لون أسود



مشهد1
 
زخات المطر تتحرك برقة على زجاج النافذة، لتسحر حواسي وأنا أراقب تحرك قطرة تتداخل مع قطرات أخرى وتكمل طريقها نحو أسفل الزجاج. كوب النسكافيه الساخن هو الأخر بالقرب من النافذة، بخاره المتصاعد يكون دائرة ضبابية على الزجاج، أضع اصبعي عليه وأكتب الأحرف الأولى من اسمينا وسط لهيب قلب، ومن ثم أتأمله وأضحك، أرفع الكوب وأرشف منه قليلاً وصوت الرعد يشعرني ببرد الغرفة لأرى السرير في الجهة المقابلة جنة تنتظر قدومي. أعدت عيناي للمطر خارج الغرفة بعد أن شعرت بخوف من الفراش الأبيض، تذكرت نصاً كتبته الكاتبة اللبنانية 'لنا عبد الرحمن' عن الفراش الأبيض. كان يذكرها بكفن، فخفت أن أنام تحت اللون الأبيض لأنهض بين يدا الموت.

فلاش باك 1
 
حقاً لا أدري أي رغبة هذه التي تدفعني لعشقكِ، لعشق الأسود في حياتي، وفتيل البعد بيننا، أنا الهارب من قطعة الأرض التي سميت سهواً 'وطناً'، وأنتِ عاشقة التراب المتعطش للدماء، في هذا الذي بيننا أرى السواد الذي أعشقه، غرفتي المظلمة والتي تحجب أغصان شجرة مقابلة للنافذة ضوء القمر ليتخلله... الضوء الخافت المنعكس على نهر التايمز كل ليلة حين أخرج من سوهو وأسير إلى أن أصل هناك لأراقب عتمة النهر المختلطة بضوء خافت، وضجيج بعيد يصلني عثرات صداً أناس منسيين... البار القريب من الغرفة حيث أمضي الليل في عتمة أمام كأس النبيذ وبقعة ضوءٍ تسقط على منصة البار البعيد عنّي، هناك العاملة تنظم الكؤوس ببط وحذر شديدين، لحظتها وأنا أحتسي الكأس تلوَ الأخر أتذكركِ، تجتاحني الرغبة فيكِ، تختلط المشاعر فتلد اكتئاباً، ابتسم لحظة وأغمض عينيّ لوهلة، استلذ برؤية البار المعتم يعيش في صمت وسكون، أشعر بلوثة الخمرة تمتد في رأسي، أخرج قطعة نقدية أضعها على الطاولة وأختفي وسط الضباب حتى اصل غرفتي الكاحلة. هناكَ أرمي الجاكيت على الأرض وأمسك صحيفة أرى مواقف 'حماس' سرعان ما أرميها ضاحكاً، أفتح التلفاز لأرى ردود 'فتح' سرعان ما أقفله مقهقهاً، ومن ثم أقفل الأضواء. يتمدد جسدي على السرير في العتمة، الغرفة سوداء، أستمتع برؤيتها هذه المرة كذلك، تشعرني بوجودكِ جانبي، الضوء يوقظني من أوهامي ويشعرني بالوحدة، بينما العتمة تبعدني عن الحياة وتخلقكِ بجانبي، تنسيني الموت وتذكرني بكِ، تسيل الدمع قطرات نهراً مالحاً على خدي، مالحة كما هي أحلامنا، تسيل بصمت كما هي فجيعتنا وتسقط على وسادة دافئة كما هي قصتنا. ألتفت يميناً فأرى صورة 'حنظلة' الصغير مرسومة على الحائط، أبتسم.

 
فلاش باك 2
 
قلتِ لي في رسالة وصلتني ذاتَ صباحٍ رمضاني باكر، أنكِ تعرفين حنظلة، ترينه كثيراً على الجدران والحيطان في مدينتكِ، إلاّ أنكِ لا تعرفين أن من رسمه كان 'ناجي العلي'. أرى صورة حنظلة أمامي على الحائط، يمد لي ظهره، لا يرضى أن ينظر نحوي، كأنه يسخر منّي، ونظراتي له كأنني أتوسله فيها أن يلتفت لي لأتحدث معه ولنتشارك أحزاننا، بقعة دمٍ واحدة.
 
