على طاولة بلاستيكية في المقهى جلست طارقاً أصابعي على الطاولة بهدوء، مراقباً العم "حسن" من النافذة وهو يفرش بضاعته في السوق، والتجاعيد كالتي على جبينه راقده أيضاً على فتحات عينيه... بينما الحاجة "عويشة" ماسكة طرف ردائها بأسنانها وهي تفرش السجادة العتيقة بجانب الحائط ومن ثم وضعت عليها أكياس "الوشق" الصغيرة، وعلب "البخور" المستورد والعلكة الرخيصة، وفي الطرف الأخر من الشارع كان الشيخ "حامد" يتأكد من سلامة دراجته قبل أن يركبها ويسير إلى عمله في حراسة كلية طب الأسنان، ويمر بجانبه "أحمد" بائع السجائر المنفردة حاملاً على كتفه حقيبة منتفخة، وواضعاً على رأسه قطعة خشبٍ مسطحة متوازنة على يداه اللتان تمسكا طرفاها.
الشمس تضرب بأشعتها حائط عمارة مصفرة، عليها صورة إعلان قديم لصابون غسيل أقفلت شركته منذ عشر سنوات، بينما صوت "فوزي المزداوي" من مسجّل المقهى يضرب صداه في الشارع بأكمله... كنت لحظتها شارداً في عينا النادلة التونسية التي تضع فنجانَ القهوة "الناقصة" على الطاولة برفق وابتسامتها لا تفارق وجهها القمحي، حاجباها الممسوحان بالقلم الأسود فوق عيناها الصارختين، يبدوان كسيفان حادان يقطر منهما دماً أسود.
شكرتها، وأخرجتُ سيجارة من جيب سترتي ووضعتها بين شفاهي وأنا أطلب منها قداحة، اتسعت ابتسمتها وذهبت للحظات ثم عادت لي بقدّاحة برتقالية وضعتها على الطاولة، أشعلت سيجارتي و أخرجت من جيب سترتي قلم وورقة أفرشتها على الطاولة وكتبت: "ما أجمل الحرية، أتعرف يا صديقي أنني أشعر بالحرية الأن، آهٍ كم كنت أنتظر هذه اللحظة، حتى أنني إلتقيت أخيراً بإمرأة كالتي كنت أحكي لكَ عنها، إمرأة لها عينا ذئبٍ كما كنت أتمنى... لم أجد فتاة لها عينا القط، تعرفني لا أحب عينا القط... عينا الذئاب أجمل على كل حال".
رفعت رأسي ورحت أقلب ناظري بين النادلة التي تسير بملابس ضيقة، وبين غاسل الصحون الذي أقفل المسجّل بغضب حينَ سمع أغنية لـ "محمد حسن".
وضعت عينيّ في الورقة: "أتعرف كم أشعر بسعادة الأن؟ من كانَ يتوقع أن أعود للجلوس هنا وأن أكتب وأنا حر مرة أخرى أشرب فنجانَ "قهوة ناقصة" كما أحبها من بين يدي إمرأة... أهٍ لو استنشقت رائحة عبقها الأنثوي... ستكون أجمل لو أنها لي، من قال، ربما ستكون كذلك".
حينَ سمعت صرخات نساء مختلطة بضوضاء أصوات الرجال شعرت أنني مضطر لأقف وأقفز من نافذة المقهى... إلتفتّ إلى السوق لأجد أكداس من الصناديق والبضاعات في الشارع ترمى يميناً وشمالاً بينما سيارات الشرطة الزرقاء مصطفة على طول الطريق... المشهد حينها عادَ لي بصورة أوضح... العم "حسن" إختفى تماماً بينما بضاعته ملقاة على الأرض تدعس عليها أحذية الهاربين والشرطة... الحاجة "عويشة" تدسّ أكياس الوشق في فستانها ليملأ صدرها النحيف، وشباب كانوا يبيعون الملابس، انتقلت بضائعهم من الصناديق ومن على الطاولات في السوق، إلى سيارات الشرطة لتصديرهم. قبضت على الورقة التي كانت على الطاولة حين رأيت أحد الشباب مرمياً وهو يصرخ وعيناه دامعتان لا يريد أن يعطي بضاعته، كانت اللكمات توجّه له من كل مكان وهو متمسّك بصندوقه، وفمه ينزف. دمه الذي ينزف من فمه كان ذاكرتي التي ثقلت في رأسي فأحسست بدوار ساعتها لأسند ظهري على الكرسي بحذر خوفاً من أن أتقيأ على الطاولة... شعرت وأنا أرى ذلكَ الشاب بنفسي، حينَ ارتميت على الأرض والأقدام تركلني بقوة والعصي تضرب رأسي وأنا أتحسس بيديّ الداميتين كل جسدي عن مكان الجرح فلا أجده. يومها، كنت أحمل بين يديّ صندوقاً في الساحة حينَ حاصروا السوق وأخذوني معهم بعد رقصات الضرب والركل، ووضعوني في السيارة بين أكداس من البشر فوق بعضنا البعض، وعلى روائح الأجساد النثنة المختلطة برائحة أفواه وروائح سجائر وعلب الطعام التي صدرت، وجدت نفسي أتحسس على نزيف في مؤخرة رأسي، ثم رغبة في النوم.
حينَ فتحت عينيّ ورفعت رأسي، كان الصداع يلف بي، ولحظة عاد وعيي، كنت قد وجدت نفسي على كرسي أمام مكتب وضع عليه أكياس من الحشيش.
- "تتاجر في الحشيش يا ابن الهاملة" صفعني الضابط بقوة أوقعتني من على الكرسي.
عادَ خلفَ مكتبه وهو يطلب من مساعده فتحَ محضر، زحفت إليه ثم جلست على ركبتيّ متوسلاً... قلت له بأنَ هذه الأشياء ليست ملكي، وأنني في حياتي لم أتعامل حتى مع باعة السجائر، فكيف أتاجر بالحشيش... أقسمت له بسنواتي العشرون أنني لا أملك ثمن قطعة حشيش لأملك ثمن أكياس كهذه منها، وما كان في الصندوق ليست سوى ملابس اشتريتهم من بائع يفرش بضاعته في "سوق الجمعة".
أمسك الضابط الأكياس الصغار بينَ يديه وهو يتأمل بكائي واحمرار وجهي، رفع ساقه بقوة فأنطرحت على الأرض... رمى الأكياس مرة أخرى على الطاولة وهمس لمساعده. ومن ثمَ نظر لي وأردف قائلاً: "مضطرين أن نحجزك عندنا كم يوم يا صديقي البرئ" وسمعت من بعد ذلكَ ضحكاته كترنيم موت.
قلبت بصري لأجد النادلة تخرج من باب المقهى، وقفت واتجهت للعامل وراء صندوق الحسابات وأعطيته خمسون قرشاً ثمن القهوة وأعدت له القدّاحة.
"إلى أين أذهب؟" سألت نفسي وأنا أسير خارج المقهى، صورة الفتى الذي كان يحمل صندوقاً بين ذراعيه تزعجني.
- "أتمنى أن لا يسجن عشرون سنة هو الأخر" أضفت قائلاً في نفسي وأنا أرى الباعة الذينَ فرّوا يرجعون بضائعهم بعد اختفاء سيارات الشرطة، والحاجة "عويشة" تفرغ ما في فستانها من "وشق" وبخور بجانب الحائط ، والعم "حسن" يعيد هو الأخر وضع ما عنده مبتسماً، ويلمّ ما تبقى من بضاعته التي رميت هنا وهناك في السوق، بحذر.
تعليقات