات ما من تحرّكاتها، وقد كتبَ الكثير عن الرواية قائلين أنّها كتابة ما لا يعرفه غير الكوبيين عن هذه الهافانا
والكاتب في روايته، مذيع في الراديو، استقالَ ليشتغل في السوق السوداء بائع كحول، ويسكن في غرفة فوقَ السطوح، ومن هناكَ تمتدّ الحكايات والفصول، وفي كلّ فصلٍ من الرواية، حكاية وشخصية، وهذا الأسلوب هو المعتمد أساسًا في كتابة السيرة الذاتية الروائية في معظم الآداب العالمية.
***
إنّ أولَ نقطةٌ سيكتشفها القارئ أثناء انتهائه من قراءة رواية، أنّ الكاتب يُجبر القرّاء في الرواية أن يستنشقوا كلّ أنواع الروائح الكريهة في المدينة، وسكّان المدينة. فالناقد "تيم آدامس" كتبَ عن الرواية في جريدة الغارديان قائلاً أنّ القارئ بالكاد يتجاوز الثلاثة صفحات حتى يرى الكاتب يعودُ إلى وصف الروائحَ الكريهة للأمكنة، سواءً الشوارع الفقيرة أو البيوت والمتاجر والحدائق والشوطئ. وقد تكونُ هذهِ اللمحة في وصف الأمكنة ليست سوى تذكرة للقارئ بفوضى المكان، أو صورةٌ واضحة لمعالم المكان.
ويمتازُ الأسلوبُ الأدبي في كتابة الرواية بما يُعرفُ في اللغة العربية بالسهل الممتنع. وكذلكَ بالمشاهد السريعة والإختصار الشديد، فتصيرُ الكثير من الفصول مقلّصة على القصة التي تدور حولها فكرة الفصل، لتصيرَ رواية منها إلى قصص قصيرة. ويستمتعُ الروائي بوصف المشاهد البشعة، كمشهد انتحار العجوز جاره من فوق السطوح. يعبّر الكاتب عن ذاكَ المشهد التراجيدي:
"في صباح يوم الأحد، الخامس والعشرين من ديسمبر، صعدَ أنجيلو إلى سطح العمارة. كان رجلاً في الستين من عمره، وكانَ يسكن في الطابق الرابع. طلبَ منّي بأدب واحترام السماحَ له بالتسلّق إلى السطح للتأكد من سلامة خزّانات المياه لأنّ هناكَ مياه تقطّر في بيته منذ أيام - سأكتشفُ لاحقًا أنني خلطتُ بين الأدب والحزن - سمحتُ له بالصعود إلى السطح، وما هي إلاّ ثوانٍ حتى رمى بنفسه على طول مائة وخمسون قدمٍ إلى الشارع. أول من تقدما باتجاه الجسد المتكوّم على الاسمنت كانا كلبان شاردان. أكلا جزءًا من الدماغ الساخن الغارق في دمه. كانَ دونَ شكٍ إفطارًا لذيذًا!"(1)
وفي وصفهِ لعدم اهتمامِ الشباب بالأعياد الدينية، يكونُ الوصفُ باردًا جدًا، كأنّهُ لا يهمّ أو موضوع ثانوي، يكتب:
"لا أحدَ يتذكرُ بأنه الكريسمس. لا يعرف الشباب شيئًا عنه. كل ما يعرفونه عن يوم الكريسمس ومساء الكريسمس، كانَ ممّا سمعوه من العجائز والكهلة"(2).
كما أنّ للجنسَ مساحةٌ كبيرة في الرواية، من خلالِ عشيقاتٍ متعددات، أو في حكايات المومسات وعاملات المقاهي والحانات والسائحات والصحفيات. ويصف النقاد والصحفيين في الجرائد الإنكليزية هذهِ الرواية بأنّها رواية جنسية. هواجسها وحكاياتها جنسية، سواءً الجنس الذي يتبعُ الرومانسية أو السادية أو حتى من العلاقات الباردة التي لا معنى لها. وهذا ما يتّضحُ من خلال المشاهد المتعدّدة في كلٍ من الأجزاء الثلاثة.
***
تنقسمُ شخصيات الرواية إلى عدّة آيديولوجيات وأشكال، تظهرُ تعبَ الكاتب في تخزيلها بشكلٍ منسجم في كتاب واحد. فتناقض الشخصيات في الرواية وقدرة الكاتب على التعبير عنها بشكلٍ بديهي بعيد عن العواطف جعلَ الشخصيات حيّة. فقدرة الكاتب على الوصفِ تارةً، وعدم وصفهِ لبعض الأشياء المهمّة لإكتمال المشاهد أو الشخصيات تارةً أخرى، تجعلُ القارئ الحدق يكتشفُ ندرة أسلوبِ هكذا نوع من الأدباء في الأدب العالمي بشكل عام. هناكَ الجيران في العمارة، الذينَ يمرّون بحياةٍ غريبة الأطوار، والبقّالة العجوز المتديّنة والتي تأكلها حسرة عدم تذكّر شباب هافانا للأعياد المسيحية، وأصدقائه في سوق السوداء، الغير مبالين سوى بكمّ الدولارات التي سيجمعونها، أو شريكهُ في السكن ذو الرائحة المتعفّنة والعاشق للأبواب وصناعة الأبواب. كما أنّ هناكَ رسائل أصدقائه المهاجرين إلى دولٍ بعيدة. أمّا قصّة رسائل القرّاء فهيَ الفاتحة للجزء الأول من الثلاثية، والتي يستحضرُ فيها الكاتب أيامًا عاشها في لندن بينَ المراقص والكلوبات، قاضيًأ معظمَ وقتهُ في العزف على آلة الدرامز برفقة صديقه الذي يرسلُ له بطاقة بريدية في أول مشهد من الرواية، يقولُ له فيها: "الأوغاد سرقوا درّاجتي".
إنّ العوالم الروائية في "ثلاثية هافانا القذرة" غنيّة جدًا. سواءً أكانت بالشخصيات كما ذكرنا أو بالفلسفات الوجودية للكاتب وما حولهُ والأماكن. المشاهد في الرواية تختزلُ تجاربَ أشخاص من رؤية واقعية جدًا لا تظهرُ فيها أيّ رؤية للكاتب أو رأي خاص.
ثلاثية هافانا القذرة عملٌ يستحقُ القراءة والإحتفاء بهِ، وهيَ (أي الرواية) مدرسةً أدبيّة جديدة، المعلّم فيها هو "بيدرو خوان غويترييز"، أو كما يحبّ مثقفي أمريكا اللاتينية منادته بـ ملك الواقعية القذرة.
1 – مقطع من الجزء الأول من ثلاثية هافانا القذرة / كريسمس 94 / ترجمة: محمد مصراتي.
2 – ذات المصدر.
تعليقات