أذكر أنني أول مرة دخلت فيها هذه الغرفة، كنت على يقينٍ أنني سأرفض الحياة فيها حتى ليومٍ واحد فقط، كانَ ذلكَ بعد أن شاهدت رداءة الشارع، وقذارة الممر الذي يؤدي إليها. وحينَ دخلت برفقة صاحب الغرفة، حلقت ببصري في الحيطان، وعلى حين غرّة، فاجئتني صورة 'حنظلة' الصغيرة المرسومة بأحمر الشفاه، وكأنه ضرب لي موعداً هنا، بمظهره الإستفزازي، وشعيرات رأسه القليلة، ولباسه المهتري. وضعت حقائبي وتأملت الصورة من بعيد وعيناي جاحظتان، كأنني كنت خائف منها، لاحظ صاحب الغرفة ذلكَ فسارع نحوها وهو يعدني بمسحها إن كانت مزعجة، ابتسمت له وأنا أقول أن هذا الشخص هو وحده السبب في بقائي في هذه الغرفة، ومن ثم سألته عن الذي رسمها على هذا الحائط، فقال لي أنها فتاة فلسطينية سكنت هنا لأسبوع، ثم اختفت بعد أن أرسلت له الأجرة ورسالة شكر على الإستضافة، ثم أضاف لي أنها فتاة جميلة جداً، وأنها سحرته، ولولا أن في عينيها صعوبة وتمرد وابتسامة لا تعرف وجهها، لحاول الإقتراب منها.
 
أتذكر أنني في ذاكَ المساء بقيت صامتاً وأنا أتنقل في الغرفة بتوثر. علقت لوحة على الحائط خلف السرير، لوحة كتبت عليها بالأسود العريض 'عائد إلى حيفا، نعم، معكَ غسان'،ومن ثم نمت على السرير وأنا أستنشق عبقَ الوسادة التي كانت تحمل رائحة عطر نسائي فاخر وبضع شعيراتٍ بنية، قلت لنفسي لعلها وضعت رأسها عليها، نامت هنا وأحلامها تصارع الحيطان، تحلم بأمال بحنظلة، حلم صعب المنال.

مشهد 2
 
الحجرة لا تزال معتمة، المطر لا يزال ينهمر بقوة، وبخار الكابتشينو اختفى، مسكت الكوب بين يداي، فوجدته بارداً، أعدته لمكانه وأنا أراقب جسدي الممدد على الفراش بتكاسل. نهضت بصعوبة لأشعل شمعة على الطاولة في زاوية الغرفة. أخرجت رسالة كتبتها لي ذاتَ مرة، تحمل عنوان 'هلوسات' ، علقتها بجانب صورة حنظلة، وتأملتها حتى شعرت بسكرات النوم تغمض لي عيناي على طبقٍ من حزن.

خارج النص
 
في الصباح الباكر نهضت وكلّي إلهام للكتابة. كتبت خارج النص:
 
'في الحقيقة، لا يهمني ما سيقوله النقاد وهم يقراءون هذا النص سيقولون أنني تعمدت المباشرة في الطرح وأن ما سأكتبه هنا ليس بقصة قصيرة بقدر ما هي خاطرة أو مقالة، إلاّ أنني لن أعرهم اهتماماً عندما سيتحدثون عن هذا النص، لأنني لم أكتبه لأسمع نقداً بقدر ما كتبته لأعرّي هواجسي نحوكِ، ولهذا أيضاً سأنشره، لأشعر أنكِ تقرائينني كما أنا، وأنني لا أكتب ما أكتبه هنا إلاّ لكِ وحدكِ تعبيراً عن لحظات اختزلتها من ساعات ليل لا ينتهي، إنني لا أكتب ثورة حب لكِ، بل أنني أكتب الخيبات المتلاحقة لأنني أعشق رؤية الهزائم المتلاحقة، أعيش في رحم الهزيمة، وبين ثورات مزيفة تقودني للمجهول. إنني لا أهوى السياسة، قلت لكِ ذلكَ ذاتَ مرة، ولكن السياسة تلاحقني، وتلاحقكِ. لهذا نضطر لمغادرة الأوطان، في منفى اختياري، لأنه لا وجود لما يسمى بإنتماء، إنها كذبة دوّنها الروائيون والكتّاب والصحافيين والقوادين والمرتزقة لسجننا داخل مربع خارجه يسمى الخيانة. كنت دائماً أقول وأنا أسرع خطواتي في الشارع العام والبرد ينخر عظامي أنني لا أشعر بإنتماء لقطعة ارضٍ بقدر إنتمائي للّغة، حتى ولو كانت قواعد النحو فيها تحتاج لترميم. إنني لا أنتمي لقطعة أرض عبدة لسيدها وخاضعةً لقوانين من يحكمها، أو لأرضٍ كجني المصباح من في يده يتحكم فيها، بل إلى لغة تفرض سيطرتها على من نخرَ عظامه في البلاد وفرض عليها سيطرته. حتى أنتِ، لا تنتمين لبلاد بقدر ما تنتمين للغتك. إننا ننتمي للغة ننطق بها ونكتب بها ونخاطب بعضنا بها. لهذا أحب اللون الأسود، أشعر فيه بالإختلاف!'.

*
 
تركت القلم ووقفت من على الكرسي عائداً إلى السرير مرة أخرى، لأرمي نفسي بقوة وأمدد كل جسدي متأملاً السقف الأبيض، إلاّ أنني لم أنم.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التاريخ السري: مقتطف من مقال طويل

أحلام ومؤخرة الحمار

معمّر مات